الهروب من ساحات القتال إلى تحدّيات الاستقرار : اللاجئين السودانيين في مصر وأزمة السكن

عبر اللاجئون السودانيون إلى مصر هربًا من جحيم الحروب، إلا أنهم واجهوا ارتفاعًا مفاجئًا في أسعار الإيجارات، يبدو أنه نتيجة استغلال من قبل ملاك العقارات لظروفهم. وهذا الأمر يؤثر سلبًا على المصريين أيضًا
الاجئين السودانيين
رباب عزام

يخطو محمد خطواته الأولى تجاه حارة “الصوفي” قرب ميدان الأوبرا بمنطقة العتبة في وسط العاصمة القاهرة، يتذكر أنه منذ أن وصل إلى مصر هو وابنته لم يجدا منزلًا للسكنى. ليقرر أن يتجه إلى حارة “الصوفي” المعروفة بأنها مركز تجاري لتجمع السودانيين في العاصمة، ربما يجد من يساعده في التخلص من عثرته التي تسبب فيها مُلاّك العقارات من المصريين. في المقابل، لم تتمكن خلود (مواطنة مصري) منذ شهر من استئجار شقة في مكان مناسب للمعيشة، لتتنقل بين الفنادق الصغيرة والرخيصة في محيط وسط البلد وأحياء المعادي والدقي، ما يزيد من عبئ المعيشة عليها بسبب استغلال ملاك العقارات لأزمة السودانيين ومضاعفة الأسعار. ليبدو المشهد وكأن هناك حالة من الفوضى العقارية المتصاعدة.

أثارت قضية النزوح المستمر للسودانيين إلى مصر عبر المعابر الحدودية المشتركة (معبر أشكيت- قسطل، ومنفذ آرقين)، جدلًا واسعًا حول التأثيرات التي يمكن أن تلقي بظلالها على أسعار السكن، جراء استقبال مئات آلاف الفارين من الحرب الدائرة بين مليشيات الدعم السريع والجيش السوداني. في وقت يعاني الاقتصاد فيه من ارتفاع المعدل السنوي للتضخم الأساسي والذي قفز خلال تموز/يوليو الماضي إلى 40.7 في المئة، وفق بيانات البنك المصري المركزي. وقد بلغ معدل التضخم السنوي في المناطق الحضرية 25.8 في المئة في كانون الثاني/يناير الماضي، كما ارتفع التضخم السنوي لأسعار المواد الغذائية في المناطق الحضرية (والتي عادة يسكنها اللاجئون) بنسبة 48 في المئة في الشهر نفسه؛ ما يزيد من أعداد المصريين الذين ينحدرون إلى خط الفقر؛ فحسب بيانات البنك الدولي فإن هناك 60 في المئة من المصريين بين فقراء أو معرضين للفقر.

ولعل أبرز التأثيرات الملاحظة، الارتفاع المتصاعد في القيمة الإيجارية للعقارات في بعض الأحياء السكنية، مثل فيصل والهرم وأكتوبر في الجيزة، وحدائق وزهراء المعادي وعين شمس وشرق مدينة نصر في القاهرة، والقناطر الخيرية في القليوبية، والإسكندرية. وقد زادت القيمة الإيجارية/ تكلفة الوحدة في بعض المناطق قبيل وصول اللاجئين السودانيين في منتصف نيسان/ أبريل الماضي، لتتخطى في بعض المناطق حاجز الـ30 في المئة عن قيمتها في شهر آذار/ مارس من العام الجاري، تأثرًا بحالة التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية، فوفقا لبيانات موقع Property Finder فإن هناك ارتفاع كبير في الإيجارات في مصر خلال الربع الأول من العام 2023 مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. في المتوسط، ارتفعت الإيجارات بنسبة 24 بالمئة، مع زيادة بنسبة 22- 30 بالمئة في الوحدات السكنية في حالة التملك؛ وبناء عليه استغل مُلاك العقارات في مصر توافد ما يزيد عن 300 ألف لاجئ سوداني منذ اندلاع الحرب، يضافون إلى أكثر من 5 ملايين سوداني مقيم في مصر، حسب وزارة الخارجية المصرية، ليرفعوا من القيمة الإيجارية. ليبدو أن مُلاك العقارات هم الفئة الوحيدة المستفيدة، فيما تضرر المستأجرون المصريون وزادت الأعباء على السودانيين إلى حد الاستغلال، وذلك في غياب دور الدولة لضبط تلك العلاقات الإيجارية.

يقول اسحق القادم من دارفور إنه تحدث إلى وسيط عقاري سوداني مقيم في القاهرة منذ سنوات، وساعده في الحصول على شقة في شرق مدينة نصر، ويضيف: “ليس لدي مشكلة حتى الآن في سداد القيمة الإيجارية المتمثلة في 1000 دولار أي ما يوازي 31 ألف جنيه مصري، فقد تشاركت مع أسرتين في الشقة، لنصبح 15 شخصًا تتوزع القيمة الإيجارية فيما بيننا”. وقد عبّر عن قلقه من استمرار تدهور الأوضاع في السودان ورغبته في البدء الفوري في البحث عن عمل قبل أن تنتهي مدخراته ويصبح مشردًا إذا ما استمرت الحرب لوقت أطول؛ خاصة وأنه لم يستطع وأسرته التحصل على كافة أمواله في السودان.

ما المشهد بالتحديد؟

وفق وسيط العقارات محسن محمود، فقد ارتفعت القيمة الإيجارية من قبل بعض المؤجرين في منطقتي فيصل والهرم بمحافظة الجيزة بشكل مبالغ فيه؛ نظرًا لازدياد الطلب من السودانيين الجدد. فعلى سبيل المثال، في منطقة “اللبيني”، وصلت إيجارات بعض الشقق المفروشة إلى 20 ألف جنيه شهريًا (650 دولار)، وفي “عزبة جبريل” والتي تمثل تمركز سكني عشوائي ارتفعت القيمة الإيجارية إلى 3 آلاف جنيه (100 دولار) للوحدة السكنية. في المقابل تراوحت القيمة الإيجارية في حي العجوزة ما بين 5 آلاف إلى 25 ألف جنيه (160- 820 دولار).

ويضيف محسن أنه تلقى طلبات من أسر مصرية بقصد عرض مسكنها الخاص للإيجار المفروش، واصفًا الأمر بأنه: “حالة من الهوس بدأت تصيب الملاك، للحصول على دخل إضافي يساعدهم في مواجهة التدهور الاقتصادي، فإيجار شهر واحد يوازي راتب 5 أشهر في المتوسط”. ما يظهر أن هناك حالة من الاستغلال المباشر لحاجة اللاجئين للسكن، وعدم وجود بدائل أمامهم.

وقد انتشرت ظاهرة الوسيط العقاري السوداني؛ فقد وجد العديد منهم عملًا يستطيع من خلاله الحصول على بعض من الأموال التي تمكنه من الاستقرار. فيقوم اللاجئ باستجلاب أقاربه ومعارفه من السودان، ويتفق مع الوسيط المصري على توفير منزل، ثم يقتسمان قيمة تلك الوساطة، ليصبح ذلك سوقًا رائجًا للغاية، ولا يتوقف الأمر حد الحصول على وحدة سكنية بنظام الإيجار فقط؛ بل إن سودانيين من الطبقة فوق المتوسطة أصبحوا يميلون إلى امتلاك وحدات سكنية مناسبة، على سبيل المثال تم شراء 74 وحدة سكنية من سودانيين في مطلع أيار/ مايو الماضي في مدينة نصر فقط.

وقد سادت حالة من التعاطف مع وضعية اللاجئين وسط المصريين؛ إلا أن هناك أصوات تصاعدت لإجبار النظام على تنظيم التعاقدات لحماية جميع الأطراف. تقول عُلا، والتي تستأجر صالونًا للتجميل في حي الهرم، إنها لم تستطع هي وزوجها أن يستأجرا منزلًا جديدًا يناسب رواتبهم؛ نظرًا لتفضيل المؤجرين في الأشهر الماضية المستأجر السوداني عن المصري، وقد ارتفعت القيمة الإيجارية بالنسبة للمصريين عن السابق، معلقة: “استأجرت شقتي بـ1500 جنيه (50 دولار)، والآن يطلب مني مالكها إما رفع القيمة إلى 4 آلاف جنيه شهريًا (130 دولار) أو إخلائها فورًا مطلع الشهر القادم وعدم تجديد العقد”. فيما لجأت خلود إلى فنادق رخيصة لاستكمال إقامتها في القاهرة، وقد تعرضت لمضايقات عدة بسبب رغبتها في استئجار منزل، متساءلة: “لماذا لا يكون هناك لجنة لتحديد أسعار الإيجارات، وأين رقابة الحكومة على السوق لحماية المستهلك المصري أو الأجنبي؟”.

هنا يجيب المحامي الحقوقي محسن بهنسي، قائلا إن سوق العقارات سوق عرض وطلب، وتحت وطأة الحاجة يقبل الوافد القيم الإيجارية المرتفعة في بعض المناطق، بينما هناك مناطق أخرى لم تتعرض لارتفاع الإيجارات. شارحًا: “في الماضي وجدت لجان تحديد أسعار وفقًا للقانون 49 لسنة 77، والقانون 136 لسنة 81، بمقتضاه تحدد العلاقة بين المؤجر والمستأجر وبموجبه يستطيع أي طرف اللجوء للمحكمة في حال حدوث خلاف، لتعيين لجنة خبراء تحدد القيمة الإيجارية. وقد استمر الوضع حتى صدور القانون 4 لسنة 94، والذي أطلق مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وحرر العلاقة بين المالك والمستأجر، ليطلق يد المالك في تحديد مدة الإيجار والقيمة الإيجارية كيفما يشاء، ومن هنا بالتحديد يأتي الاستغلال للسودانيين في أزمتهم الأخيرة، وأرى أن الدولة تدفع في هذا الاتجاه رغم قدرتها على فرض قرارات لتنظيم تلك العلاقات وحماية اللاجئين والمصريين على حد سواء”.

 

انتهاكات وصعوبات

اختارت “بركة” أن تفِد إلى مصر؛ رغم انفصالها عن زوجها الذي لم يستطع بعد العبور من المعبر البري، لصعوبة الإجراءات والتكدس عن الأيام الأولى للحرب. لكنها ترى أن مصر محطة مناسبة للهجرة لأسباب عديدة منها قربها من السودان، وكذلك الثقافة المشتركة وتشابه العادات والتقاليد، فضلًا عن التسهيلات التي قدمتها الحكومة المصرية في بداية الأزمة للاجئين، لكنها ترى أن هناك بعض الانتهاكات التي تتعرض لها في الشارع المصري، مثل التهكم على مظهرها وصعوبة الحصول على عمل بمؤهلها الجامعي، فلم تجد أمامها سوى العمل كمساعدة منزلية براتب لا يكفيها استئجار منزل، كما أنها تعرضت لمضايقات لفظية وتحرش لأكثر من مرة، ولا تجد سبيلًا لتقديم شكوى قانونية خوفًا من ترحيلها. وقد حاولت اللجوء إلى مفوضية اللاجئين لتسجيل نفسها، لكنها تنتظر حتى اللحظة إجراء المقابلة.

وحسب موقع المفوضية، فإنها تشهد إقبالاً متزايداً من الوافدين السودانيين إلى مصر للتواصل وطلب التسجيل، وفي تموز/ يوليو 2023 بلغ عدد الذين تم تسجيلهم بالفعل 7336 أسرة (15617 فرداً). وتعمل المفوضية على التسجيل والحماية والاستقبال والدعم للاجئين وطالبي اللجوء فيما يتعلق بالسكن والخدمات العاجلة الأخرى. وغالبًا ما يجد اللاجئون صعوبة في دفع تكاليف الإقامة والمعيشة، فيلجأون إلى المفوضية والتي بدورها تعاني من تكدس الطلبات المقدمة؛ ما أدى بدوره إلى طول فترة الانتظار لتسجيل اللاجئ قد تبلغ 66 يومًا في المتوسط؛ ما يسهم في زيادة مشكلات اللاجئين الاقتصادية؛ خاصة الذين يعتمدون بشدة على المساعدة الإنسانية، ويعيشون في أحياء مكتظة في مدن فقيرة (في الغالب في الإسكندرية والقاهرة والجيزة والقليوبية ومحافظات الشرقية). وتزيد تكاليف المعيشة والعقبات القانونية التي تحول دون الوصول إلى العمل الرسمي من سوء وضع كثير من اللاجئين.

تعليقًا، يؤكد نور خليل -المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين في مصر-، وجود أزمة كبيرة يواجهها النازحون/ات الجدد من السودان وخاصة النساء والأطفال فيما يتعلق بأسعار السكن. ويشير إلى أنه يجب التفريق بين عدة مشكلات تواجه اللاجئين؛ الأولى وهي مشكلة المسكن الآمن الذي يمكن أن يحصل فيه الشخص علي قدر من الخصوصية والأمان وخاصة النساء، ومن المعروف في مصر أن المناطق التي يمكن العثور فيها على منازل بهذه المواصفات أسعارها مرتفعة في الأوضاع العادية، وفي أوضاع النزوح وزيادة الطلب تتضاعف الأسعار، هذه المشكلة تضطر العديد من النساء للبحث عن منزل في مكان قد لا يكون آمن بالنسبة لوضعهن أو يضطررن للعيش في منازل مشتركة مع أشخاص آخرين. والمشكلة الثانية: ارتفاع الأسعار ناتج عن قصد العديد من النازحين/ات لنفس المناطق والوجهات التي يمكن أن يجدوها فيها مجتمع سوداني يستطيعون الاندماج معه أو أقرباء لهم؛ فيرتفع الطلب على السكن ما يزيد من جشع بعض الملاك ويقومون برفع الأسعار.

ويضيف: “تؤثر حركة رفع الأسعار على اللاجئين والمهاجرين من نفس الجنسيات الذين يعيشون في هذه المناطق وعلى المصريين أيضًا. وعليه تتشارك بعض العائلات نفس المسكن ويتقاسمون الإيجار”. ويعزي موافقة السودانيين على عمليات الاستغلال إلى أن العديد منهم يعتقدون بعودتهم في وقت قريب إلى بلدهم، ما يدفعهم لإنفاق معظم مدخراتهم في الشهور الأولى، ونتيجة لذلك ربما يتعثرون لاحقًا في سداد المستحقات بعد استنفاد مدخراتهم وعدم وجود فرص عمل كافية، إضافة إلى صعوبة الحصول على تصريح عمل يمكن من خلاله توفير مصاريف المعيشة الأساسية. وقد وردت العديد من الحالات المماثلة إلى “منصة اللاجئين” ممن يعانون من عدم توافر مسكن، وتقوم المنظمة على مساعدتهم من خلال الإحالة والتوجيه لمجموعات دعم اللاجئين والمهاجرين والجمعيات والمنظمات لتوفير حلول مؤقتة في بعض الأحيان. كما يواجه كثير من اللاجئين تعنت من المالكين وعدم الالتزام بتوقيع عقود إيجار رسمية، حتى يتسنى لهم طردهم في أي وقت. ولا توجد قنوات رسمية للاجئ للشكوى، إلا في حالة تسجيله لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.

ويلقي المدير التنفيذي لمنصة اللاجئين المسؤولية على الدولة بشكل أساسي في ضبط عمليات الاستغلال وإتاحة المسارات القانونية للتقاضي والشكوى، وحسب قوله فإنه أمر ضروري بالنسبة لتنظيم تواجد الأجانب داخل الدولة، كما أن المسؤولية تقع على الدولة أيضا فيما يخص تنظيم عملية سكن النازحين، خاصة وأن الحكومة المصرية حصلت على تمويل مطلوب من الاتحاد الأوروبي بخصوص الاستجابة لحركة النزوح من السودان. على الجانب الآخر يواجه اللاجئون مشكلات في التعامل مع مفوضية اللاجئين، بداية من طلب موعد للتسجيل ووصولا لطلب الحماية أو المساعدة، ومقدار الدعم المقدم.

فهل ننتظر حلًا من السلطات للتحكم في أسعار العقارات، أو يتخلى أصحاب العقارات عن رغبتهم في تحصيل المزيد من الأموال على حساب اللاجئين، وتخرج قرارات بتنظيم العلاقات الإيجارية بين كافة الأطراف أم تتخلى الدولة عن دورها في حماية اللاجئين والمواطنين من هذه الأزمة السكنية الطاحنة؟.

رباب عزام
صحفية استقصائية مصرية، مهتمة بالصحافة الحقوقية والعمالية، ومقدمة برامج إذاعية، وباحثة في دراسات شرق إفريقيا الناطقة بالسواحيلية.

Search