ظهرت محاكم التفتيش في القرن الثالث عشر تحت إشراف البابا أوجلينو دي كونتي، واستمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر. كانت هذه المحاكم تمثل سلطات قضائية استثنائية، حيث كانت مهمتها الكشف عن المعارضين والمخالفين للكنيسة، وتقديمهم للمحاكمة وتنفيذ العقوبات عليهم. وفقًا للباحثة البريطانية المتخصصة في مقارنة الأديان، كارين أرمسترونج، فإن عدد ضحايا هذه المحاكم قد يصل إلى حوالي 13 ألف شخص.
لا يختلف كثيرًا هذا النوع من المحاكم عن أقرانها في مصر، فمن بين أساليبها تتبع الفتيات وفحص أخلاقهن، والتأكد من مدى تماشيهن مع أعراف الغالبية في المجتمع المصري ومع ذوي النفوذ في البلاد. وتسعى هذه المحاكم لفرض سيطرتها على أفعالهن وأجسادهن، لا سيما الفتيات الناشطات على منصة تيك توك، حيث يتعرضن للاعتقال والملاحقة من قبل أجهزة الأمن بسبب مقاطع فيديو تظهر الفتيات وهن يتحركن شفاههن على إيقاع الأغاني أو يؤدون مقتطفات من أفلام مصرية وعالمية.
إن الحقيقة المرّة هي أن المطاردة الأمنية لهؤلاء الفتيات تحمل أيضًا جانبًا طبقيًا، ولا تقتصر على أفعالهن المادية فقط. عند استعراض مواقع التواصل الاجتماعي مثل إنستجرام أو تيك توك، يمكن للمرء أن يلاحظ وجود أفعال مشابهة لتلك التي يقوم بها الفتيات المحتجزات. ومع ذلك، يكمن الاختلاف الوحيد بينهن في طبقتهن الاجتماعية. إذا كنتِ تنتمين إلى الطبقة الفقيرة أو المتوسطة في مصر، فإنكِ تواجهين خطر الاعتقال والسجن تحت تهمة مخالفة القيم الأسرية وانتهاك الآداب العامة. أما إذا كنتِ تنتمين إلى الطبقة الثرية اجتماعيًا، فإنكِ تتمتعين بالحرية ولن تكوني ضمن الـ15 سيدة وفتاة اللواتي تم القبض عليهن بتهمة تفكيك قواعد الأسرة المصرية.
المجتمع ضد المرأة
في يومٍ ما، كنتُ جالسًا في غرفة نقابة المحامين في إحدى المحاكم، واستمعتُ إلى حوار بين المحامين. بدأ النقاش مع محامٍ لديه موكل تقاضيه زوجته وتطالب بحقوقها المنصوص عليها قانونًا. تلقى المحامي عددًا من الاقتراحات التي يمكنه من خلالها مساومة الزوجة من أجل التنازل عن حقوقها؛ من بينها أن يستغل الطبقة الاجتماعية للزوجة، بمعنى أن هذه السيدة نشأت في بيئة اجتماعية لا مانع فيها من نشر صورها الخاصة على فيسبوك فهي تنعم بقدر من الحرية لا يمتلكه غيرها من السيدات، فبحسب الاقتراحات المقدمة من السادة المحاميين أن يساوم المحام هذه السيدة بتقديم بلاغ إلى النائب العام والنيابة العامة يتهمها بـ”هدم مبادئ وقيم الأسرة المصرية” بناء على صورها التي تنشرها، وبذلك تتنازل عن حقوقها للزوج . لا أعلم إن كان المحامي قد اتبع نصيحة زملائه، ولكن بالتأكيد علمت أن “بسنت، فتاة المنصورة”، التي تعرضت للاعتداء الجماعي، تعرضت لتهديد من قبل محامي الجناة باستخدام صورها الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي وتقديم بلاغ يتهمها بـ”هدم مبادئ وقيم الأسرة المصرية”، ولولا شجاعتها وعزيمتها في السعي للحصول على حقوقها الأدنى، كان من الممكن أن يحقق محامي المعتدين هدفه من هذه التهديدات. ولكن قاضياً قد أدان تصرفات المحامين في حكم رسمي وحُكم عليهم بالسجن.
نجحت الاستراتيجية أيضًا في حالات أخرى، بما في ذلك محاكمة وإدانة سما المصري بتهمة “تدمير مبادئ الأسرة المصرية”. قدم المحامي مرتضى منصور والإعلامية ريهام سعيد بلاغًا يتهمانها بالخرق في عام 2018، ولكن تم إلغاء القضية بعد التحقيق واستدعاء سما المصري للتحقيق النيابة العامة. قدموا بلاغًا آخر في عام 2020 بمشاركة “مرتضى منصور وريهام سعيد والمحامي سمير صبري”، وتم التحقيق مع سما المصري واحتجازها، ثم تم إحالتها إلى المحكمة الاقتصادية بتهمة الاعتداء على مبادئ وقيم الأسرة المصرية بموجب المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات وتوجد تهم أخرى تتعلق بنشرها لفيديوهات شخصية على وسائل التواصل الاجتماعي بموجب قانون العقوبات وقانون مكافحة الدعارة رقم 10 لسنة 1961. حكمت عليها بالسجن لمدة ثلاث سنوات ومثيلها من المراقبة الشرطية وغرامة مالية قدرها 300 ألف جنيه، وتم تخفيض الحكم لاحقًا أمام محكمة الاستئناف إلى عامين سجنًا. تم صدور حكم بالسجن لمدة عام أيضًا في قضية أخرى تشابه الأولى تمامًا. وهناك أيضًا قضايا أخرى قدمت ضدها من نفس المبلغين في القضيتين الأولى والثانية، ومن الممكن أن يتم إحالتها إلى المحاكمة في أي وقت مع اتهامات مماثلة.
من خلال هذه الأمثلة، ندرك أنه يتم استغلال الغموض المحيط بالمادة 25 من قانون 175 لسنة 2018 “هدم القيم الأسرية” لتحقيق أغراض انتقامية أو تحقيق مصالح شخصية.فعند النظر إلى السياق التشريعي للمادة 25 من قانون 175 لسنة 2018، الذي يتعلق بمكافحة الجرائم الإلكترونية وقيم الأسرة في مصر، نجد أن المادة 25 في الفصل الثالث من القانون تحت عنوان “الجرائم المتعلقة بالاعتداء على الحياة الخاصة والمحتوى المعلوماتي غير المشروع”. وتتناول المواد 25 و 26 من القانون أشكال الاعتداء على الحياة الخاصة وتشمل معاقبة كل من اعتدى على أيٍ من المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري. لكنها أيضًا نصت على معاقبة كل من انتهك حرمة الحياة الخاصة أو أرسل بكثافة العديد من الرسائل الإلكترونية لشخص معين دون موافقته، وكل من منح بيانات شخصية إلى نظام أو موقع إلكتروني لترويج السلع أو الخدمات دون موافقته. وتنص المادة 26 في الفصل الثالث من نفس القانون على أنه سيتم معاقبة كل من يقصد استخدام برنامج معلوماتي أو تقنية معلوماتية في معالجة معطيات شخصية للغير، بهدف ربطها بمحتوى يتعارض مع الآداب العامة أو يسيء إلى الأشخاص أو يضر بسمعتهم. يتم توجيه عقوبة الحبس لمدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد عن خمس سنوات، بالإضافة إلى غرامة تتراوح بين مائة ألف جنيه وثلاثمائة ألف جنيه، ويُمكن تطبيق إحدى هاتين العقوبتين.
يتضح من السياق التشريعي للمادة 25 أنه لا يجوز فصل عبارة “اعتداء على المبادئ أو القيم الأسرية في المجتمع المصري” عن عنوان الفصل أو بقية المادة المتعلقة بها. يتعين فهم نية المشرع واضحة من سياق المادة الأخرى، حيث تهدف هذه العبارة إلى توفير ضمانات أكثر لحماية الخصوصية والحياة الخاصة، ولكن من المؤكد أنها لا تهدف إلى تبرير العنف ضد النساء أو رصد أفعالهن أو الاعتداء على حقوقهن.
من الوهلة الأولى التي تقرأ فيها عبارة “حماية الحياة الخاصة”، يتبادر إلى ذهنك تلك المرأة، فنحن لا يمكننا إنكار واقع الأوضاع التي تعيشها النساء. إن النساء يشكلن غالبية الضحايا الذين يتعرضون لانتهاك خصوصيتهم بشكل يومي عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفي أي وقت تفتح رسائل سيدة مصرية، ستجد صورًا لأعضاء جنسية ورسائل تحرش واستغلال بأشكالها المختلفة.
كيف يمكن تحويل نص قانوني دوره حماية المرأة، إلى نص يعاقب ويسجن النساء؟ هذا سؤال منطقي يخطر في ذهن كل قارئ للنصوص التشريعية وتتبع تطورها وصياغتها. يُثير الاهتمام كيف تم استغلال النيابة العامة والمحكمة صورًا مسربة لمودة الأدهم لإدانتها، بدلًا من تطبيق النص القانوني والغرض الحقيقي منه، وهو حمايتها وإعادة الضرر النفسي الذي تعانيه بسبب سرقة صورها الخاصة ونشرها بدون موافقتها.
استخدمت النيابة العامة صورًا مسربة لمودة الأدهم على حساب لا يحمل اسمها على موقع إنستجرام، كدليل ضدها أمام المحكمة، دون تقديم أدلة قاطعة على أنها هي من قامت بنشر تلك الصور. لم تبذل النيابة الجهد الكافي في التحقيق في حادثة سرقة هاتف مودة وسرقة صورها وابتزازها من خلال تلك الصور، على الرغم من تقديمها بلاغًا رسميًا للنيابة بواقعة سرقة الهاتف في نفس وقت حدوث الواقعة. وعلى الرغم من إثبات مودة في الوثائق المرفقة للقضية أنها لم تقم بنشر تلك الصور، وعلى الرغم من أن تلك الصور لم تُنشر على أي من حسابات مودة الأدهم الموثقة على وسائل التواصل الاجتماعي.
والأغرب هو الاستناد الذي قامت به محكمة جنح اقتصادية في حكمها إلى تلك الصور، وهو ما ألغته محكمة جنح مستأنف اقتصادية في حكمها لعدم تقديم النيابة العامة دليلًا فنيًا يثبت مسؤولية المتهمة عن نشر تلك الصور.
اتهام فتيات تيك توك بالاتجار في البشر إرضاءًا للمجتمع
بدأت قصة انتهاك حقوق السيدات في ممارسة حياتهن الخاصة وحق استخدام الإنترنت مع حنين حسام ومودة الأدهم. انتشر فيديو لحنين حسام على مواقع التواصل الاجتماعي يدعو الفتيات اللاتي تجاوزن سن الـ18 ولديهن مواهب مختلفة مثل الغناء والرقص للانضمام إلى تطبيق جديد يُدعى “لايكي”. وفقًا لشروط واضحة تشمل إكمال سن الـ18 وتقديم صورة من الرقم القومي، وتحديدًا تأكيد عدم السماح بأي تجاوزات. انتشر الفيديو بسرعة واسعة على منصات التواصل الاجتماعي، وأعرب المستخدمون عن استيائهم ووصفوا الفيديو بأنه يحرض على أفعال غير أخلاقية.
رغب كثيرون في محاكمة حنين حسام، بالإضافة إلى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي الذين طالبوا باعتقالها ومحاكمتها. قدم أحد المحامين بلاغًا إلى النائب العام للمطالبة بالتحقيق معها. تم تشكيل وحدة الرصد في مكتب النائب العام لمتابعة هذه القضية وقضايا مماثلة. تعد هذه القضية بداية لنوع جديد من التحريض على الفتيات واستغلال سلطة بلا مبرر على أجساد النساء، حيث يتعرض العديد من النساء للاحتجاز نتيجة لتحريض مثل هذا وبلاغاته. هذا قد يشجع آخرين على اتباع نفس الطريق وتحويل تحريضهم من كونه خطاب كراهية إلكتروني إلى إجراءات قضائية.
أما عن اتهام الاتجار في البشر، وهو تطور غريب ويبدو أنه يهدف إلى الانتقام من الفتيات ومحاولة إرضاء الرأي العام المصري الغاضب من الفتاتين. في 12 يناير 2021، أي قبل ستة أشهر فقط من صدور حكم محكمة الجنايات بحبس مودة الأدهم لمدة 6 سنوات وحنين حسام غيابيًا لمدة 10 سنوات، قضت محكمة الجنح الاقتصادية المستأنفة ببراءة حنين حسام من تهمة الاعتداء على مبادئ وقيم المجتمع والأسرة المصرية، ألغت عقوبة الحبس المحكومة على مودة الأدهم واكتفت بفرض غرامة، استنادًا إلى نفس التحقيقات والأدلة. في الواقع، لا توجد أدلة سوى الفيديوهات المنشورة على حساباتهم.
وانتهى حكم المحكمة الاقتصادية بعد عدم وجود أدلة على استدراج أي فتيات للعمل في أي نشاط جنسي مخالف للقانون. وذكر الحكم أيضًا أن حنين حسام كانت تروج للعمل الشرعي كوكيلة شرعية لشركة بيجوا المالكة لتطبيق لايكي، وهي شركة مشروعة تأسست في مصر وفقًا للقانون المصري. ومن هنا تم تحويل القضية من كونها اتهامًا بهدم قيم الأسرة المصرية إلى اتهامات أكثر خطورة. وكان الهدف الرئيسي من هذه الاتهامات هو توجيه الرأي العام ضد الفتيات، معتبرينهم مرتكبين جرائم بشعة، وقد نجحت النيابة العامة في تحقيق ذلك.
وهنا يجب طرح سؤال، ما هو الاتجار في البشر؟ الاتجار في البشر: وفقًا لتعريف منظمة العفو الدولية، فإنه يشمل انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق السلامة الجسدية والعقلية والحياة والحرية وأمن الشخص والكرامة والتحرر من العبودية وحرية التنقل والصحة والخصوصية والسكن الآمن. ويأخذ الاتجار في البشر ثلاثة أشكال، وهي “البغاء، والاتجار في الأطفال، والاتجار في الأعضاء البشرية”. وتتألف جريمة الاتجار في البشر من ركنين أساسيين، وهما “الركن المادي والركن المعنوي”. يتحقق الركن المادي لجريمة الاتجار بالبشر عندما يقوم الجاني بأي شكل من أشكال التعامل مع الأشخاص، سواءً كان ذلك بيعًا أو عرضًا للبيع أو وعدًا بذلك، أو استخدامًا أو نقلًا أو تسليمًا أو إيواءً أو استقبالًا، سواء داخل البلاد أو عبر حدودها الوطنية. وينص القانون على أن الاتجار بالبشر قد يكون باستخدام القوة أو العنف أو التهديد بهما، أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع، أو استغلال السلطة، أو استغلال حالة الضعف أو الحاجة.
لكن، عند النظر في القضية، يمكن التأكيد على أن الجريمة لم تحدث في حالة حنين حسام ومودة الأدهم، حيث لم يتم استخدام أي من الشروط التي وضعها القانون لاكتمال الاتهام بالاتجار البشر ضد حنين حسام ومودة الأدهم، وهذا بشهادة حكم المحكمة الاقتصادية الذي انتهى إلى أن حنين كانت تروج لعمل مشروع. وبالنسبة لمودة الأدهم، فإن شهادة والدة الطفل الذي ظهر في أحد الفيديوهات المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي في المحكمة تؤكد أنها هي من طلبت من مودة الأدهم تسجيل الفيديو مع ابنها، وأن الفيديو لم يكن له أي هدف غير قانوني.هل استغلت حنين حسام ومودة الأدهم حالة الضعف أو الحاجة، خاصة في بداية أزمة كورونا؟ إذا افترضنا جدلاً أن ذلك صحيح، فمن الذي استغل؟ هل كانت حنين ومودة هما المستغلتين أم المواطنين الصينيين مالكي شركة “لايكي” الذين أفرجت عنهم النيابة بعد التحقيق معهم في نفس اليوم ولم تقدمهم النيابة العامة إلى المحاكمة في القضية الأولى أو القضية الثانية؟ أم أن النيابة ومكتب النائب العام هما الجهة التي تعتبر تهمة الاتجار في البشر هي الملاذ الأخير للتنكيل بالفتيات وجعل الرأي العام يتحامل عليهم ومستعد لسماع خبر حبسهم لفترات طويلة؟ ولماذا يتم اتهام الفتيات بتهم ليس لها أساس في أوراق القضايا، مثل الاتجار بالبشر أو الدعارة؟
في وقت سابق، تم تعديل بعض النصوص العقابية لعدم وضوح ألفاظها، وهو القانون رقم 147 لسنة 2006 بشأن تعديل بعض أحكام قانون العقوبات. الشيء الوحيد المشترك في هذه التعديلات وحذف تلك العبارات هو أن كل هذه العبارات غير واضحة ولا يمكن تحديد مخالفيها، مثل “مغرضة”، ولا يمكن وضع تعريف دقيق واحد لهذه الكلمة، وكذلك عبارة “السلام الاجتماعي” أو بث الدعايات المثيرة جنايات مخلة بأمن الحكومة، وبالطبع عبارة “مخالفة مبادئ وقيم الأسرة المصرية ومخالفة الآداب العامة”.
مادة غير دستورية تقود السيدات إلى السجن
أول سؤال يخطر على بال أي شخص ينظر إلى المادة 25 من قانون جرائم تقنية المعلومات التي تؤدي بالسيدات والبنات إلى السجن بدعوى مخالفة مبادئ وقين الأسرة المصرية: ما هي مبادئ وقيم الأسرة المصرية؟ هل قيم الأسرة المصرية في الريف هي نفسها في المدينة؟ هل هي نفسها في الشواطئ والمدن الساحلية؟ بالطبع لا، فهل يمكن للقاضي أن يحكم بناءً على خلفيته الثقافية؟ وهل يمكن لقاضٍ آخر في ذات الموضوع والاتهامات أن يحكم بمختلف تفسير لاختلاف ثقافتهم ومدنهم؟
يجب أن يكون الركن المادي للجريمة واضحًا وخاليًا من أي شبهة أو تأويل، وهذا ما أكده الحكم الصادر عن المحكمة الدستورية العليا. إذ يعني الركن المادي في هذا السياق السلوك أو النشاط الخارجي، ولا يمكن أن يكون هناك جريمة بدون فعل أو ترك. ومن غير المسموح للمشرع الجنائي أن يعاقب فقط على أساس الأفكار والنوايا، لأن أوامر القانون ونصوصه لا تنتهك بوجود النية فحسب، بل تنتهك من خلال الأفعال التي تنبع من إرادة شريرة. وبالإضافة إلى ذلك، تمتاز صياغة النص بأنها واسعة بحيث يمكن تفسيرها بأكثر من معنى وتقبل عدة تأويلات. وترك تحديد الأعمال المساعدة والميسَّرة للجريمة لاجتهادات مختلفة، مما يُحرمها من صفة اليقين التي يجب أن تتوافر في النصوص الجزائية.
نظرًا لعدم وجود توضيح في اللائحة التنفيذية لقانون 175 لسنة 2018 بشأن المصلحة المحمية، التي تتمثل في المبادئ والقيم الأسرية، فإنه يتطلب اللجوء إلى القاعدة العامة في تشريع النصوص العقابية. وتنص المحكمة الدستورية على أن الدول المتقدمة يجب أن تضع تشريعاتها الجزائية على أسس ثابتة تضمن استخدام وسائل قانونية سليمة – سواء في جوانبها الموضوعية أو الإجرائية – لضمان ألا تكون العقوبة أداة لقمع الحرية أو انتهاك القيم التي يؤمن بها المجتمع في تفاعله مع الأمم المتحضرة وتواصلها معها. ولضمان تحقيق هذا الاتجاه، يتعين على الدساتير الحديثة فرض قيود على سلطة المشرع في مجال التجريم.
لذا، يجب أن تكون النصوص والمواد العقابية واضحة، ولا يجوز أن تتسم بتعبيرات غامضة أو تأويلات متعددة أو غياب التحديد الدقيق لضوابط تطبيقها. وعلاوة على ذلك، يجب صياغة النصوص العقابية بشكل واضح ومحدد، ولا ينبغي لها أن تكون كشباك يستخدمه المشرع لصيد الأشخاص من خلال تعمد توسيع نطاقها أو إخفاءها، وتكمن ضماناتها في ضمان أن المتلقين للنصوص العقابية يكونون على دراية بحقيقتها، وألا يكون سلوكهم متعارضًا معها، ولكن يكون متسقًا معها ومتوافقًا معها.
وبالنسبة لتعارضها مع المادة 95 من دستور 2014 (المادة 66 من دستور 1971)، التي تنص على أن العقوبة تكون شخصية ولا يمكن فرض جريمة أو عقوبة إلا وفقًا للقانون وبناءً على حكم قضائي، ولا يمكن فرض عقاب إلا على الأفعال التي تتم بعد تاريخ نفاذ القانون. وفسّرت المحكمة الدستورية العليا المادة 66 من دستور 1971 في المادة 95 من الدستور الحالي عندما حكمت بأن الأصل وفقًا لنص المادة 66 من الدستور هو أن يكون لكل جريمة عقوبة محددة تنص عليها القوانين أو على الأقل تحدد الحدود التي يجب أن تكون ضمنها. كما أنه من القواعد المبدئية التي يتطلبها الدستور في القوانين التفصيلية، أن تكون درجة اليقين التي تنظم أحكامها على أعلى مستوى، ويجب أن تظهر في هذه القوانين بشكل واضح وبيان الحدود الضيقة لنصوصها. فإن جهل بعض جوانبها أو غموضها لا يمكن أن يترتب عليه تحقيق الفهم الصحيح للأفعال التي يجب تجنبها.
لماذا لم يتم عرض المادة 25 على المحكمة الدستورية للفصل في مدى دستوريتها؟
إجراءات التقاضي أمام المحكمة الدستورية العليا مختلفة عن إجراءات إقامة الدعاوى أمام باقي المحاكم والهيئات القضائية. فلا يجوز لأي شخص تقديم دعوى مباشرة أمام المحكمة الدستورية، ولكن هناك طريقتان نص عليهما قانون المحكمة لإقامة الدعاوى أمامها. إذا رأت إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي أثناء نظر إحدى الدعاوى عدم دستورية نص في قانون أو لائحة يلزم للفصل في النزاع، يتوقف النظر في الدعوى وتحال الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فيها. إذا ادّعى أحد الخصوم أثناء نظر دعوى أمام إحدى المحاكم أو الهيئات ذات الاختصاص القضائي بعدم دستورية نص في قانون أو لائحة، ورأت المحكمة أو الهيئة أن الادعاء جدي، يؤجل نظر الدعوى وتحدد للطرف الذي أثار الادعاء موعدًا لا يتجاوز ثلاثة أشهر لتقديم الدعوى أمام المحكمة الدستورية العليا.
إذاً، لكي تتسنى للمحكمة الدستورية العليا النظر في مدى دستورية المادة القانونية، يجب إحالتها إليها من المحكمة التي تنظر القضية بذاتها، أو بعد ادّعاء المحامي أثناء نظر القضية بعدم الدستورية. ويكتفي القانون برأي المحكمة إذا كان الادعاء جديًا أم لا، دون الإشارة إلى آلية وقواعد ثابتة. ولذلك، حتى الآن لم تنظر المحكمة الدستورية المادة 25 من قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية، رغم دفع جميع المحامين تقريبًا أمام مختلف المحاكم والدوائر بدعوى عدم دستوريتها.