التفويض يضرب من جديد.. ماذا تعني دعوات تأييد السيسي غدًا؟

التفويض يعود إلى مصر من جديد، لكن هذه المرة، عبر القضية الفلسطينية


في العام 2013، دعا الفريق أول عبد الفتاح السيسي (قائد القوات المسلحة المصرية حينئذٍ، والذي لم يكن بعد قد انتخب رئيسًا للدولة)، المصريين، إلى النزول في تظاهرات حاشدة في الميادين العامة في كافة أنحاء الجمهورية؛ وذلك لمنحه “تفويضًا أول” يقضي بتمكينه من محاربة الإرهاب وعناصره. جاء ذلك بعد إطاحة الجيش في يوليو من العام 2013 بالرئيس المنتخب محمد مرسي وحكومته ونظامه المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين (والتي صنفت لاحقًا وفق أحكام قضائية بكونها جماعة إرهابية محظورة). وذلك بعد أن تصاعدت الخلافات بين مؤيدين لتدخل الجيش وعزل الرئيس وبين معارضين لرحيل “مرسي” وخارطة الطريق التي أقرها الجيش؛ ما أنتج اشتباكات عنيفة قتل على إثرها 150 مصري، وحتى حديث التفويض في نهاية تموز/ يوليو من نفس العام.

ووفق خبراء، لم يكن السيسي حينئذ بحاجة إلى تفويض شعبي، نظرًا لسيطرة قواته الفعلية على المشهد الداخلي بعد عزل “مرسي”؛ لكنه أراد رسم صورة أمام المجتمع الدولي الذي انتقد وقتها (جزئيًا) الطريقة التي يحتجز بها النظام ما دُعي بأول رئيس مدني منتخب في مصر (رغم خلفيته الدينية الرامية إلى تأسيس دولة خلافة إسلامية كبرى). صورة مفادها تأييد شعبي جارف لما سوف يتخذه لاحقًا من إجراءات؛ أبرزها ما عرف إعلاميًا بمذبحة رابعة في آب/ أغسطس من نفس العام. وقد استغل التفويض الهادر والحشود الكبيرة بعدها في صد أي معارضة تتهمه بالعنف أو تجاوز الإجراءات المقبولة، وخرج ليرد بأن الجموع الشعبية هي من طلبته ودفعته إلى هذا المكان؛ وعليه لابد أن يحتملوا كافة قراراته التي ستتخذ لاحقًا باسم التفويض الشعبي.

حزب الكنبة

“حزب الكنبة” تسمية أطلقت على الأغلبية الصامتة من الشعب المصري التي تمثل ما يزيد عن 70 في المئة من تعداده الرسمي، وهم فئة لا تنتمي إلى أية تيارات سياسية أو حركات منظمة؛ وإنما واظبوا على البقاء صامتين في مواجهة الأحداث، وغلب عليهم السعي وراء لقمة العيش. ورغم ذلك فقد استطاع نظام السيسي في بدايته، حشدهم بخطابات عاطفية لتأييد قرارات مصيرية، ومثلوا منذ عهد مبارك العامل الرئيس في كل الاستحقاقات الانتخابية، إلى أن أصبحت تلك الحشود نفسها “غاضبة” تجاهه؛ نتيجة سياسات اقتصادية صارمة، قصمت ظهورهم (وفق وصف كثير منهم)، ما أدى إلى تآكل شعبية السيسي تدريجيًا، لتصل إلى مداها بعد خنق المعارضة وإلقاء القبض على كل من يرفع صوته محتجًا، وصولًا إلى قمع قيادتين عسكريتين حاولا الترشح أمامه في انتخابات العام 2018 (الفريق سامي عنان، رئيس الأركان السابق، والفريق أحمد شفيق، رئيس الوزراء السابق)؛ الأمر الذي أدى إلى نجاح البرلماني السابق أحمد الطنطاوي، والذي اعتزم الاشتباك في معركة انتخابية لم تكتمل، في خلق حراك غاضب في الشارع المصري، نتج عنه تظاهرات أمام بعض مقار مكاتب التوثيق (الشهر العقاري)، وإعادة استخدام شعارات ثورة العام 2011 التي أسقطت نظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وأبرزها: “عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية”، حتى وصلت في بعض المناطق إلى ترديد شعار: “يسقط حكم السيسي”، وذلك قبل أن يتمكن ونظامه من قمع حملة الطنطاوي وطرده خارج سباق الانتخابات الرئاسية المرتقبة للعام 2024؛ ووفق محللين سياسيين، فالسيسي لم يحتمل وجود منافسة انتخابية حقيقية يدرك جيدا أن نتائجها لن تكون في صالحه بعد تدهور شعبيته.

ورغم ذلك جاءت حرب غزة الأخيرة والتي انطلقت في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، بعد أن اخترقت المقاومة الفلسطينية الداخل الفلسطيني المحتل وهددت سلطة الاحتلال بعد أسر جنود ومستوطنين، لتصبح المخرج الوحيد للسيسي أمام شعبيته المتدهورة، والتي استغلها جيدًا لصالحه؛ لتتحول الدفة إلى خروج تظاهرات شعبية مؤيدة لقرارات لم يتخذها بعد.

فكيف حدث الأمر؟

وفق الصحفي والروائي بلال فضل، فقد استند في حديثه إلى تسريبات لبعض العسكريين المقربين من السلطة، مع مجموعة شباب البرنامج الرئاسي، يتحدثون فيها عن ضرورة التحرك السريع لتفويض السيسي لفترة ثالثة، وكذا تفويضه بتأسيس مجلس أعلى للتخطيط والإدارة برئاسته كسلطة سيادية عليا مستقلة تعلو السلطة التنفيذية، على أن تتم طباعة هذا التفويض المعنون “وثيقة صوت مصر” وتوزيعها شعبيا للحصول على توقيعات ملايين المصريين، في نوع من الاستلهام العكسي لحركة تمرد (وثيقة تمرد كانت لسحب الثقة من الرئيس مرسي، اعتمادًا على توقيعات شعبية وليس صناديق انتخابية. ورغم التخطيط لذلك فإن السلطة ذاتها عاقبت أنصار الطنطاوي حين دعا إلى توقيع استمارات شعبية لتأييده، متهمة إياهم بالتزوير).

وتابع “فضل” في حلقة له على منصة “يوتيوب”، اليوم، تعليقًا على تظاهرات احتفالية السادس من أكتوبر الماضي، والتي انقلبت إلى هتافات غاضبة، بعد أن أدرك المصريون استخدامهم لإظهار الصورة على أنها تأييد شعبي للرئيس ونظامه، وإعادة انتخابه لفترة رئاسية ثالثة. مشيرًا إلى إعادة استخدام السلطة لتكتيكات نظام مبارك في جذب تأييد الشعب مرة أخرى، من خلال توجيه خطاب حماسي متعلق بقضية متأصلة في وجدان المصريين (القضية الفلسطينية). وإعطاء الضوء الأخضر لانطلاق تظاهرات داخل الجامعات المصرية بترتيب مسبق مع ما يعرف بـ”طلاب من أجل مصر” وهي حركات طلابية داخل الجامعات متصلة بجهات أمنية، وأيضًا تظاهرة محدودة للحركة المدنية أمام السفارة الأمريكية منذ يومين؛ إلا أنهم فوجئوا بخروج تظاهرات غير منظمة وحقيقية تهتف ضد كيان الاحتلال، على عكس الهتافات التي كانت تنوي السلطة استخدامها والتي تظهر دعم المواطنين للنظام وتفويضهم له، وآخرها التي بدأت عصر اليوم أمام نقابة الصحفيين، معلنة رفضها تفويض السيسي لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بسيناء وغزة.

ويشير الصحفي زيد بنيامين في مقال مترجم له، إلى كواليس الضغوط الممارسة على السلطة المصرية للسماح بإعادة توطين الغزاويين في سيناء المصرية، وإلى أنه في وقت متأخر من الأحد الماضي، أخطرت السلطات المصرية مسؤولي الحدود بالسماح لمواطنين أمريكيين بالعبور من غزة إلى رفح المصرية؛ إلا أنها تراجعت وأعلنت عدم السماح بعبورهم إلا بعد فتح المعبر لمرور المساعدات الإنسانية والفرق الطبية. ما أدى إلى لجوء الإدارة الأمريكية إلى دولة قطر، والتي لديها علاقات مع المقاومة الفلسطينية “حماس”، لإقناع الأخيرة بتسليم الأسرى ومرور العالقين من جنسيات غربية وموظفي الأمم المتحدة. كما أشار الصحفي إلى أن الاتحاد الأوروبي عرض على القاهرة أن يخصص جزء من المساعدات الإنسانية والمالية المقررة لقطاع غزة لمصر، كما أن هناك ضغطًا يمارس من دول عربية خليجية على السلطة للموافقة على تمرير صفقة القرن التي تسمح بإعادة توطين سكان غزة في سيناء وإنهاء القضية الفلسطينية للأبد، في مقابل عودة المساعدات المالية والقروض الخليجية التي تراجعت منذ فترة.

تحليل للمشهد

وفق محللين سياسيين تحدثوا إلى “زاوية ثالثة” طلبوا عدم ذكر اسمهم، فإن السيسي، قرر أنه لن يغادر كرسي الحكم في القاهرة قبل تنفيذ كافة مخططاته غير المعلنة. وقد استغل المشهد الأخير لحرب غزة لإعادة السيطرة على الموقف، وإعادة تصويره على أنه المنقذ الذي يحتاج تفويضًا شعبيًا جديدًا، لإدارة الأزمة. وفي ظل تلك الخطة، بدأت رجالات الدولة في تنظيم تظاهرات مدفوعة في كافة القطاعات العمالية والطلابية وغيرها، منددة بالعدوان على غزة، إضافة إلى الهتاف للرئيس وتأييده. حتى إن هناك دعوات انطلقت لمليونيات تنطلق صباح غد الجمعة، من المساجد الكبرى على مستوى الجمهورية، لتفويض الرئيس لحل المسألة.

وقد انعقد مجلس النواب المصري، اليوم، لمنح السيسي تفويضا باتخاذ الإجراءات الكفيلة بحماية الأمن القومي واتخاذ ما يراه من إجراءات كفيلة بتأمين حدود مصر الشرقية، وحماية الأراضي المصرية. والوقوف ضد مخطط كيان الاحتلال، الرامي إلى نزوح الفلسطينيين من قطاع غزة وتوطينهم في سيناء. كما انعقدت مساء أمس الأربعاء، جلسة مجلس الشيوخ المصري (الشعبة الثانية للبرلمان)، انتهت بتفويض السيسي باتخاذ كل ما يراه مناسبا للوقوف بجانب الفلسطينيين وحماية الأمن القومي المصري والعربي.

تعليقًا، قال خبير في الشأن السياسي المصري، إن السيسي دخل “مساومة” محسوبة ضد المجتمع الدولي الذي أصبح غاضبًا منه، وقد استخدم ورقة فلسطين المقربة من الشعب المصري، للضغط دوليًا لبقائه في السلطة، عبر إظهار ضغوط شعبية رافضة لصفقة القرن وقصف قطاع غزة. وحسب الخبير، فإن تحركات النظام جاءت كرد فعل على قرارات وتلميحات من المجتمع الدولي في الأسابيع التي سبقت حرب غزة، لعل أبرزها، تلويح “بن كاردين” الرئيس الجديد للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، في مطلع أكتوبر الجاري بوقف المعونة الأمريكية العسكرية عن مصر نهائيًا، وهي إحدى الضمانات الخاصة باستمرار معاهدة السلام في العام 1979، التي أقرها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مع كيان الاحتلال الإسرائيلي بحضور الولايات المتحدة الأمريكية كضامن لاستمرارها. وقد برر السيناتور الأمريكي ذلك بأن نظام السيسي مارس انتهاكات ضخمة ضد حقوق الإنسان في مصر (تقدم واشنطن مساعدات عسكرية لمصر تبلغ قيمتها نحو 1.3 مليار دولار سنويا، ويرتبط جزء صغير من هذه المساعدات– نحو 320 مليون دولار– بسجل القاهرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان).

وأضاف، أن تحركات البرلمان الأوروبي الحادة وتوصياته، خلال ما عرف إعلاميًا باسم “معركة التوكيلات” خلال الأسابيع الماضية، وما مورس فيها من قمع سلطوي تجاه مرشحي المعارضة وصل إلى منعهم من استكمال التوكيلات الخاصة باستيفاء أوراق ترشحهم لانتخابات الرئاسة، كان بمثابة القشة الأخيرة التي تهدد عرش السيسي. ما أجبره ونظامه على اللجوء لمسألة التفويض الشعبي عبر خداع الجماهير و إيهامهم بأنه رافض لصفقة القرن، والتي بدا في العام 2019 أن القاهرة مقتنعة بحتمية تنفيذها. مختتمًا: “هذه لعبة جديدة من النظام لترسيخ وجوده، وليس اهتمامًا حقيقيًا بالقضية الفلسطينية أو سيناء، وإلا لماذا أفرغ النظام سيناء من سكانها وأعاد بناء مدينة رفح الجديدة وبعض المناطق التي كان من المخطط أن تستوعب فلسطينيون من غزة بعد تهجيرهم؟”.

… وفي النهاية، تتصاعد ردود الأفعال الرافضة لمنح السيسي تفويضًا جديدًا بإدارة شؤون داخلية، داعية لتظاهرات من أجل القضية الفلسطينية دون الدخول كورقة رابحة في يد نظام شديد الجموح.



Search