منفى.. شعور بالهزيمة.. وحلم قائم

لا ينقصنا الشغف… بل يعترينا الألم والوهن، نفتقد القدرة على مواجهة الكابوس لأننا أجزاء منه، متألمين من جراح ما زالت تنزف سواء في المنفى أو المعتقل أو الوطن، وما زال يعتصرنا حتى يختبر إلى أي مدى نُقهر ليستمر.. لكننا سرعان ما رويدًا نستفيق ونقاوم بما لدينا من جديد قبل لحظات من فقدان الأمل.
محمد الأنور

15 يومًا، أحاول خلالها استرداد قلمي وعقلي ومشاعري، لكتابة ما تقرؤونه الآن. شعور الحنين إلى العمل الصحفي، إلى الكتابة؛ جعلني أشعر بالاستفاقة، لا سيما عندما طلب أحد زملائي أن أشارك في هذه التجربة الصحفية الجديدة “زاوية ثالثة”؛ والتي فهمت من افتتاحيتها أنها ممولة بـ”حلم بالتغيير في النمط الصحفي السائد” وأنها تحاول أن تكون زاوية غير تابعة لأي أجندة سياسية. بدأت العمل في الحصافة إبان ثورة يناير؛ وعلى رغم من سنوات قضيتها في الكتابة إلا إنني توقفت عاجزًا عن استجماع كلماتي التي يجب أن أشاركها في مقالي الأول بعد فترة الانقطاع. 8 سنوات في المنفى، ١٢ عامًا مرت على الحلم في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، لكل من آمنوا بالحلم والحق في تنفيذه، ودفعوا أثمانا لذلك باستشهاد أو إصابة أو اعتقال أو منفى… أو بالتسليم للقهر الإجباري سواء المادي أم المعنوي، أجد نفسي وهؤلاء ممن أشاركهم الحلم والأمل، ضئيلاً جِدًّا، أمام أحلام تحتاج الكثير من القدرة والتصديق والتضحيات والأدوات، أجد نفسي محملًا بأثقالٍ وأوزارٍ من يناير؛ ما قبلها وما بعدها.

كنت أعتقد في ذلك الوقت أن لدي القدرة على إحداث تغيير من خلال الكتابة والمتابعة والنشر والتحليل لما كان يحدث في الشارع المصري، وكانت حصيلة ما كتبته حينها أكثر أو أقل قليلا من ١٥٠ خبرًا وتحقيقًا صَحَفِيًّا نُشر في الصحف التي اعتبرت “معارضة” أو “مستقلة”، وانتهت حَالِيًّا بالسيطرة الأمنية من الدولة والمخابرات أو الأمن الوطني كـ”الدستور ”و ”الوطن ”أو بالإغلاق كـ”التحرير” وغيرها من الصحف التي تعرضت للحجب على أقل تقدير. محركي الرئيسي حينها كَشَابّ يافع، هو التضامن والاشتباك مع عشرات القضايا والحقوق والأحلام، محاولًا عرضها وتحقيقها والدفاع مع أصحابها عن شرعيتها وحاميتها ووجوبها. كتبت عن الطلاب والعمال والخصخصة والمعتقلين والثورة، انحزت للحق، وشاركت بالقلم والنفس مع أقراني وأصدقائي وزملائي ممن آمنوا بنفس الحلم حتى رأوا نوره في يناير ٢٠١١. الآن يقبع أصدقائي“ أحمد دومة ”و ”شريف الروبي ”وغيرهم من المئات والآلاف ممن أعرف ولا أعرف، في سجون الوطن الذي آمنوا أنه يستحق الأفضل.

تضائل دوري منذ خروجي من مصر إلى المنفى واقتصر على التدوين على وسائل التواصل الاجتماعي، في تسليط الضوء على زملائي المعتقلين وعلى الانتهاكات الحقوقية والدستورية، على أمل أن يحدث صوتي فرقًا لحظة ما أو وقت ما، والآن أعمل على التنظير الفلسفي والأدبي لتجربتي في المنفى، ودراسة السينما، في محاولة للتوثيق – على الأقل – والنشاط والتغيير بوسائل تتناسب مع وضعي الحالي.

لا ينقصنا الشغف… بل يعترينا الألم والوهن، نفتقد القدرة على مواجهة الكابوس لأننا أجزاء منه، متألمين من جراح ما زالت تنزف سواء في المنفى أو المعتقل أو الوطن، وما زال يعتصرنا حتى يختبر إلى أي مدى نُقهر ليستمر.. لكننا سرعان ما رويدًا نستفيق ونقاوم بما لدينا من جديد قبل لحظات من فقدان الأمل.

 

كانت ثورة يناير2011 لحظة محورية في تاريخ البلاد، حيث كانت إيذانا بنهاية 30 عامًا من الديكتاتورية في عهد حسني مبارك وبداية حقبة جديدة من التغيير السياسي. ومع ذلك، بعد 12 عامًا، من الواضح أن أهداف الثورة لم تتحقق بالكامل بعد. فشل النظام الحالي في الوفاء بوعود الرخاء الاقتصادي، وبدلاً من ذلك أشرف على انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان والقضاء على المعارضة السياسية. ما أدى إلى استياء متزايد بين المصريين وأثار التساؤل حول ما إذا كانت مصر على شفا انتفاضة أخرى. 12 عامًا مرت على ثورة يناير التي أدت إلى سقوط نظام حسني مبارك. شدد النظام قبضته على السلطة، ويواجه النشطاء والمعارضون حاليًا قمعًا شديدًا وانتهاكات لحقوق الإنسان“ غير مسبوقة ” بحسب وصف العديد من التقارير الدولية والمحلية.

أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى ثورة 2011 هو انتشار الفقر وعدم المساواة الاقتصادية في مصر. على الرغم من الوعود بمعالجة هذه القضايا، فشل النظام الحالي في الوفاء بوعوده بالازدهار الاقتصادي. في الواقع، تواجه البلاد حَالِيًّا أزمة اقتصادية غير مسبوقة، مع ارتفاع معدلات التضخم لمستويات قياسية، وانهيار العملة، مع تنبؤات اقتصادية بانهيارات لاحقة أكبر، وخفض الدعم الذي أصاب المواطن المصري بوهن تام وبؤس لا مثيل له. وارتفاع الأسعار اليومي للسلع الأساسية- إن وجدت-، أدى ذلك إلى استياء متزايد بين السكان الذين يكافحون لتغطية نفقاتهم. وسيناريوهات كارثية يستعد لها المصريين بالترقب والهلع والنكات إن استطاعوا، والدعاء والرغبة الملحة بالسفر بأي ثمن، أملاً في قارب نجاة من الطوفان الذي يغرقهم. 

عامل رئيسي آخر ساهم في ثورة 2011 هو الافتقار إلى الحرية السياسية وقمع أصوات المعارضة. استمر النظام الحالي بقيادة السيسي في هذا الاتجاه خلفًا للمخلوع مبارك بالقضاء على المعارضة السياسية وقمع منظمات المجتمع المدني والتنكيل بالجميع، ولكن هذه المرة بلا حدود. جرى القبض على نطاق واسع على النشطاء والصحفيين وتعذيبهم، في حين تمت السيطرة على وسائل الإعلام أو إغلاقها. أدى ذلك إلى انعدام التنوع في المشهد السياسي سوى للصوت الواحد المؤيد للسيسي وغياب أي تمثيل حقيقي للشعب المصري وآلامه وحقوقه وطموحاته ومعاناته سواء في المجالس النيابية والبرلمان أو الإعلام.

فشل النظام أيضًا في معالجة قضايا الفساد، الذي كان حافزًا رَئِيسِيًّا لثورة 2011. بدلًا من ذلك، استمر الفساد في الازدهار في ظل نظام السيسي، حيث جرى توجيه مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية إلى مشاريع الغرور التي تفيد الجيش والنخب الثرية، بدلاً من استخدامها لتلبية احتياجات السكان. والآن يواجه غضب ، وتهديد حقيقي لطموحاته في البقاء، ليس فقط من المصريين بل ومن الممولين الخليجيين والدوليين الذين يرون أن ما يقدمه غير كافي وأن استثماراتهم في أحلامه محصلتها المزيد من الانهيار الاقتصادي والخسارة لأموالهم، ما يدفعه حاليًا لإعلان بيع الأصول على نطاق أوسع لتقديم ضمانات للديانة وصندوق النقد الدولي، وتوسلاً في مزيد من الدعم أو الوقت لبقائه في السلطة، خوفًا من مصير لم يعد يعلم إلى أين سينتهي به، ولكنه يدرك جليًا أنه بالتأكيد مأساوي.

على الرغم من هذه التحديات، من المهم أن نلاحظ أنه في مصر لا يزال هناك أفراد ونشطاء وصحفيون وسياسيون وفنانون ومهنيون ونقابيون وطلاب وعمال ومنظمات ومتفانيون ومنظمات للمجتمع المدني تعمل من أجل تحقيق أهداف ثورة 2011. يمكن أن يساعد بناء الشبكات والتحالفات بين هذه المجموعات في زيادة تأثيرها وتأثيرها، ويؤدي في النهاية إلى تغيير حقيقي في مصر. ومع ذلك، من أجل تحقيق ذلك، من الأهمية بمكان أن يعترف المجتمع الدولي بالنضال المستمر من أجل الحرية والديمقراطية في مصر وأن يقدم الدعم والتضامن لأولئك الذين يعملون من أجل هذا الهدف.


يعد الوضع الأمني أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الصحفيين والنشطاء في مصر بل وحتى الأفراد العاديين. زادت الحكومة من مراقبتها وقمعها للنشطاء والمجتمع المدني، حيث يتم القبض على النشطاء واحتجازهم بتهم ملفقة. كما تستخدم السلطات أساليب مختلفة لإسكاتهم وترهيبهم، مثل التعذيب والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القضاء. وقد خلق هذا مناخًا من الخوف وأجبر العديد من النشطاء على الفرار من البلاد أو الاختباء.


التحدي الكبير الآخر هو الوضع الاقتصادي. أدت الأزمة الاقتصادية في مصر إلى انتشار الفقر والبطالة، وفقد العديد من المصريين سواء نشطاء أم لا وظائفهم أو لم يتمكنوا من العثور على عمل بسبب نشاطهم، مما يجعل من الصعب عليهم إعالة أنفسهم وعائلاتهم.

على الرغم من هذه التحديات، يواصل العديد من النشطاء في مصر العمل من أجل إحداث التغيير. يستخدمون تكتيكات مختلفة لرفع مستوى الوعي وتعبئة الناس، مثل حملات وسائل التواصل الاجتماعي، والتدوين، والنشاط القانوني. كما يعمل العديد منهم على تقديم الدعم لضحايا القمع وانتهاكات حقوق الإنسان، مثل سجناء الرأي وعائلات المختفين قَسْرِيًّا.


لكنهم أيضًا وبشدة يحتاجون لتمكينهم توفير الأمن والحماية لهم، وتزويدهم بالتدريب على الأمن الرقمي وكيفية حماية أنفسهم من المراقبة والاعتقال. بالإضافة إلى الدعم القانوني والتمثيل للدفاع ومساعدتهم في إيجاد الدعم اللازم للدفاع عن أنفسهم ضد التهم الملفقة، مع احتياجهم للدعم المعرفي والعملي ومساعدتهم في إيجاد فرص عمل لمساعدتهم على تغطية احتياجاتهم الأساسية ومواصلة عملهم والتخفيف من التحديات الاقتصادية التي يواجهونها. كما أن العديد منهم ومن أسرهم إن لم يكن جميعهم يحتاجون إلى الدعم النفسي الحقيقي والعاجل والمستمر.


أخيرًا، يمكن أن يساعد بناء الشبكات والتحالفات بين النشطاء في الداخل والخارج والشباب وأصحاب القضية والمصلحة المشتركة من جموع المصريين باختلاف أطيافهم ومنظمات المجتمع المدني في زيادة تأثيرهم وتأثيرهم. يمكن تحقيق ذلك من خلال الاجتماعات والتعاون المنتظم، حيث يمكن للناشطين تبادل المعلومات والموارد، وتطوير الاستراتيجيات والتكتيكات معًا، والتعلم من أخطاء الماضي والتصالح مع الاعتراف بها. من المهم أيضًا ملاحظة أن أمن النشطاء وحمايتهم يجب أن يكونا على رأس أولويات هذه الجهود. يمكن أن يشمل ذلك توفير التدريب على الأمن الرقمي، وتقديم الدعم القانوني والنفسي، وخلق مساحات آمنة للنشطاء للتنظيم واللقاء، بخلق مساحات حقيقية للاستفادة من الاختلاف والاختلافات بالتكامل، ونبذ الفرقة ومحاولة التكاتف الوطني العام لخلق نظام بديل قادر على الإحلال والتبديل الجذري، كما كان الهتاف في يناير وما قبلها “حركة وطنية واحدة”. 


السواد الأعظم من الشباب في مصر الآن يحتاج الكثير من الدعم المعرفي في ظل غياب دور التعليم الحكومي، أصبح في تقديري لزامًا على كل من لديه القدرة أو المعرفة أن يشارك ما يملك مع من يستطيع من الشباب القابعين تحت الكابوس في مصر على أمل أن يجدوا نورًا في آخر النفق.

في الختام، اتسمت السنوات ال 12 الماضية منذ الثورة المصرية بالقمع والصعوبات ومع ذلك، على الرغم من التحديات، لا تزال هناك طرق ولا يزال للحلم يومًا ليتحقق… ربما من “زاوية ثالثة”.

 

* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي زاوية ثالثة

محمد الأنور
صحفي وكاتب وصانع أفلام

Search