دليلك لمعرفة من يحكم مصر

يسعى روبرت سبرنجورج في كتابه “مصر” لإجابة سؤال بسيط: من يحكم مصر
Picture of بلال دردير

بلال دردير

مصر والصين وإيران ثلاثة امبراطوريات من العهد القديم تمثلهن ثلاثة دول قومية حديثة ذات سيادة على نفس الحيز الجغرافي منذ القدم. من بين الثلاثة، تقف مصر كحالة خاصة كنتاج لخصوصيتها الجغرافية الفريدة التي تركت ميراثًا من الهوية القومية والولاء السياسي لمؤسسات الحكم والإدارة. 

هكذا يستهل روبرت سبرنجورج كتابه “مصر” الذى يسعي في المقام الأول لإجابة سؤال بسيط: من يحكم مصر؟

ما ورثته جمهورية الضباط من الملكية كان جديرًا بأن يجعل مصر محل حسد دول العالم الثالث، اقتصاد متنوع وقوي، حيث كان الجنيه المصري أكثر قيمة من مثيله الاسترليني، وكانت أرباح قطاع الزراعة كافية لتمويل القطاع الصناعي الناشئ المتنامي، والقطاع المالي كان يضم مجموعة من أفضل بنوك أوروبا جنبًا إلى جنب مع عدد من البنوك المصرية؛ ذلك بالإضافة إلى بورصة مصرية نشطة وحيوية.
وكانت البنية التحتية في مصرتضم أول شبكة سكة حديد في أفريقيا وآسيا، أما شبكة الري كانت واحدة من الأفضل في العالم، بجانب شبكة ترام ومياه وصرف صحي لا بأس بها، ومراكز تجارية حيوية تقارن بنظرائها في جنوب أوروبا، بالإضافة إلى قناة السويس التي تعد واحدة من أهم الممرات المائية آنذاك، ومراكز تعليمية كجامعة القاهرة التي كانت على مستوى أعلى من كثير من جامعات أوروبا. 

يشرح الكاتب بعد ذلك كيف أهدرت جمهورية الضباط هذا الميراث وكيف اتضح ذلك مع احتدام المنافسة العالمية خاصة بعد أن تحررت أغلب دول العالم الثالث من أَنْيَار المُستعمرين في ستينيات القرن الماضي. يستشهد  سبرنجورج بقيمة الجنيه المصري كأداة لإيضاح الانحدار. حيث أنه في عام 1960 كان الجنيه المصري الواحد يساوي ثلاثة دولارات، وفي عام 1990 ثلاثون سنت، ثم في عام 2016 ستة سنت فقطَ! 

الدولة العميقة وسيطرة الجيش

اختار الكاتب مصطلح “الدولة العميقة” للإشارة للمؤسسات الحاكمة لدولة مصر، وهي مؤسسات (الرئاسة، والجيش، والأجهزة الأمنية الاستخباراتية). على مدار سبعة عقود، حكمت وتحكمت تلك المؤسسات بشكل مطلق في الموارد والمقدرات الاقتصادية للدولة المصرية، حيث شكلوا وصاغوا نظام اقتصادي مغلق يقفون أمامه كحراس بوابة. 

فبنظرة تحليلة سريعة على الواقع على الذي تعيشه مصر، يرى سبرنجورج أن الجيش يحاول بشكل مستمر اختراق الأجهزة التنفيذية بطريقة مباشرة للتحكم فيها، هذا يحدث بإسناد مناصب هامة ومركزية لجنرالاته المتقاعدين.  يوضح الكاتب كيف أن أغلب حكام المحافظات من الجيش وكيف أن مؤسسة الرئاسة أسندت مهمة الإشراف على حكام المحافظات إلى وزارة الداخلية وذلك حتى لا تسمح لمؤسسة الرئاسة بالاستفراد بالحكم المحلي. 

يشرح الكاتب أيضًا استغلال عناصر من الأجهزة الاستخبارتية مقتضيات عملهم لاختراق الجهاز التنفيذي بما يسمح لهم بالسيطرة أو التأثير وذلك لمنافع اقتصادية شخصية وكيف اتجه العديد إلى العمل بالقطاع الخاص مستغلين شبكة علاقتهم وما اكتنزوه من أسرار. يقص الكاتب واقعة طريفة حيث اشتكى حبيب العادلي في عام 2010 بشكل شخصي إلى سفير أجنبي أنه يلاقي صعوبة في اقناع مرؤوسيه بالبقاء في وظائفهم وعدم الاتجاه إلى القطاع الخاص.

فأما عن القضاء فعلاقته بالدولة العميقة ليست كما الجهاز التنفيذي، حيث تحتاج الدولة العميقة لإفراد مساحة من الاستقلال للقضاة وذلك لإضفاء شئ من الشرعية على النظام. بالرغم من ذلك فقد شهدت علاقة القضاء بالدولة العميقة فترات من التوتر احتدم فيها الصراع ما بين نادي القضاة ومؤسسة الرئاسة كما حدث فيما يُسمي بمذبحة القضاء في عام 1969. شهدت فترة حكم الاخوان مستويات غير مسبوقة من التفاهم والتقارب ما بين القضاة والجيش وقد اتضح ذلك حين سمحت الدولة العميقة للقاضي عدلي منصور بالجلوس على كرسي الرئاسة لما يقارب العام وقد رد القضاة الجميل حيث بطشوا بالاخوان المسلمين والمعارضة في المحاكمات التي تلت انقلاب يوليو 2013. 

تبخّر استقلال البرلمان
طبيعة الجهاز التشريعي أو البرلمان المصري حتمت على الدولة العميقة إفراد مساحة من الاستقلالية له أيضًا. تلك الاستقلالية قد تكون لأسباب خارجية كما حدث في الانتخابات التشريعية لعام 2005 حيث ضغطت واشنطن على القاهرة للسماح بانتخابات حرة أو قد يكون لأسباب داخلية كما حدث في أوائل فترة حكم الرئيس السادات حين لعب سيد مرعي دورًا بارزًا في الساحة السياسية المصرية كرئيس البرلمان المصري.

الاستقلالية المحدودة للبرلمان المصري اختفت تمامًا منذ أن تولى الرئيس السيسي حكم مصر، حيث صار جليًا الدور الذي تلعبه الأجهزة الاستخباراتية في فرز واختيار أعضاء البرلمان المصري وقد نتج عن ذلك اقتصار الأصوات المعارضة المستقلة على عدد لا يتخطى أصابع اليد الواحدة.

يختتم الكاتب بإقرار أن مهمة انتشال مصر من وضعها الحالي تزداد صعوبة كل يوم فعلى مدار ثلاثة أجيال من الزمن المفقود تغيرت أنماط النمو الاقتصادي وبات من غير الممكن أن تتبع مصر النمط الأسيوي في الاعتماد على العمالة الرخيصة لإحداث النقلة من اقتصاد فقير إلى اقتصاد طبقة متوسطة. الصورة الاقتصادية لمصر والمصريين تزداد قتامة فما كان ممكناً من سبعين سنة لم يعد كذلك.  

لعل أكثر ما يثير الانتباه في الكتاب هو عبثية محاولات النظام المصري تحسين صورته أمام المجتمع الغربي والدولي بمواكب وحملات لتنشيط السياحة بأسعار باهظة الثمن، بينما يقضي كتاب ذا طابع أكاديمي كهذا على كل محاولات التجميل، لا سيما أن القارئ الأمريكي أو الأوروبي على بُعد ضغطة زر لشراء الكتاب بـعشرين يورو فقط، وهي بلا شك في متناول المعنيين بالشأن المصري من العاملين في المنظمات الدولية والحكومات الأجنبية.

بلال دردير
صحفي مصري

Search