لم يكن مينا صلاح يتوقع أن تتحوّل رحلة البحث عن مسكن إلى معركة طويلة مع مقاولين، أحدهم يشغل مقعدًا برلمانيًا وعضوية بلجنة الإسكان. بعد أن دفع مقدمًا لوحدة سكنية عبر وسيط خاص، اكتشف أن العقار مسجّل باسم شخص وهمي يُعرف في السوق باسم “كُحيل”، وأن عملية التسليم تماطل بلا نهاية. “بدأوا يطلبون أموالًا إضافية، ثم تحولت الضغوط إلى تهديدات غير مباشرة”، يقول في حديثه إلى زاوية ثالثة، مشيرًا إلى أنه اضطر في النهاية لبيع الشقة بخسارة.
من تلك التجربة، توجّه مينا نحو مشروعات الإسكان الاجتماعي التي تُعلن عنها الدولة باعتبارها بديلاً أكثر أمانًا. دفع 300 جنيه لشراء كراسة شروط ضمن مشروع “سكن لكل المصريين 3″، ثم سدد 22 ألف جنيه كمقدم حجز، وشرع في استكمال المستندات المطلوبة. لكن بعد شهرين من الانتظار، تلقّى رسالة تُخبره أنه خارج قائمة الأولوية. “كانت صدمة جديدة”، يعلّق، “لكنني قررت الانتظار للإعلان التالي.”
ويضيف مينا: “انتظرت حتى أعلن صندوق الإسكان الاجتماعي عن مشروع (سكن لكل المصريين 5)، فبدأت من جديد رحلة الأوراق. جمّدت مبلغ 30 ألف جنيه في قطعة ذهب كنت أحتفظ بها، ثم قمت ببيعها وسددت مبلغ جدية الحجز، إلى جانب كلفة كراسة الشروط. انتظرت نحو خمسة أشهر حتى وصلتني رسالة تفيد بانطباق الشروط عليّ مبدئيًا، شعرت وقتها بالارتياح. لكن بعد شهر إضافي، تلقيت رسالة جديدة تخبرني أنني خارج الأولوية، وأن عليّ انتظار الطرح المقبل، وشراء كراسة جديدة، مع استكمال مبلغ جدية الحجز الذي ارتفع في الإعلان الجديد إلى 50 ألف جنيه.” ويتساءل: “لماذا لا تؤجل وزارة الإسكان تحصيل قيمة الكراسات وجدّية الحجز إلى ما بعد إعلان المقبولين؟ ماذا تفعل بكل هذه الأموال التي تُحصّل مقدمًا؟”
على مدى العقد الأخير، برزت مشروعات الإسكان كأحد المحاور الأساسية في خطاب الدولة المصريّة، لا سيما مشروعات الإسكان الاجتماعي والمتوسّط التي تشرف عليها وزارة الإسكان وهيئة المجتمعات العمرانية، بهدف توفير مساكن بأسعار مدعومة للفئات الأقل دخلًا. غير أن تجارب متكررة لمواطنين مثل مينا تكشف عن صورة موازية خلف المشهد الرسمي: تأخيرات مزمنة في التسليم، غياب الشفافية بشأن مصير المدفوعات، وتضخم متكرر في مبالغ الجدية دون ضمانات واضحة. هذه المعطيات تثير تساؤلات حول آليات إدارة تلك الأموال، ومدى التزام الجهات الرسمية بمعايير الحوكمة والمسؤولية المالية تجاه المواطنين.
نوصي للقراءة: رغم التكلفة العالية… لماذا أخفقت المدن العمرانية الجديدة في جذب السكان؟
أين تذهب أموال الحاجزين؟
تتقاطع شهادات العديد من المواطنين الذين تحدثوا إلى زاوية ثالثة حول مشروعات الإسكان الاجتماعي، في وصف تجربة تتكرر بتفاصيلها: تأخر في مواعيد التسليم، ومصاريف إدارية غير قابلة للاسترداد، وكراسات شروط بلغت كلفتها في آخر إعلان 700 جنيه، رغم محدودية الوحدات المطروحة مقارنة بمئات الآلاف من المتقدمين في كل مرة. هذا الواقع يدفع كثيرين للتساؤل عن جدوى الإجراءات، وشفافية التعامل مع أموال المواطنين.
من بين هؤلاء، أحمد سالم، موظف حسابات في شركة خاصة بالجيزة، يروي تجربته قائلاً: “حين قررت التقديم في مشروع الإسكان الاجتماعي بمدينة السادس من أكتوبر عام 2020، كنت آمل أن أتخلّص من الإيجار المتكرر، خاصة بعد الارتفاع الكبير في الأسعار. سددت المقدم المطلوب، والتزمت بالأقساط الشهرية كما طُلب، وكان الوعد الرسمي واضحًا: تسليم الوحدة خلال 36 شهرًا كحد أقصى.”
لكن الموعد مرّ دون أي إشعار، ليدخل سالم في سلسلة استفسارات لم تُجدِ نفعًا. “ذهبت مرارًا إلى جهاز مدينة حدائق أكتوبر، وكل ما تلقيته كان عبارات فضفاضة: (جارٍ التنفيذ، المشروع في مراحله النهائية، التسليم قريبًا)، ولا شيء ملموس حتى الآن”، يضيف.
واليوم، وقد تجاوزنا منتصف عام 2025، لا يزال سالم بلا وحدة سكنية، ويعيش تحت وطأة التكاليف المزدوجة. “أدفع إيجارًا شهريًا مرتفعًا، وفي الوقت نفسه أواصل سداد قسط بنكي لشقة لم أتسلّمها، ولا أملك جدولًا زمنيًا واضحًا يشرح متى تنتهي هذه المعاناة”، يقول بغضب. ويتابع متسائلًا: “هل توظّف الوزارة أموالنا في مشروعات أخرى؟ ولماذا لا تُصدر بيانًا ماليًا واضحًا يشرح مصير المليارات التي جُمعت؟ نحن لا نطلب أكثر من التزام بالمواعيد، أو على الأقل تفسير صريح لهذا التأخير.”
في عام 2022، حصلت منى عبد الجليل، 44 عامًا، وهي موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص في المنصورة، على رقم حجز لوحدة سكنية ضمن مشروع “سكن مصر” بمدينة المنصورة الجديدة، على أمل مغادرة شقتها المؤجرة والاستقرار في سكن مملوك يوفر لها الأمان الاجتماعي والاقتصادي. لكن منذ ذلك الحين، لم تتلقَّ أي إشعار واضح بشأن التسليم. تقول في حديثها إلى زاوية ثالثة: “تواصلت مرارًا مع الجهات المختصة عبر الخط الساخن والبريد الإلكتروني، وكان الرد دائمًا واحدًا: (جارٍ تنفيذ المشروع).”
وتضيف: “ما يثير قلقي أن التحصيل المالي يتم بدقة صارمة، في حين لا نجد ذات الدقة في الإنجاز أو احترام المواعيد. أتنقل كثيرًا بسبب طبيعة عملي، وكان من المفترض أن يمنحني السكن الجديد قدرًا من الاستقرار، لكنه تحول إلى مصدر ضغط نفسي دائم.” وتتساءل: “إذا كانت الجهات المنفذة تعلم منذ البداية أن التمويل غير مكتمل، أو أن الجدول الزمني غير واقعي، فلماذا طُرح المشروع؟ أين ذهبت أموالنا؟ وإذا لم تكن هناك نية للتربح، فهل تُستخدم هذه الأموال في مشاريع أخرى دون علمنا؟ هذا الغموض يثير الشكوك.”
من الإسكندرية، يروي خالد فتحي، 40 عامًا، موظف بالقطاع العام، قصة مشابهة. يقول: “منذ عام 2020 وأنا أسدد أقساط وحدة سكنية بمشروع الإسكان الاجتماعي في مدينة برج العرب الجديدة. المشروع قُدّم بوصفه منارة حضارية، لكن على الأرض، لا تزال المنطقة غير مأهولة، والمرافق الأساسية كالكهرباء والمياه والطرق لم تكتمل، رغم أن الآلاف قد دفعوا كامل مستحقاتهم.”
ويضيف: “ما يدعو للاستغراب أن هيئة المجتمعات العمرانية أعلنت تحقيق فوائض بمليارات الجنيهات من هذه المشروعات، فكيف لا ينعكس ذلك على معدلات التنفيذ؟ هل هناك فجوة بين ما يُحصّل وما يُنفّذ؟ أم تُستخدم هذه الأموال مؤقتًا لسد عجز مشروعات أخرى؟”
ويختتم حديثه قائلًا: “بعض الأصدقاء يعتقدون أن التأخير سببه ضعف الإدارة، لكنني أرى أن المشكلة أعمق، وتتعلق بغياب الرقابة والمحاسبة. نحن لا نطلب أكثر من شفافية في إدارة أموالنا، وجدول زمني واضح، وتعويض عند التأخير. من حقنا أن نعرف: هل تتربح الدولة من أموال حاجزي الإسكان؟ وإذا لم يكن ربحًا مباشرًا، فهل تُوجّه هذه الأموال لجهات أخرى على حساب المستفيدين الفعليين؟”
في المقابل، أرجعت وزارة الإسكان أسباب تأخر تسليم وحدات الإسكان الاجتماعي والمتوسط إلى عوامل خارجية، في مقدمتها الأزمات الاقتصادية العالمية التي أثرت على سلاسل التوريد ورفعت أسعار مواد البناء، مما أدى إلى تباطؤ واضح في معدلات التنفيذ. وفي تصريحات صحفية، أكد الدكتور عاصم الجزار، وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية السابق، أن بعض التأخيرات كانت “خارج إرادة الوزارة”، مشددًا على أن الجهود مستمرة لتسليم الوحدات المتأخرة ضمن الجداول الزمنية المُعلنة.
من جانبه، أشار الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، إلى أن تحرير سعر الصرف وارتفاع تكلفة مواد البناء دفع بعض شركات المقاولات إلى التوقف عن التنفيذ، ما استدعى تدخلًا حكوميًا تمثل في إصدار قانون لتعويض المقاولين ومنحهم مهلة إضافية تصل إلى تسعة أشهر لاستكمال مشروعاتهم.
أما مي عبد الحميد، الرئيس التنفيذي لصندوق الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري، فقد صرّحت في أكتوبر 2024 أن الصندوق بدأ فعليًا تسليم الوحدات المتأخرة بوتيرة تتراوح بين 8 إلى 10 آلاف وحدة شهريًا، متوقعة الانتهاء من تسليم كافة الوحدات المتأخرة خلال عام 2025.
وفيما يتعلق بالمشروعات المتعثرة في مدينة العلمين الجديدة، أقر المهندس شريف الشربيني، وزير الإسكان والمجتمعات العمرانية، بوجود تأخيرات في تسليم بعض الوحدات، مشيرًا إلى عقد اجتماعات مكثفة مع الشركات المنفذة والمكاتب الاستشارية بهدف تسريع معدلات الإنجاز، مع خطة للتسليم التدريجي تبدأ من منتصف أغسطس 2024 وتمتد حتى منتصف العام الجاري.
ولتحفيز الأداء في المدن الجديدة، أصدر الشربيني نهاية عام 2024 حزمة من 11 تكليفًا لقيادات أجهزة المدن، تضمّنت مضاعفة وتيرة العمل، ووضع جداول زمنية دقيقة لاستكمال وحدات المبادرة الرئاسية “سكن لكل المصريين”، مع التشديد على المتابعة المستمرة لتنفيذ القرارات والتوصيات الصادرة عن الاجتماعات الدورية لضمان الالتزام بالمواعيد المقررة.
نوصي للقراءة: هل يواجه 6 ملايين مواطن خطر الإخلاء؟ الوجه الآخر لتعديلات قانون الإيجار القديم
جيب المواطن كحل لأزمة الحكومة
يرى الدكتور كريم العمدة، أستاذ الاقتصاد السياسي، أن الدولة باتت تعتمد بشكل متزايد على المواطنين كوسيلة مباشرة لامتصاص الأزمات الاقتصادية، مؤكدًا أن “جيب المواطن البسيط أصبح الخيار الأول، وربما الأوحد، لمعالجة الاختلالات المالية، سواء لدى الحكومة أو الهيئات الاقتصادية المختلفة.”
وفي سياق تعليقه على أزمة تأخر تسليم وحدات الإسكان الاجتماعي والمتوسط، يشير العمدة إلى تحوّل دور الدولة من جهة داعمة للإسكان الاقتصادي إلى منافس فعلي للقطاع الخاص، من خلال إطلاق مشروعات سكنية متوسطة وفاخرة مثل “سكن مصر” و”دار مصر” و”جنة”، والتي تُقدم كمشروعات كاملة التشطيب بمواصفات مرتفعة، أقرب إلى نموذج المطور العقاري التجاري منها إلى المبادرات الحكومية الداعمة للفئات محدودة ومتوسطة الدخل.
ويضيف: “استمرار احتجاز أموال المواطنين لفترات طويلة قبل تسليم الوحدات، دون مقابل أو عائد، يمثل ممارسة غير عادلة من منظور اقتصادي. عندما تسدد مواطنة ثمن وحدة كاملة وتظل سنوات في الانتظار، فإن الدولة تكون قد حصلت عمليًا على تمويل مجاني، دون التزام بتقديم عائد أو حتى احترام الجدول الزمني.”
وينبّه العمدة إلى أن هذه الظاهرة تتسع في سياق ارتفاع أسعار الفائدة، التي تجاوزت 27% في مصر خلال العام الماضي، ما يجعل الاحتفاظ بالسيولة أمرًا جذابًا للجهات الحكومية المنفذة، بينما يتحمل المواطن وحده كلفة التجميد المالي والخسائر الناتجة عن التأخير.
ويختم بالإشارة إلى أن ما يحدث في بعض مشروعات الإسكان يعكس نمطًا اقتصاديًا قائمًا على تأجيل الحلول الفعلية، حيث تُستخدم مدفوعات الحاجزين لتغطية أزمات مالية مؤقتة، ثم تُسلّم الوحدات بعد سنوات بنفس القيمة الاسمية، رغم أن قيمتها الحقيقية تكون قد تآكلت بفعل التضخم وفقدان القوة الشرائية، وهو ما يمثّل في النهاية نوعًا من النقل القسري للعبء المالي من الدولة إلى المواطن.
من جانبه، يعتبر المحامي المتخصص في الحقوق والحريات، ياسر سعد، أن ما يجري في بعض مشروعات الإسكان الاجتماعي والمتوسط “يرقى قانونيًا إلى جريمة نصب مكتملة الأركان”، مشيرًا إلى أن قانون العقوبات المصري يعرّف النصب على أنه إيهام الغير بمشروع وهمي بغرض الحصول على أموال حقيقية، دون تقديم ضمانات أو التزامات فعلية.
وفي حديثه إلى زاوية ثالثة، يوضح سعد أن الإشكالية الأساسية تكمن في غياب الشفافية: “المواطن يدفع مقدمات وأقساطًا على مشروع لا يعرف متى يُسلّم، ولا ما إذا كان سيُسلّم أصلًا، ولا عدد الوحدات المطروحة، ولا معايير الاختيار، وهو ما يتعارض مع قواعد قانون المناقصات والمزايدات، الذي يلزم الجهة الطارحة بتحديد كل تفاصيل المشروع بدقة قبل جمع أي أموال.”
ويشير إلى أن الآلية التي تعتمدها بعض الجهات الحكومية تشبه من الناحية القانونية سلوك الأفراد الذين يُحاكمون بتهمة جمع الأموال دون سند قانوني: “غالبًا ما يُحال المواطن العادي إلى النيابة أو محكمة الأموال العامة إن مارس سلوكًا مماثلًا، رغم أن ما تقوم به الدولة في هذه الحالات لا يختلف من حيث الجوهر.”
ويؤكد سعد أن الجريمة لا تتوقف على نتيجة الاسترداد، بل على نية التحصيل وسياقه: “كثيرون يعتقدون أن النصب لا يكتمل إلا إذا لم تُرد الأموال، لكن من الناحية القانونية، الجريمة تتحقق منذ لحظة طرح مشروع وهمي بغرض جمع الأموال، حتى لو تمت الإعادة لاحقًا.” ويضيف: “إذا استلمت جهة رسمية مبلغًا ماليًا من مواطن، ثم أعادته له بعد خمس سنوات دون احتساب قيمته الشرائية وقت الدفع، فهذا يُعد شكلًا من أشكال الاستيلاء غير المشروع.”
ويختم بالتشديد على أن “الاحتجاج بأن هذه ممارسات معتادة أو متبعة في دول أخرى لا يُعفي من المسؤولية. نحن أمام مخالفة قانونية صريحة لا يمكن تفسيرها إلا باعتبارها سلوكًا يقع تحت طائلة جريمة النصب، حتى وإن تم تحت غطاء رسمي.”
من يمول مشروعات الإسكان؟
تعتمد المشروعات إلى حد كبير على بيع الوحدات، وقد خصصت الحكومة المصرية 390 مليار جنيه في 2020 لبرنامج الإسكان الاجتماعي، مع إنفاق سنوي متوسط يبلغ حوالي 8.3 مليار جنيه على مدار سبع سنوات مالية. يتكون هذا التمويل من 40% أموال حكومية مباشرة، 24% من إيرادات بيع الوحدات السكنية، و17% من القروض المحلية. كما قدم البنك المركزي المصري دعمًا كبيرًا من خلال تخصيص 20 مليار جنيه في 2014 و20 مليار جنيه إضافية في 2019 لتمويل الرهون العقارية بأسعار فائدة منخفضة، مما ساعد في توفير وحدات سكنية بأسعار معقولة للأسر ذات الدخل المنخفض.
من الخارج، يُعتبر البنك الدولي أحد أبرز المساهمين في تمويل مشروعات الإسكان الاجتماعي في مصر. في عام 2015، قدم البنك الدولي قرضًا بقيمة مليار دولار أمريكي لدعم برنامج الإسكان الاجتماعي ضمن مشروع “التمويل الإسكاني الشامل للنتائج”، والذي ركز على تقديم دعم مالي للأسر ذات الدخل المنخفض وتعزيز مبادرات مثل نظام الهرم الأخضر للتقييم البيئي. كما وافق البنك الدولي في مارس 2020 على تمويل إضافي بقيمة 500 مليون دولار لتوسيع نطاق صندوق الإسكان الاجتماعي والتمويل الإسكاني، مع تشجيع مشاركة القطاع الخاص في هذه المشروعات.
وتتولى وزارة الإسكان، المرافق، والمجتمعات العمرانية إدارة هذه الأموال من خلال صندوق الإسكان الاجتماعي، الذي ينسق التمويل والتنفيذ. يتعاون الصندوق مع عدة جهات، مثل صندوق الضمان والدعم لتدقيق الطلبات وتخصيص الدعم، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة لبناء الوحدات، والجهاز المركزي للتعمير، وإدارات الإسكان بالمحافظات. كما يلعب البنك المركزي المصري دورًا من خلال تقديم قروض بأسعار فائدة منخفضة.
نوصي للقراءة: ثكنات تجارية: كيف أصبح الجيش لاعبًا اقتصاديًا أول؟
فجوة بين العرض والتنفيذ
تتبعت زاوية ثالثة من خلال رصد تصريحات مصادر وبيانات رسمية وتقارير صحفية أعداد طلبات حجز وحدات الإسكان الاجتماعي في مصر خلال السنوات العشر الماضية (2014-2024) ليتضح وجود فجوة ضخمة بين أعداد المتقدمين لحجز الوحدات وأعداد المستفيدين من المشروعات فعليًا. فعلى مدى عشر سنوات تقدّم نحو 3 ملايين مواطن لحجز وحدات إسكان اجتماعي بحسب تقديرات رسمية، في حين استلم وحدات سكنية حقيقية نحو نصف مليون أسرة فقط.
في عام 2011، أعلنت الحكومة المصرية عن خطة لبناء مليون وحدة سكنية ضمن برنامج الإسكان الاجتماعي لتوفير سكن ميسور التكلفة للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط. هذا الهدف كان طموحًا لتلبية الطلب المتزايد على الإسكان في ظل نقص يُقدر بحوالي 3.5 مليون وحدة. حتى السنة المالية 2022-2023، تم بناء 594,571 وحدة سكنية اجتماعية ضمن برنامج “الإسكان الاجتماعي” و”سكن لكل مصري”. هذا العدد يمثل حوالي 60% من الهدف الأصلي، مما يشير إلى تقدم كبير ولكن ليس كافيًا لتحقيق الهدف الكلي.
وخلال طرح للإسكان الاجتماعي (63 ألف وحدة)، عام 2014 تقدّم نحو 144 ألف مواطن للحجز، وتم استبعاد حوالي 60% منهم لأسباب تتعلق بالأوراق والشروط (أي نحو 57.6 ألف مؤهلين للتخصيص حينها). وشهد عام 2016 زيادة هائلة في الطلب؛ حيث سجل أحد الإعلانات رقماً قياسيًا بنحو 500 ألف متقدم. وحتى نهاية 2020 أفادت وزارة الإسكان أن ما يزيد على 1.5 مليون مواطن محدودي الدخل تقدّموا بحجز وحدات إسكان اجتماعي عبر 14 إعلانًا منذ 2014 وحتى ديسمبر 2020، وتم تخصيص أكثر من 380 ألف وحدة سكنية لتلك الطلبات (تعادل نحو 380 ألف أسرة، حوالي 1.9 مليون نسمة).
وبحلول أوائل 2021 أصبح إجمالي الوحدات المخصصة نحو 335 ألف وحدة، وتسلمت نحو 420 ألف أسرة وحدات سكنية بحلول منتصف 2022. حتى 2024 تشير بيانات رسمية إلى أن إجمالي المتقدمين منذ 2014 بلغ نحو 1.6 مليون مواطن في إطار المبادرة الرئاسية “سكن لكل المصريين” (17 إعلاناً حتى سبتمبر 2024)، فيما نفّذت الحكومة حتى الآن حوالي 690 ألف وحدة سكنية وتسلمها نحو 575 ألف عميل.
ويرى يحيى شوكت، – باحث ومحلل لسياسات الإسكان والعمران ومؤسس مرصد العمران- أن “شراء السكن يعتمد على الثروة، مما يضع المتقدمين الأقل دخلًا في تنافس مع الأعلى دخلًا، حتى ضمن حدود الدخل التي يضعها صندوق الإسكان، بالإضافة إلى ذلك، يُشترط وجود حد أدنى للدخل لضمان تسديد قسط التمويل العقاري، الشرطان معًا يُغلقان الباب أمام قطاع من الفقراء والأكثر فقرًا.
ويقول في حديثه معنا: “الأفضل، في حالة الإسكان الاجتماعي، هو توفير برامج قائمة على الإيجار، لأنه يعتمد على الدخل وليس الثروة، يمكن إما طرح وحدات بنظام الإيجار، أو توفير دعم نقدي يستخدمه المنتفع في سداد إيجار وحدة في السوق. ومن خلال ميزانية دعم وحدات الإسكان الاجتماعي الحالية، يمكن تغطية عدد أكبر من الأسر المحتاجة إلى السكن عبر نظام دعم الإيجار، وبطريقة أسرع إن لم تكن فورية.” مشيرًا إلى أن “منظومة بناء الإسكان الاجتماعي بغرض البيع تُسمى ‘منظومة العرض’. أي أنه يتم بناء أو التخطيط لبناء عدد معين من الوحدات في أماكن معينة، وفقًا لتوافر قطع أراضٍ بسعر منخفض أو بدون مقابل أولًا.
ويتابع: “المشكلة هنا أن الوحدات تُطرح على المتقدمين، ويحدث أن تكون هناك مواقع تشهد طلبًا كبيرًا، بينما يكون الطلب ضعيفًا في مواقع أخرى، أو أقل من عدد الوحدات المطروحة. من ناحية، نجد أن مواقع بعض المشروعات لا تلبي الاحتياج، فيظل عدد من السكان محرومين من الإسكان الاجتماعي ويُضطرون إلى الانتظار للإعلان الذي يليه، ومن ناحية أخرى، تظل بعض الوحدات غير مباعة، رغم إنفاق المال العام عليها من الميزانية الاجتماعية دون الاستفادة منها، تُطرح لاحقًا في إعلانات أخرى، أو تُعرض لفئات دخل أعلى من محدودي الدخل (مثل متوسطي الدخل)، وهذه تعتبر محاولات لإصلاح الخطأ.”
ويقول الخبير المختص بالعمران: “بما أننا بلد فيه فائض من الوحدات المغلقة، فمن الأفضل الاعتماد على برامج دعم الإيجار المبنية على الطلب. أي دراسة الاحتياج في كل مدينة وقرية، وتوفير ميزانية على المستوى المحلي لتغطية هذا الطلب.” مؤكدًا أن مشروعات الإسكان الاجتماعي كان لها نفع على عدد كبير من الأسر الذين يسكنون بها اليوم، ولكن من الضروري أن نحسب نسبة هذه الأسر من إجمالي عدد الأسر الفقيرة المحتاجة إلى السكن كل سنة.” ويضرب مثالًا على ذلك أن هناك حوالي 800 ألف زيجة جديدة كل سنة. ولو حسبنا أن 30% من هذه الأسر الجديدة، وفقًا لآخر معدل فقر رسمي، تعيش تحت خط الفقر وتحتاج إلى سكن مدعوم، فسنجد أن هناك 240 ألف أسرة محتاجة كل سنة.
ويضيف: “ليس من الضروري أن تظل هذه الأسر محتاجة إلى الأبد. ولهذا، فإن البرامج المبنية على الإيجار أكثر مرونة؛ لأنها تتغير وتتطور مع تغير وتطور أحوال الأسر: فهناك من يزيد دخله بعد فترة ويخرج عن الاحتياج إلى الدعم، وهناك من تكون حالته المادية ميسورة ثم ينخفض دخله ويحتاج إلى الدعم، وهناك من يسافرون أو يهاجرون، وغيرها من الحالات.”
لم تعد أزمة الإسكان الاجتماعي في مصر مجرد تأخر في تسليم وحدات أو خلل في الإجراءات، بل باتت مرآة لمشكلة أعمق تتعلق بفجوة الثقة بين الدولة والمواطن. فحين يدفع المواطن ما يملك، على أمل امتلاك شقة، ولا يحصل على ما وُعِد به بعد سنوات من الانتظار، فإن هذا لا يهدد استقراره المعيشي فحسب، بل يزعزع أيضًا ثقته في قدرة الدولة على إدارة الملفات الحيوية بعدالة وكفاءة. ومع غياب الإفصاح المالي الواضح، وتصاعد شكاوى المواطنين، يصبح من الضروري أن تتحرك الجهات المعنية بسرعة ليس فقط لتسليم ما تأخر من وحدات، بل أيضًا لإصلاح السياسات الحالية، وإرساء آليات شفافة تضمن حقوق المواطنين.