قرب منتصف الليل، ودّع صابر محمد، 15 عامًا، أسرته وغادر منزله في قرية بني هلال بمحافظة الشرقية، حاملًا حقيبة صغيرة تحتوي على بعض الطعام والملابس، آملًا في الهروب من الفقر. انضم إلى 17 طفلًا آخر من قريته، وكلهم يحملون حلم الوصول إلى إيطاليا، برفقة سمسار هجرة غير نظامية تعرفوا عليه عبر أحد مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أقنعهم بأنهم سيعودون بعد سنوات حاملين اليوروهات لبناء منازل وشراء سيارات لعائلاتهم.
في تلك الأثناء، ودّع كيرلس شنودة، البالغ من العمر 14 عامًا، أسرته وغادر بلدته في محافظة أسيوط، لينضم إلى مجموعة من المراهقين والشباب تتراوح أعمارهم بين 12 و22 عامًا. تحركت المجموعة سيرًا على الأقدام عبر طريق جبلي وعر لمسافة تقارب 50 كيلومترًا دون طعام، حتى وصلوا إلى نقطة الالتقاء مع سمسار الهجرة. بعدها، تنقلوا من سيارة إلى أخرى في طريقهم إلى مدينة طبرق الليبية.
صعد صابر ورفاقه على متن سيارة ميكروباص، في رحلة استغرقت نحو 11 ساعة للوصول إلى الحدود الليبية. عند نقاط التفتيش، سمع الأطفال حديث السائق مع رجال التفتيش حول رشوة للسماح للسيارة بالمرور. فور وصولهم إلى مدينة طبرق الليبية، احتجزهم مسلحون في مخازن لمدة ثلاثة أشهر، حيث عانوا من نقص الطعام وشربوا ماء غير صالح، وسط غياب تام للنظافة، ووجدوا أنفسهم مكدسين مع أطفال آخرين من سوريا وفلسطين ودول إفريقية.
مثل غيره من الأطفال، دفع والد كيرلس مبلغًا للسمسار ليأخذه إلى إيطاليا، على أمل تحسين الظروف الاقتصادية للأسرة. ولكن بدلًا من الوصول إلى وجهتهم، وجد كيرلس ورفاقه أنفسهم رهائن في أيدي جماعات مسلحة في ليبيا، حيث احتُجزوا في مخزن بمدينة بنغازي لنحو أسبوعين في ظروف قاسية. بعد ذلك، نُقلوا إلى مدينة طبرق استعدادًا لإرسالهم في قوارب نحو إيطاليا عبر البحر المتوسط.
كان الأطفال يشعرون بالخوف من المسلحين واحتمالية الغرق في البحر، خاصةً أن معظمهم لا يجيدون السباحة. وفي أحد الأيام، سمعوا حديث المسلحين عن مخططات لبيع بعضهم لتجار الأعضاء البشرية، مما أثار فيهم مزيدًا من الخوف. قبل تنفيذ هذه المخططات، عثرت عليهم السلطات الليبية وألقت القبض عليهم، حيث تم احتجازهم في السجن لمدة شهر تقريبًا، حيث واجهوا الجوع وسوء المعاملة، قبل أن يُرحَّلوا إلى مصر.
بحسب شهادات الأطفال وذويهم التي حصلت عليها زاوية ثالثة، لم يكن الخوف من الموت أو السجن هو ما يشغل عقول الأطفال فحسب، بل كان القلق الأكبر حول مصير عائلاتهم، بعد أن اقترض آباؤهم مبالغ مالية كبيرة بفائدة تصل إلى 30%، ووقعوا على إيصالات أمانة مؤرخة، لدفع ما بين 130 و150 ألف جنيه للسماسرة، على أمل أن يعمل أبناؤهم في إيطاليا ويسددوا الدين. لم يدركوا حينها أنهم وقعوا ضحية احتيال، وأن أبناءهم سيعودون إلى مصر بعد أن قضوا فترة احتجاز وسجن في ليبيا.
وكانت السلطات الليبية قد ألقت القبض، في يوليو الماضي، على مئات المهاجرين غير النظاميين الذين حاولوا السفر إلى إيطاليا عبر السواحل الليبية، وبينهم 25 طفلًا مصريًا لا تتجاوز أعمارهم بين 11 و17 عامًا، كانوا في مخزن إيواء بمدينة طبرق، غالبيتهم من قرية واحدة بمحافظة الشرقية شمال مصر.
وبحسب تقرير للجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر، فإن 58% من المهاجرين غير النظاميين المصريين، هم أطفال دون الـ18 عامًا.
نوصي للقراءة: من الاحتراق الوظيفي إلى الهجرة.. لماذا يترك الأطباء النفسيون مصر؟
تكاليف الهجرة غير النظامية
يلجأ غالبية المهاجرين غير النظاميين إلى التنقل عبر الحدود الصحراوية الليبية، التي يصعب السيطرة على حدودها البرية غير المأهولة بالسكان، ويسلكون أحد طريقين، إما الطيران من مصر إلى ليبيا، ومن ثم سواحلها متجهين إلى إيطاليا أو إسبانيا، وهو الطريق الأعلى تكلفة والأقل شيوعًا، أو عن طريق مدينة مرسى مطروح، والتحرك عبر الصحراء الغربية إلى الأراضي الليبية، ومنها إلى البحر المتوسط، وتبلغ تكلفة سفر الفرد الواحد، إلى إيطاليا بشكل غير شرعي، على متن مركب كبير نحو 100 ألف جنيه مصري، بحسب ما علمت زاوية ثالثة من مختار، أحد سماسرة الهجرة الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي في مصر.
مختار، الذي يروج لرحلاته منذ سنوات عبر منصات مثل تيك توك وفيسبوك، يقول إن الرحلة المقبلة ستنطلق من مصر إلى ليبيا في بداية الشهر القادم، حيث يسدد المهاجر مبلغ 50 ألف جنيه قبل السفر، ومبلغًا مماثلًا بعد الوصول إلى الأراضي الإيطالية. وأشار مختار إلى أن ضمان سلامة المهاجر يتم من خلال بقاء أحد أقربائه برفقة مندوب حتى يتصل بوصوله. بالنسبة للعائلات، يوفر السمسار خصمًا، حيث يدفعون 300 ألف جنيه مقسمة على دفعتين، قبل السفر وبعد الوصول.
ويذكر مختار أنه يستخدم مركبًا كبيرًا أكثر استقرارًا من القوارب الصغيرة، مدعيًا أنه يوفر فرص عمل وسكنًا للأسر بعد وصولهم، بغض النظر عن إتقانهم للغة الإيطالية. ويؤكد أن الأطفال يحصلون على أوراق إقامة، وفرص تعليم مجانية، وراتب شهري حتى بلوغهم سن 18 عامًا.
يعترف سمسار الهجرة بأن لديه آلاف مقاطع الفيديو لأشخاص ساعدهم في الوصول إلى إيطاليا عبر مركبه، وأرسل لنا بعضها للتأكيد. ويضيف أن أسرًا بأكملها، تضم نساءً وأطفالًا بينهم رضع، يسافرون معه، بسبب ما يتوقعونه من مستقبل أفضل للأطفال هناك. يقول السمسار إنه إذا أحضر الآباء أوراقهم الثبوتية وشهادات ميلاد الأطفال، فإنهم يحصلون على إقامة رسمية وتعليم مجاني وراتب شهري حتى بلوغ الأطفال سن 18 عامًا، وبعد التخرج يتم توظيفهم برواتب مجزية.
بحسب تقرير صحيفة “إيوأوبزيرفر” الإيطالية فإن أكثر من 3500 مصري عبروا البحر الأبيض المتوسط خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، ووصلوا إلى إيطاليا، ما يمثل أربع أضعاف عدد المصريين الذين هاجروا خلال نفس المدة من عام 2021. ويأتي المصريون في المركز الثاني بقائمة المهاجرين إلى أوروبا، عبر المنطقة الوسطى لحوض البحر المتوسط، والتي تشمل السواحل التونسية والليبية، وهو الطريق الذي يوصف بأنه الأخطر.
واحتلت ليبيا المرتبة الأولى في عدد المهاجرين المتجهين إلى إيطاليا منذ بداية العام 2024، بحسب تقارير المنظمات المعنية بالهجرة غير القانونية، ووصل نحو 14 ألفًا و 755 مهاجرًا غير شرعي إلى الشواطئ الإيطالية من ليبيا خلال النصف الأول من العام الجاري، طبقًا لتقديرات وكالة نوفا الإيطالية.
وتحتل مصر المرتبة الثانية مــن حيث أعداد المهاجرين غير النظاميين عبـر الطريـق البحري مـن البحر المتوسـط والبري إلى أوروبا، إذ وصل إلى نحو 7938 مهاجـرًا منـذ يناير 2021 وحتى ديسمبر من العام نفسه، ولاسيما إلـى اليونان ومالطا وإيطاليا، بحسب دراسة حديثة نشرها المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية “دراية”.
ووفقًا للبيانات فإن مصر من أكبر الدول المستقبلة للتحويلات المالية على مستوى العالم؛ إذ احتلت المركز الخامس عالميًا بقيمة 28.92 مليار دولار في عام 2018، وشكلت نسبة تحويلات المصريين بالخارج نحو 23.5% من إجمالي مصادر النقد الأجنبي بمصر خلال عام 2022 / 2023.
نوصي للقراءة: ما الذي يدفع أطبّاء مصر إلى الهجرة؟
أخطار الرحلات غير النظامية
يوضح أيمن زهري – مؤسس الجمعية المصرية لدراسات الهجرة (EGYMIG)، والأستاذ المساعد في الجامعة الأمريكية في القاهرة، رئيس الفريق العلمي المعني بالهجرة واتحاد الدراسات الأفريقية للسكان-، إلى زاوية ثالثة، أن إيطاليا وأسبانيا هما المدخل لأوروبا، وليستا بالضرورة المحطة النهائية، وأن مصر وليبيا وتونس والمغرب، بمثابة ترانزيت لمهاجرين من دول أخرى.
يؤكد أن المراكب لم تعد تخرج من مصر بعد حادث رشيد، وتحولت إلى مسار ليبيا والذي تصعب السيطرة عليه لكونه يمتد بامتداد الحدود الصحراوية الممتدة لمسافة 1150 كيلومترًا، معتبرًا أن الهجرة غير النظامية، ظاهرة اقتصادية وسياسية ترتبط بعدم استقرار الدول، وأن نمط هجرة المصريين إلى أوروبا خلال ال20 سنة الأخيرة هي إعادة إنتاج نمط هجرتهم إلى الخليج؛ إذ يذهب معظمهم للعمل في البناء لسنوات لجمع المال ثم يعودون إلى مصر للزواج وربما يسافرون مرة أخرى حين تنفذ أموالهم أو يرسلون أولادهم فيما بعد للمصير نفسه.
ويشبه زهري، سماسرة الهجرة بتجار المخدرات الذين يقدم بعضهم للمتعاطين مخدرات أصلية أو مغشوشة، وكلاهما يقوم بعمل مجرم قانونًا؛ إذ يقوم بعضهم بتوصيل المهاجرين إلى أوروبا للحصول على بقية الأموال من ذويهم والحفاظ على مصداقيتهم في البلد التي ينتمون إليها، والآخرون يخدعون المهاجرين ويوهمهم بأن الرحلة آمنة، و يفاجئونهم بتحولهم إلى سلعة يتم التحكم بها وإبقاءهم في أماكن معينة وتجويعهم لفقدان الوزن وقد يتم احتجازهم لشهور في ليبيا أو حتى بيعهم لعصابات الاتجار في البشر، مشيرًا لالتزام أوروبا بقوانينها التي تفرض عليها المعاملة المنضبطة للمهاجرين، التي تشمل تقديم الطعام والشراب والعلاج والملبس لهم داخل مراكز للإيواء، ومؤخرًا أصبح هناك توجه لإنشاء مراكز احتجاز للمهاجرين غير النظاميين في أوروبا وعمل عملية فرز سريع لهم للإبقاء على المؤهلين وإعطائهم صفة طالب لجوء، وإعادة غير المؤهلين إلى بلدانهم.
نوصي للقراءة: من مصر إلى المكسيك: حلم أمريكي تحول إلى كابوس
الحلول الأمنية
على مدار تسع سنوات مرت على حادث غرق مركب صيد، قبالة سواحل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة، في سبتمبر عام 2016 (كان يقل عددًا يتراوح بين 450 إلى 600 مهاجر غير شرعي، وراح ضحيته 204 شخص، من بينهم أطفال ونساء، حسب التصريحات الرسمية لوزارة الصحة المصرية، وأكثر من 300 ضحية، قال أهالي من مدينة رشيد إنهم قاموا بانتشال جثثهم الغارقة)، تمكنت السلطات المصرية من غلق الباب أمام مراكب الهجرة غير النظامية التي كانت تخرج من السواحل المصرية إلى أوروبا مباشرة عبر البحر المتوسط، معتمدة في ذلك على الحلول الأمنية، التي رأى حقوقيون أنها قد شابتها انتهاكات بحق أشخاص وجهت لهم تهم التهريب والاتجار بالبشر، وتم حبسهم احتياطيًا لسنوات.
ويرى نور خليل -المدافع الحقوقي والباحث في ملف اللاجئين وشؤون الهجرة، المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين في مصر-، إلى زاوية ثالثة، أن “السلطات المصرية اعتمدت في عمليات صياغة التشريع على الحلول الأمنية والتوسع في العسكرة، دون توفير حماية حقيقية للمهاجرين الغير نظاميين وفرض إجراءات خاصة لملتمسي اللجوء لتحقيق الالتزامات الدولية المنوطة بها، مثل: قرار رئيس الجمهورية 444 لسنة 2014 والقانون 82 لسنة 2016 وتعديلاتهما، الأمر الذي أدى إلى اعتماد حلول أمنية في إجراءات التصدي من قبل السلطات الأمنية في مصر، وبينما كان ذلك يتم بالتزامن مع اتفاقيات مع الجانب الأوروبي، كانت المنظمات الحقوقية تنتقد أداء مصر فيما يتعلق بالتعامل مع قضية الهجرة غير النظامية على مستوى التشريع والإجراء.”
ويضيف خليل أن دول جنوب البحر المتوسط، ومنها مصر، أصبحت معابر “ترانزيت” لرحلات الهجرة غير النظامية باتجاه أوروبا، حيث يسعى المهاجرون للهرب من الحروب والنزاعات المسلحة، والأزمات الاقتصادية، والتغيرات المناخية التي تهدد حياة ملايين الأشخاص في إفريقيا.
ويعتقد المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين، أن السلطات المصرية لا تنفذ عمليات بحث وإنقاذ على حدودها البرية والبحرية، رغم العديد من البلاغات حول اختفاء أشخاص مصريين وغير مصريين على الحدود البرية والبحرية، معللًا ذلك بأن القوانين المصرية لا تفرض التزامًا واضحًا على السلطات المصرية بتنفيذ عمليات بحث وإنقاذ، ما يحميها من المساءلة حال تقاعست عن ذلك، معتبرًا أن العسكرة تمثل عائق أمام تنفيذ عمليات بحث وإنقاذ من قبل المنظمات المدنية؛ إذ سبق أن اقترحت بعضها على السلطات المصرية ذلك سابقًا وتم رفضه، لكون المناطق الحدودية القريبة منها تخضع لسيطرة عسكرية والتواجد فيها يحتاج للعديد من التصاريح الأمنية والعسكرية التي لا تمكن منها السلطات كلٍ من الباحثين أو المنظمات أو الصحفيين، ـ بحسب تعبيره ـ، واصفًا تلك المناطق بالصندوق المظلم، الذي لا توجد تحقيقات حقيقية من جهات تحقيق مستقلة حول ما يحدث بها، وبالتالي لا توجد معلومات دقيقة حول أعداد المهاجرين الذين فقدوا، ولا توجد إجراءات واضحة لذوي المفقودين للبحث عن ذويهم أو مطالبة السلطات بذلك.
ويكشف خليل أن الإجراءات الأمنية التي تلت حادث غرق مركب رشيد 2014، تسببت في وقف حركة الهجرة غير النظامية عبر البحر، ولكنها فتحت مسارًا أخطر وهو السفر عبر ليبيا، مبينًا أنه بينما كانت السلطات تعالج الحركة غير النظامية من منظور أمني فإنها تسبب في انتهاكات موسعة بحق المواطنين منها: متهمو قضايا الهجرة غير النظامية الذين يتعرضون للاختفاء القسري والتعذيب والتدوير في قضايا، والذين قرر النائب العام إعادة التحقيق في قضاياهم دون إعلان نتيجة التحقيق لأكثر من عامين، وكذلك ما حدث في مطروح من مقتل المواطن فرحات المحفوظي، على يد قوات إدارة مكافحة الهجرة غير النظامية بوزارة الداخلية دون عدالة للضحية.
ويضيف أن “إحصائيات منظمة الهجرة الدولية ووكالة الحدود الأوروبية توضح أن الجنسية المصرية في السنوات الثلاث الأخيرة أصبحت من أكثر الجنسيات التي تصل الإتحاد الأوروبي بطريقة غير نظامية، عبر أخطر مسار للهجرة وهو ليبيا، إذ تفيد تقارير منظمات حقوق الإنسان من بينها: منصة اللاجئين في مصر احتجاز اللاجئين والمهاجرين في ظروف لا إنسانية تشبه الاستعباد إلى جانب الإختطاف وطلب الفدية من العائلة، يؤكد العابرون بصورة غير نظامية بشكل مستمر أن الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد هي ما دفعهم للهجرة عبر المتوسط.”
وفي أعقاب حادث غرق مركب رشيد، وجهت النيابة أصابع الاتهام إلى 57 متهمًا تم حبسهم احتياطيًا ومحاكمتهم أمام محكمة جنح رشيد، في القضية رقم 4974 إداري رشيد لسنة 2016 كلي 17463، وتم الحكم على 56 متهم بالسجن من سنتين إلى 14 سنة، وتبرئة إحدى المتهمات، وفي عام 2017 أعلن مدير أمن البحيرة عن إلقاء القبض على 120 سمسار هجرة غير نظامية قال إن من بينهم متورطون في حادث غرق مركب رشيد.
و في شهر مارس 2020 ألقي القبض على مجموعة من الصيادين القادمين من ليبيا، من خلال معبر السلّوم البري، بعد قضائهم رحلة صيد وصلت إلى الشواطئ الليبية، ووجهت لهم تهمة التهريب، في القضية رقم 622 لعام 2020 حصر أمن دولة عليا، تضم نحو 40 صيادًا من القرية نفسها.
وكانت مصر قد وقعت في العام 2022، اتفاقًا مع الاتحاد الأوروبي لتطبيق برنامج لإدارة الحدود بقيمة 80 مليون يورو، لتعزيز التعاون بين الطرفين في إدارة الهجرة، يهدف إلى مساعدة السلطات المصرية في الحد من الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر على طول حدودها.
طريق الموت
ورغم تمكن الحلول الأمنية من سد المنافذ الساحلية للهجرة غير النظامية فإنها لم تحل المشكلة من جذورها ولم تمنع آلاف الشباب من ركوب مراكب الموت هروبًا من الفقر والبطالة وتداعيات الأزمة الاقتصادية وبحثًا منهم عن فرصة عمل وحياة كريمة ومستقبل أفضل، حتى لو كلفهم الأمر حياتهم؛ فأوجد سماسرة الهجرة طريقًا آخر أكثر خطورة، يبدأ من مدينة السلوم في محافظة مرسى مطروح، غرب مصر، ويمتد عبر الصحراء الغربية إلى مدن ليبية مثل: درنة وطبرق وغيرها، لتحمل القوارب المهاجرين غير النظاميين من السواحل الليبية عبر البحر المتوسط، في طريقها إلى دول جنوب أوروبا، ولاسيما إيطاليا وأسبانيا واليونان، إلاّ أن الغرق كثيرًا ما يكون مصير تلك القوارب غير الآمنة.
ولم تخل السنوات التسع التي تلت حادث مركب رشيد من حوادث غرق قوارب هجرة غير نظامية تحركت من السواحل الليبية وكانت تقل على متنها مصريون، أصبح غالبيتهم في عداد الموتى؛ ففي أغسطس عام 2021، غرق مركب كان يقل نحو 70 من أبناء قرية تلبانة بمركز المنصورة بمحافظة الدقهلية، في رحلة هجرة غير نظامية إلى إيطاليا، وتوفي منهم 11 شابًا وطفلًا، وفقد 59 آخرين في البحر المتوسط، مات ستة مهاجرين من محافظة أسيوط، جنوب مصر، جوعًا ومن بينهم خمسة أطفال على متن مركب هجرة غير نظامية في أغسطس عام 2022، بعدما ضلوا طريقهم في البحر المتوسط بدلاً من الوصول إلى إيطاليا، كما غرق 12 مهاجرًا مصريًا، ينتمون إلى قرى محافظة الفيوم، في سبتمبر عام 2022، بعد انقلاب قاربهم قرابة سواحل ليبيا وهم في طريقهم إلى إيطاليا، وجاء ذلك بعد أيام من إعلان السلطات الليبية عن إنقاذ سبعة مهاجرين مصريين، وغرق اثنين وفقدان 19 شخص، في أغسطس، بعد غرق مركب هجرة غير نظامية، حمل على متنه 27 مصريًا في البحر المتوسط، كانوا في طريقهم إلى إيطاليا.
في واحدة من أبشع حوادث غرق المراكب في البحر المتوسط، غرقت السفينة “أدريانا” قبالة السواحل اليونانية، في 14 يونيو من العام الماضي، والتي كانت تحمل على متنها نحو 750 مهاجرًا غير شرعي معظمهم مصريين، نجا منهم 104 شخص فقط، من بينهم 43 مصري، ووجهت السلطات اليونانية الاتهام لتسعة منهم بتهريب المهاجرين والتسبب في غرق السفينة، قبل أن تسقط عنهم التهم في مايو من العام الجاري.
وفي الرابع من أغسطس العام الجاري أعلن خفر السواحل الإيطالية، العثور على جثامين اثنين من المهاجرين غير النظاميين، وفقد مهاجر ثالث خلال عمليات إنقاذ المهاجرين البالغ عددهم 34 شخصًا، في الساحل الجنوبي الشرقي لجزيرة صقلية الإيطالية، ويحملون جنسيات سورية ومصرية، وتكررت في سبتمبر المنقضي حوادث غرق مراكب الهجرة غير النظامية بالبحر المتوسط والتي كانت تحمل على متنها مصريين؛ إذ أعلنت السلطات الليبية، في الثالث من سبتمبر انتشال جثمان مهاجر، وإنقاذ تسعة أحياء بعد غرق مركبهم الذي كان يقل 32 مهاجرًا غير شرعي، بينهم مصريون وسوريون قبالة سواحل طبرق، وفقد 22 آخرين، وفي منتصف سبتمبر عثر بعض أهالي مدينتي سيدي براني والسلوم بمحافظة مرسى مطروح على سبع جثث لمهاجرين، كانوا على متن مركب هجرة غير نظامية قبالة السواحل الليبية، أغلبه من المصريين ويضم سوريين سودانيين، كما تم إنقاذ تسعة مهاجرين بينهم ثمانية مصريين، في حين أنقذ خفر السواحل المصري، في 18 سبتمبر قارب هجرة غير نظامية، يحمل 45 شخصًا من الجنسيات السورية والمصرية، كان قد انطلق من ليبيا، متجهًا إلى جزيرة كريت اليونانية، ولكنه دخل المياه المصرية، وأطلق نداء استغاثة، بحسب مجموعة الإنقاذ الموحد.
وفُقد 2511 شخصًا في البحر المتوسط خلال العام الماضي، كان أغلبهم على طريق وسط البحر المتوسط، بحسب تقرير “فرونتكس”، أرقام منظمة الهجرة الدولية، في حين وصل 355 ألف مهاجر غير شرعي إلى الاتحاد الأوروبي.
نوصي للقراءة: عدالة أم انتقام؟ اليونان تحاكم 9 مصريين نجوا من غرق سفينة “أدريانا”
تعديلات قانونية بلا جدوى؟
يوضح الخبير الاقتصادي والقانوني، عادل عامر – مدير مركز “المصريون للدراسات الاقتصادية والاجتماعية”-، أن قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية رقم 22 لسنة 2022، جاء بتعديل بعض أحكام قانون مكافحة الهجرة غير الشرعية وتهريب المهاجرين الصادر بالقانون رقم 82 لسنة 2016، ونص على أن “يعاقب بالسجن المشدد وبغرامة لا تقل عن 200 ألف جنيه ولا تزيد على 500 ألف جنيه أو بغرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر، كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين أو الشروع فيها أو توسط في ذلك”، ووفقًا للقانون تكون العقوبة السجن المشدد مدة لا تقل عن خمس سنوات وغرامة لا تقل عن 500 ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه أو غرامة مساوية لقيمة ما عاد عليه من نفع أيهما أكبر، إذا كان المهاجر المهرب امرأة أو طفلاً أو من عديمي الأهلية أو من ذوي الإعاقة.
يعتبر عادل عامر، في حديثه لزاوية ثالثة، أن تعديلات القانون لا تكفي بمفردها للقضاء على الهجرة غير النظامية. ويرى أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتردية، وعدم توفر فرص عمل لائقة، تدفع بعض الأفراد، رغم كفاءتهم، للبحث عن فرص بديلة خارج الوطن. ويضيف أن الهجرة غير النظامية ترتبط أيضًا برغبة البعض في تحسين أوضاعهم الاقتصادية والحصول على امتيازات اجتماعية، مع ما تحمله من مخاطر كبيرة، كالقبض عليهم أو استغلالهم من قبل عصابات الإتجار بالبشر. كما يشير إلى أهمية دور الإعلام في توعية الشباب بمخاطر الهجرة غير النظامية وتداعياتها.
يوضح مدير المركز أن هناك ثماني قرى في مصر تعد من أبرز مناطق الهجرة غير النظامية، وتقع هذه القرى في مراكز تلا وسمنود وميت بدر حلاوة، إضافة إلى بعض القرى في بني سويف والمنيا والفيوم. ويشير إلى أن قصص نجاح بعض المهاجرين الذين أصبحوا رجال أعمال في دول أوروبية، مثل إيطاليا وفرنسا وهولندا، تشجع العديد من أبناء هذه القرى على الهجرة. كما أن الظروف الاقتصادية الصعبة، مثل ارتفاع معدلات التضخم والأسعار، إلى جانب الزيادة السكانية، أسهمت في ازدياد انتشار الهجرة غير النظامية في مصر.
في السياق نفسه، يعتبر علي الدين القصبي – أستاذ علم الاجتماع بجامعة جنوب الوادي-، أن للهجرة غير النظامية للشباب والأطفال، تأثير كبير علي القري والنجوع في مختلف أنحاء محافظات مصر وسينعكس سلبًا على مدى وفرة الأيدي العاملة، ويتسبب في انتشار الجريمة بين أولئك الأطفال وتسربهم من التعليم.
وكانت السفيرة سها جندي – وزيرة الدولة للهجرة وشئون المصريين بالخارج-، قد أعلنت، في نوفمبر 2023، عن تنفيذ المبادرة الرئاسية “مراكب النجاة” للتوعية بمخاطر الهجرة غير النظامية، وتوفير السبل والبدائل الآمنة أمام الشباب المصري، في 72 قرية تابعة للـ 14 محافظة الأكثر تصديرًا للهجرة غير النظامية، وهي: الفيوم والبحيرة والغربية والمنوفية والقليوبية والدقهلية والشرقية وكفر الشيخ وبني سويف والمنيا وأسيوط والأقصر وقنا وسوهاج.
ومؤخرًا، أقر مجلس النواب المصري تعديلات القانون رقم (232) لسنة 1989 فى شأن سلامة السفن؛ إذ ألزم القانون في تعديلاته كل مالك أو مستغل السفينة أو وحدة بحرية مصرية بإخطار الجهة المختصة بما يرد عليها من تصرفات بالبيع أو الإيجار خلال موعد لا يجاوز 30 يومًا من تاريخ التصرف، ويرفق بالإخطار سند التصرف، وإلا يعاقب بالحبس مدة لا تجاوز سنة وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 500 ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، أما إذا ترتب على عدم الإخطار استعمال السفينة أو الوحدة البحرية المصرية فى غرض غير مشروع مع علم المتصرف بذلك تكون العقوبة السجن.
وفي الوقت الذي تكافح فيه السلطات المصرية تفشي ظاهرة الهجرة غير النظامية عبر الحلول الأمنية وتعديلات القوانين لتغليظ العقوبات؛ فإن الكثير من شباب وأطفال القرى المصرية، مثل: صابر ورفاقه، لا يزالون يحلمون بمستقبل أفضل ويبحثون عن طريق محفوف بالموت، على أمل الهروب من الفقر والظروف الاقتصادية السيئة، لكن أحلامهم كثيرًا ما تتحول إلى كوابيس، وتنتهي بشكل مأساوي إما غرقًا في مراكب الهجرة غيرالنظامية أو قتلًا على أيدي عصابات ليبية أو الاعتقال والسجن في ليبيا والترحيل إلى مصر ليعودوا بخفي حنين ويعيشون أوضاعًا أكثر سوءًا بعد غرق أسرهم في الديون.