العبور إلى الموت.. معديات متهالكة وبديل خرساني

رباب عزام

في كانون الثاني/ يناير من العام الماضي، استيقظ المصريون على حادثة غرق سيارة من أعلى معدية نهرية غير مرخصة(عبّارة تنقل الركاب والبضائع والسيارات بين ضفتي نهر النيل)، حملت على متنها 23 شخصًا من عزبة التفتيش بمركز أشمون، أغلبهم أطفال لم تكن أعمارهم قد تجاوزت 15 عامًا وقتئذٍ. كانوا من عمال التراحيل العائدين من دوامهم الليلي في مزرعة للدواجن. وراح ضحية الحادث شخصين بالغين و8 أطفال، ما صعّد الحديث حول عمالة الأطفال في القرى الريفية وخطورة المعديات النهرية.

تكررت الحوادث المتعلقة بمعديات النيل، وحمّل أهالي الضحايا الحكومة المسؤولية مرارًا؛ بسبب تراخيها في التأخر في إنقاذ الضحايا وإهمال الجهات المسؤولة في تفعيل التفتيش على القوارب/ المعديّات النيلية، حيث يعاني قطاع النقل النهري من تدهور شديد، ولا تنظر حكومة القاهرة إلى المعديات خصيصًا؛ لأنها وسيلة تنقُل الفقراء والأكثر احتياجًا السريعة والرخيصة، حسب شهادات بعض الأهالي.

لكن.. ما قصة المعديات النهرية في مصر؟

في العام 2017، اقتحمت قوات شرطية جزيرة وراق الحضر أكبر الجزر النيلية والواقعة في وسط نيل العاصمة القاهرة، إثر قرارات تتضمن هدم منازل بحجة تعديها على أراض للدولة، كان هذا الهدف المعلن حينئذٍ؛ لكن فيما بعد تكشف للمواطنين أن الهدف إخلاء الجزيرة لاستثمارها في مشروعات تجارية وسياحية. عبرت القوات من خلال المعديات النهرية التي تمثل الوسيلة الوحيدة لانتقال السكان من وإلى الجزيرة. وقد استخدمت القوات الوسيلة نفسها كسلاح للضغط والسيطرة على احتجاجات الأهالي، بعد إيقاف المعديات لأيام (كان لدى الجزيرة 5 معديات رئيسية تربطها بالبر، قلصتها الحكومة بعد ذلك إلى معديتين بعدد ساعات عمل 6 ساعات يوميًا فقط). وقتها برزت تساؤلات أخرى هامشية حول المعديات كوسيلة وحيدة للانتقال في معظم الجزر/المناطق الداخلية الممتدة بطول النهر في مصر، والتي حسب الموقع الرسمي لهيئة الاستعلامات المصرية فإن عددها 144 جزيرة (أعلنت كمحميات طبيعية ويسكنها 3 ملايين نسمة)، منها 95 جزيرة على طول المجرى الرئيسى من أسوان حتى قناطر الدلتا، و30 جزيرة على فرع رشيد و 19 جزيرة على فرع دمياط. فيما تقول الباحثة الجغرافية سمية مصطفى في دراسة لها إن عدد الجزر النيلية داخل مصر يبلغ 391 جزيرة، أما وزارة الري فأعلنت في إحصاءات رسمية للعام 2022 أن مصر تمتلك 526 جزيرة نهرية متعددة المساحات، كما أوضحت تقارير معهد بحوث النيل أنها 128 جزيرة، فيما أعلنت الهيئة العامة للمساحة أنها 181 جزيرة، ومعهد بحوث الأراضي والمياه قدرها بحوالي 209 جزيرة. وربما يعود هذا التضارب لتعدد الجهات المنوطة بشأن تلك الجزر، وقد استصدر مجلس الوزراء قراره رقم 1969 لعام 1998 بتحديد عدد الجزر بـ144 جزيرة فقط؛ ويرجح بعض المختصين أن تغاضي جهات حكومية عن ذكر الأعداد الحقيقية للجزر النيلية ربما يعود إلى سيطرة بعض رجال الأعمال على بعضها (مثل بعض جزر النوبة)، كما تم تخصيص 36 جزيرة ونقل ملكيتها للقوات المسلحة، العام الماضي (ما يعني في تقديرات البعض نقل الصراع بين سكان تلك الجزر والحكومة المستمر منذ عقدين إلى صراع مع الجيش، ما يجعله محسومًا هذه المرة لصالح النظام [1]).

برزت التساؤلات حول وضعية أهالي الجزر، حيث لا يجدون وسيلة للتنقل سوى معدِّيات صدئة متهالكة، أو مراكب صيد صغيرة وغالبيتها أهلية، في غياب شبه كامل للجهات المسؤولة لتوفير بدائل لتلك المعديات المتهالكة، رغم ما يمثله ذلك من خطورة على حياة السكان، إضافة إلى الحوادث التي يتعرضون لها عند العبور والتي تكررت بشكل مأساوي، خاصة في السنوات العشر الأخيرة. وقد تركت بشكل يبدو متعمد، للإهمال والعشوائية ونقص خدمات الصرف الصحي والتعليم ومياه الشرب والأمن منذ عهد الرئيس الأسبق مبارك. ولا تستخدم المعديات كوسيلة تنقل لسكان الجزر النيلية فحسب؛ بل أيضًا تستخدم في المناطق الملاصقة لنهر النيل وتفريعاته، اختصارًا للوقت وتوفيرًا للنفقات.

حوادث متكررة                 

مثّلت حادثة معدية الوراق في يوليو من العام 2015، التي راح ضحيتها 36 مواطنًا بينهم 20 طفلًا، الكارثة الأفدح في حوادث المعديات النهرية الأخيرة، وقد أوضحت التقارير الرسمية بأن المعدية حُملت بأكثر من طاقتها، ولم تكن مرخصة من هيئة النقل النهري. غير أن الكارثة تمثلت وقتها في تنصل المسئولين من الحادثة بدءًا من رئيس حي الوراق الذي ذكر أرجع مسئولية منح التراخيص إلى شرطة المسطحات المائية، بينما وزارة الري قالت إن مسؤوليتها تنحصر فقط في إنشاء المراسي النيلية وأن تصاريح تسيير الوحدات النهرية مسؤولية مشتركة للجنة للتراخيص تضم ممثلي 9 وزارات وهيئات مختلفة.

وقد تكررت الحوادث منذ رحيل حكومة مبارك، ففي العام 2011 لقي 10 أشخاص مصرعهم في غرق معدية بأسوان، ثم 30 شخصًا آخرين في حادث غرق إحدى المعديات النيلية، ببني سويف. وفي العام التالي لقي 6 أشخاص مصرعهم جراء غرق معدية نيلية، كان على متنها 19 شخصاً. وفي العام 2013، انقلبت معدية تحمل 12 تلميذا في جنوب محافظة قنا. وغرق شخص فى حادث سقوط جرار زراعى من على معدية بالمنيا في نفس العام، وفقد 3 أشخاص حياتهم إثر غرق معدية المنيب بالجيزة في نفس العام أيضًا، بينما في 2014 سقط 50 راكبًا بمعدية في بني سويف، وفي 2014 غرق قائد معدية في سوهاج، بينما في نفس العام في المنيا غرق 23 شخصًا أثناء عبورهم لحضور جنازة، وفي العام 2015 غرقت معدية نيلية بمحافظة قنا، وفي نفس العام غرق 12 شخصًا أثناء عبورهم للاحتفال بزفاف في جزيرة الوراق بالقاهرة، وفي 2016 توفي 15 شخصًا إثر غرق معدية في كفر الشيخ. وفي العام 2020 غرق 10 أشخاص في معدية بالبحيرة. بينما في العام الجاري غرق شخصين في المنيا.

وحسب تقرير رسمي، فإن هناك 15 حادثة معديّة وقعت خلال 15 عامًا بدءًا من العام 2007 وحتى العام 2020، بمعدل حادثة سنويًا، أدت إلى وفاة 180 شخصًا على الأقل (من الملاحظ أنه بمطالعة عناوين الصحف في العشر سنوات الأخيرة فقط، تبين أن عدد الحوادث أكبر من العدد الرسمي المذكور لكن ليس هناك إحصاء رسمي/ غير رسمي دقيق بذلك)، فيما حصر مركز “دفتر أحوال” للأبحاث والأرشفة والتوثيق عدد حوادث النقل المائي الداخلي في مصر ما بين العامين 2011-2016 بحوالي 78 حادثة نتج عنها 83 حالة وفاة بسبب المعديات وحدها. وأن عدد المعديات في مصر يقارب 9 آلاف و500 معدية، أكثر من 45 في المئة منها غير مرخصة وغير مطابقة للمواصفات القياسية، كما أن 70 في المئة من بحاريها لا يحملون تراخيص مزاولة المهنة، حسب مركز الدراسات الاقتصادية.

جهود رسمية

في العام 2020، وجه الرئيس السيسي بإنشاء كباري علوية بديلا عن المعديات النيلية، أمام القرى التي يزيد عدد سكانها على 10 آلاف نسمة، بهدف إلغاء المعديات التى يستخدمها الأهالي، وخدمة المشروعات التنموية والمجتمعات العمرانية الجديدة. وقد طرح النظام فكرة محاور النيل كمشروعات قومية لا تتجاوز المسافة بينها 25 كم. ولأن النظام الحالي قد وضع صعيد مصر على خريطة الاستثمار؛ فقد بدأت الجهات المسئولة في تنفيذ محاور نيلية وأنفاق جديدة، لخدمة أهداف القيادة السياسية. وبحسب بيان رسمي حديث، بلغ إجمالي عدد المحاور على  نهر النيل بنهاية العام الماضي، 51 محور منها 13 محور تم تنفيذها خلال الفترة (2014-2023)، كما يجرى تنفيذ 21 محور جديد، منها 13 محورا في الصعيد بتكلفة إجمالية 19 مليار جنيه تم الانتهاء من تنفيذ 3 محاور منها عند مدن (بني مزار – طما – وجرجا)، وجارى العمل في تنفيذ 9 محاور أخرى (عدلي منصور – سمالوط – قوص – كلابشة – ديروط – دراو – بديل خزان أسوان – الفشن – أبو تيج)، كما سيتم تنفيذ 5 محاور فيما بعد العام 2024، وذلك بين (دهشور/ الواسطى، الفشن/ بنى مزار، المنيا/ ملوى، الأقصر/ إسنا، إدفو/ كلابشة). أمّا فيما يتعلق بمحاور الدلتا؛ فقد نفذت 5 محاور، هي (طلخا، وبنها، والخطاطبة، وتحيا مصر، وحلوان)، ويجرى تنفيذ 4 أخرى، هي (تلا، وأبو غالب، وسمنود، وشبراخيت)، ليصل إجمالى محاور النيل إلى 72 محورا حتى العام 2030.

وبالنسبة للجانب التشريعي، فقد صدر القانون رقم ١٦٧ لسنة ٢٠٢٢، بشأن إعادة تنظيم هيئة النقل النهري، وبموجب التعديلات الجديدة تحل الهيئة محل إدارات الملاحة الداخلية المختصة بالمحافظات في إصدار التراخيص الملاحية النهرية، بالتنسيق مع وزارات الدفاع، الداخلية، الزراعة واستصلاح الأراضي، المالية، التنمية المحلية، الموارد المائية والري، التخطيط والتنمية الاقتصادية، التضامن الاجتماعي، التعاون الدولي، الاستثمار، السياحة والآثار، والجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، وهيئة الإسعاف المصرية. وهو ما أثار انتقاد بعض المختصين خصوصًا أنه ربما تتعارض الاختصاصات ثانية بعد إشراك كثير من الجهات مع الهيئة في عمليات التنسيق.

وقد فرض القانون في تعديلاته رسومًا جديدة؛ حيث تتراوح رسوم فحص بدن الوحدات النهرية المختلفة ومنها المعديات ما بين 700- 10000 جنيه مصري. وأيضًا رسم الحمولة السنوي، بواقع جنيه واحد لكل طن حمولة حجمي/ وزني من الحمولة الفعلية المثبتة بترخيص الوحدة، مع عدد من الرسوم المستحدثة الأخرى الإلزامية. كما نص القانون على أنه يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن سنة وبغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه، ولا تجاوز 50 ألف جنيه أو بإحدى العقوبتين كل من ارتكب (تسيير معدية عامة أو خط سير، دون الحصول على ترخيص).

ماذا بعد؟

لا يزل محمود ينتظر كل صباح المعدية الخاصة بقريته للعبور إلى البر الثاني حيث عمله في جامعة المنوفية. قال لنا أن جهات تنفيذية قد تواصلت مع عمدة القرية لتخبره بتنفيذ كوبري أعلى النيل مستقبلًا، كان ذلك منذ 3 سنوات، لكن لم يتم تنفيذ أي شئ حتى اللحظة، ومازال هو وجيرانه ينتظرون كل صباح المعدية المتهالكة التي يرتادها الأهالي منذ ثلاثين عامًا وأكثر في مقابل 3 جنيهات. أما هند فتفضل معدية الحوامدية في جنوب القاهرة رغم تطوير الطرق من وإلى حي حلوان؛ صرحت لزاوية ثالثة “أن استخدام الطريق البري سيكلفها يوميًا ما لا يقل عن 40 جنيهًا ووقتًا إضافيًا قد يتخطى الساعة”.

ويرى خبراء أن حوادث المعديات لا تزال مستمرة رغم خطة التطوير التي دشنتها الحكومة، ويتفقون على أن معظم المعديات في القرى والمراكز أهلية وغير مرخصة، كما أنها لا ينطبق عليها الشروط والمواصفات الفنية القياسية، مثل توفير أطواق/ سترات نجاة بما يطابق عدد الركاب، وطفايات حريق، وغيرها من الأدوات والإجراءات التي توفر إبحارًا آمنًا في النهر، إضافة إلى عدم تلقي البحارة والعاملين التدريبات اللازمة لتفادي الحوادث. وبحسب مركز الدراسات الاقتصادية، هناك نحو ٣ آلاف مركب ومعدية متهالكة لا تزال تعمل، ومن الممكن تعرضها للغرق في أى وقت.

وقد أشار الخبير الاقتصادي عادل عامر في دراسة له إلى أن المشكلة الحقيقية ظهرت في بداية الثمانينات، حينما طفت مشاكل قلة المياه وانخفاض الغاطس وتقلصت الاستثمارات المتاحة لتجديد وتطوير الأسطول النهري. إضافة إلى وجود عوامل تؤثر على الطاقة الاستيعابية للطرق المائية، مثل الخصائص الجغرافية المتمثلة في مدى اتساع المجرى الملاحي الآمن، وشكل وطبيعة القاع والأماكن المعرضة للإطماء وشدة المنحنيات بالمجرى إنْ وُجدت، وأيضًا العامل الهيدروجرافى، وهو شدة التيارات المائية واتجاهها والدوامات المائية واختلاف عمق المياه. إضافة إلى التأثيرات الجوية وانخفاض مستوى الرؤية في بعض الأوقات. ولعل من أكبر المشكلات التي تقابل أصحاب المعديات فقدان المراسى النهرية للتصميمات الهندسية المنضبطة ما يعرض المعديات للاصطدام أو الشحوط في الغالب.

ويتفق بعض الصيادين من محافظات الدلتا مع الدراسة، ويؤكدون أن بناء كباري فقط لن يحل المشكلة، خصوصًا أن استخدام المعديات والقوارب يمثل أمر ضروري ومنخفض التكاليف لملايين المصريين في القرى والنجوع الملاصقة للنهر، متسائلين: هناك قرى لا يتجاوز عدد سكانها 10 آلاف نسمة، فما مصيرها؟ خاصة وأن التوجيهات تقضي بإنشاء كوبري على النيل للقرى المتجاوزة 10 آلاف نسمة فأعلى.

ورغم الجهود التي تعلنها الحكومة ومحاولات تطوير قطاع النقل النهري، إلا أن المعديات النهرية خاصة الصغيرة منها لا تزال تغرق، ولا يزال المصريون يموتون أثناء عبورهم النهر.. فمتى تنتهي الكارثة؟



[1] تضم خريطة الجزر التي تم نقل ملكيتها للقوات المسلحة: جزيرة القرصاية، منيل شيحة، البدرشين، الطرفاية، المسطحات، المرازيق، الشوبك الشرقي، الوادي، البرغوثي، الشيخ أبو زيد، أبو داود، الطرافة 1، الطرافة 2، أبو صالح، صراوة، المعصرة، سيالة شارونة، الشيخ فضل، كدوان، زاوية سلطان البحرية، السرو، خور زعفران، الششيخ تمي، السايح، هلال الكاب، سقوا، منيحة، العرب، الرقبة بللولة، أم شلباية، المصادفة، المندرة 1، نجع الدير 1، العبساوية شرق، نجع شرف، هدار رشيد 1، هدار رشيد 2، إضافة إلى جزيرة بحرية في مطروح.

رباب عزام
صحفية استقصائية مصرية، مهتمة بالصحافة الحقوقية والعمالية، ومقدمة برامج إذاعية، وباحثة في دراسات شرق إفريقيا الناطقة بالسواحيلية.

Search