سقوط الطاغية وأمل سوريا في الديمقراطية

دعوا السوريين يحتفلون، ففي الثامن من ديسمبر ذاقوا ما ذاقه أجدادنا عند سقوط الفاشية. يعلمون أن القادم أصعب، وأنهم مطالبون بإعادة بناء وطن من الرماد، وأن القوى الكبرى قد لا تتوانى عن إجهاض حلمهم
Picture of جيانلوكا سوليرا

جيانلوكا سوليرا

خمسة وأربعون عامًا ليست مجرد رقم، بل عمرٌ كامل اختُصر في جدران زنزانة باردة، تحت قبضة نظام اعتاد أن يجعل الزمن سلاحه الأشد فتكًا. هناك، في معتقل السويداء، حيث تتلاشى الأسماء وتُمحى الملامح، خرج رجل من ظلامٍ صنعه الطغيان، كما يخرج الأرنب من قبعة الساحر، لا بمعجزة، بل بإفلات اللحظة من قبضة المستحيل.

لم تكن عائلته تعرف عنه شيئًا. ليس لأنه اختفى وحسب، بل لأن النسيان كان جزءًا من العقاب. فمنظومة القمع لا تكتفي بحجز الجسد، بل تمحو أثر صاحبه، تنفيه إلى الفراغ، تجعله ظلًا معلقًا بين الحياة والموت. هذا هو قانون الطغاة: بينوشيه كان يُلقي بمعارضيه من الطائرات، رجال المافيا كانوا يذيبون خصومهم في الأحماض، أما نظام الأسد، فقد أبدع شكله الخاص من الإبادة: حياة تُسلب في زنزانة موحشة، حيث الألم ليس وسيلةً للقتل، بل لتمديد الموت لأطول فترة ممكنة.

لكن حتى أكثر الأنظمة وحشيةً تُبنى على أساس هش، وخلال أيام معدودة، انهار نظام قمعي اعتقد أنه خالد، بعدما التهمت آلته الحربية أرواح نصف مليون إنسان في مذابح بدت وكأنها بلا نهاية.

في الثامن من ديسمبر، وبينما كنتُ أتابع احتفالات السوريين في شوارع برلين، اتصلت بي أختي تسأل عن الكارثة السورية، وعن الجهاديين الجدد. لم أسمعها بوضوح، فقد كان ضجيج السيارات التي تحمل أعلام الثورة السورية يعلو على كل شيء. وحين استوعبت السؤال أخيرًا، جاء ردي تلقائيًا، وربما متسرعًا: “دعهم يحتفلون الآن، سنجري التحليل لاحقًا، وربما هذه المرة دون نظاراتنا الاستشراقية.”

في مثل هذا اليوم، يحتفل المؤمنون الكاثوليك بعيد الحبل بلا دنس للسيدة مريم، ذلك اليوم الذي يرمز إلى الطهارة المطلقة. وللحظة، تساءلتُ إن كانت لهذه المصادفة دلالة أعمق، فقد بدا ما حدث في سوريا أقرب إلى المعجزة. متى كانت الديكتاتوريات تتهاوى هكذا؟ متى كان للتاريخ أن يتخلى عن نزوعه الأبدي لصالح القمع؟ وبينما كان السياسيون في العواصم البعيدة ينشغلون بحروبهم الدبلوماسية، كان السوريون الذين لم ينهزموا بعد ينهضون في إدلب، حيث احتشدوا منذ 2017، ليدفعوا جيش النظام إلى الفرار. البعض منهم لم يكن يملك سوى دراجة نارية وعزيمة غير قابلة للكسر، وكأن الإرادة وحدها تكفي لمواجهة ترسانة الطغيان.

استحضرتُ على الفور مشهد أولئك الـ 82 الذين وصلوا إلى سواحل كوبا على متن “جرانما” عام 1956، وكادوا يُبادون عند أول خطوة لهم، لكنهم وجدوا في الجبال والأدغال متسعًا لإعادة ترتيب صفوفهم، ليعودوا بعد ثلاث سنوات فقط، ويدفعوا باتيستا إلى الفرار.

لكن التاريخ ليس سهل الهضم على من يعتقدون أن الديمقراطية ليست للجميع. في 2015، عندما سُحق السوريون تحت وابل القصف الروسي والصواريخ الإيرانية، سألني أصدقاء من المعارضة السورية: “لماذا تتركوننا نموت؟ هل تعتقدون حقًا أن الديمقراطية ليست للعرب؟”

ربما كنت أعرف الإجابة منذ زمن، لكنني لم أشأ الاعتراف بها. والآن، أراها تتكشف أمامي بوضوح. في اليوم ذاته الذي تحرر فيه السوريون من طاغية دمشق، كانت صحيفة “لوموند” تضع الخبر على صدر صفحتها الرئيسية، وكذلك “الجارديان”، لكن “لا ريبوبليكا” لم تحتمل طويلًا ثقل هذا الحدث، وانتقلت في المساء لتغطية سباق الفورمولا 1 في أبوظبي. ومنذ الساعات الأولى لهذه اللحظة التاريخية، كانت الصحافة الأوروبية مشغولة بسؤال واحد: هل نحن على أعتاب خلافة جديدة؟

كان يمكن لهذه الأسئلة أن تبدو بريئة، لكنها في جوهرها تحمل ذات النزعة القديمة: حين يحاول العرب انتزاع حريتهم، يُنظر إليهم لا كأفراد يتوقون إلى العدالة، بل كقنبلة موقوتة تهدد “استقرار” العالم. أما الطاغية، الذي كان جلادًا حتى الأمس، فيغدو فجأة ضامنًا للأمن، ولو على حساب دماء الملايين.

لكن، هل الحرية لحظة؟ أم أنها اختبار يمتد إلى ما بعد سقوط الطاغية؟ السوريون يدركون أن فرحتهم اليوم لا تعني انتهاء المحنة، بل بداية مواجهة جديدة، حيث يتحول النصر إلى مسؤولية، والمستقبل إلى عبء ثقيل على أكتاف من عانوا القهر طويلاً. لقد انتزعوا لحظة الفكاك من قبضة المستبد، لكن السؤال الذي سيطاردهم: هل سيسمح العالم لهم بأن يكونوا أحرارًا حقًا؟

اتصلت برابطة المحامين السوريين الأحرار في غازي عنتاب، فأكدوا لي أن المعارضة قد نجحت في بناء قيادة عسكرية موحدة، تضم فصائل إسلامية وعلمانية، بينما بقيت خارجها قلة قليلة مرتبطة بالقاعدة. لكن، رغم هذا التماسك، لا تزال أصوات في الغرب ترثي الطاغية الذي رحل، متناسية أنه لم يكن ضامنًا للاستقرار، بل صانعًا للموت. هناك من يحنّ إلى “النظام” الذي كان يكمّم الأفواه بالسياط، ويزرع الخوف في كل زوايا سوريا، وكأن الاستقرار لا يتحقق إلا حين تصبح الأوطان مقابر جماعية.

كان الأب باولو دالّوليو (Paolo Dall’Oglio) محقًا حين قال إن الحرية لا تُقدر بثمن، وإن السوريين لن يستعيدوا مصيرهم بأيديهم إلا عندما يستعيدون وحدتهم. هذه ليست مجرد عبارة جميلة، بل قاعدة نجاة. فالطريق الذي يبدأ اليوم مليء بالألغام، ولحظة التحرر لا تعني شيئًا إن لم تتحول إلى مشروع للبناء، لا للتنازع والتشرذم.

ماذا يمكن أن يُقال بعد ذلك؟ دعوا السوريين يحتفلون، ففي الثامن من ديسمبر ذاقوا ما ذاقه أجدادنا عند سقوط الفاشية. يعلمون أن القادم أصعب، وأنهم مطالبون بإعادة بناء وطن من الرماد، وأن القوى الكبرى قد لا تتوانى عن إجهاض حلمهم، فمصالحها ليست في الديمقراطية، بل في الخرائط التي تُرسم بدم الشعوب. كما يدركون أنهم قد يجدون أنفسهم وحيدين مرة أخرى، وأن حتى الدول الديمقراطية قد تغض الطرف، منشغلة أكثر بإغلاق حدودها بدلاً من توسيع أفق الحرية.

ولكن لهذا تحديدًا، كان ما حدث معجزة، قلبت الموازين في الغرب كما في الشرق.

ما زلت غير قادر على تخيل شعور ذلك الرجل الذي أمضى خمسة وأربعين عامًا في عزلة مطلقة، والآن يتنفس الهواء الطلق لأول مرة منذ عقود، بعد أن سُرقت حياته منه، عامًا بعد عام. كيف يرى الشمس؟ كيف يصافح الحرية التي لم يعد يعرف ملامحها؟

على الأقل من أجله، ومن أجل كل من مرّوا بالكابوس ذاته، دعوا السوريين يحتفلون بهذه اللحظة التي تبدو أقرب إلى الخيال. قد تكون جيدة إلى حد يصعب تصديقه، لكنها حقيقية إلى حد يستحيل إنكاره.

جيانلوكا سوليرا
كاتب وناشط بيئي، درس التخطيط الإقليمي والحضري وأمضى سنوات عديدة كمستشار سياسي لحزب الخضر الأوروبي.

Search