عادةً، تكون الصفقات الكبيرة، أو الصغيرة حتى، في كرة القدم لحظات فرح: انتقال لاعبٍ إلى نادٍ أكبر، أو انضمام موهبةٍ جديدة تعزز تشكيلة الفريق، لكن في مصر، تتحول معظم عمليات الانتقال إلى معارك دامية، ليس على أرض الملعب فقط، بل أيضًا في بيانٍ ناري هنا، أو اتهامٍ بالخيانة هناك، أو حتى استبعادٍ مفاجئ من “القائمة” كعقاب، والأخير ليس مصطلحًا من عالم الجريمة والإرهاب، بل من قاموس الكرة المصرية الساخر، ولنا في قصة انتقال أحمد السيد زيزو المزمع من الزمالك إلى الأهلي عبرة لمن لا يعتبر.
لاعبٌ انتقل بشرطٍ قانوني، تحوّل بين ليلة وضحاها إلى “خائن” في عيون البعض، و”بطل” في عيون البعض الآخر، الاتهامات طالت أخلاقه، والبيانات الرسمية من الأندية تصب الزيت على النار، والجماهير انقسمت بين مهاجمٍ مُتّهِمٍ ومناصرٍ مُؤيّد، أما السؤال الذي يُطرَح بقوة: لماذا تتحول الصفقات في مصر من مجرد انتقالٍ رياضي إلى معركة وجودية تبتلع الجميع؟ هل السبب هو غياب الثقافة الاحترافية التي تفصل بين الرياضة والعواطف؟ أم هو تعطش الجماهير للدراما في غياب منافسة حقيقية على الأرض؟ أو ربما الأزمات المالية التي تجعل الأندية تتعامل مع اللاعبين كـ”خونة” إذا غادروا، بدلًا من احترام عقودهم؟
الحقيقة أن الإجابة ليست واحدة، بل هي خليط سام من كل هذا معًا، الكرة المصرية تعيش في دوامة تتلاطم أمواجها منذ بدء الخليقة: حيث اللاعب ليس لاعبًا، بل “مجرد شيك” يُباع ويُشترى، والانتقال ليس انتقالًا، بل “قضية شرف”، وفي خضم هذا، يُحرَق الجميع: اللاعبون الذين يُوصمون بوصمة أبدية، والأندية التي تفقد مصداقيتها، والجماهير التي تتحول إلى قضاة. فلماذا كل هذه الدراما؟ وما الذي يحدث حقًا؟
نوصي للقراءة: الدورات الرمضانيّة: من فنّ الشارع والكرة إلى فنّ التسييس
غياب الحوكمة
في أي دوري محترف حول العالم، تحكم القوانين الصارمة والشفافية المالية عملية انتقال اللاعبين. لكن في مصر، يسود نظام غريب: “العُرف” أقوى من النصوص المكتوبة، والعقود تُكتب بحبرٍ يُمحى بمجرد تغير الأهواء! أما قصة أحمد السيد زيزو، فتكشف هذا الخلل بوضوحٍ مؤسف، على الورق، كان انتقال زيزو من الزمالك إلى الأهلي شرعياً بنسبة 100%، فبعد انتهاء عقده مع الفريق الأبيض، يمكنه الانتقال بكل بساطة، ولكن هيهات أن يحدث ذلك في مصر، ولنا في قصة عبد الله السعيد أيضًا عبرة أخرى.
عبد الله السعيد كان أحد رموز الأهلي خلال العقد الماضي، حيث لعب دورًا محوريًا في العديد من البطولات، وكان جزءًا أساسيًا من تشكيلة الفريق التي سيطرت على الدوري المصري والبطولات الأفريقية، لكن الأمور بدأت تنقلب رأسًا على عقب عندما قرر الرحيل إلى نادي الزمالك، فمارس الأهلي الضغوط والإرهاب على اللاعب، حتى قيل أنه “اخُتطِف”، فعليًا لا مجازًا، وظل محاصرا داخل أسوار النادي حتى غلق فترة القيد، قبل أن يذعن للنادي في النهاية، ويجدد عقده، ولكن الأهلي قرر أن يلعب معه، لعبة القط والفأر، فأحاله إلى دكة البدلاء، ثم باعه إلى نادي بيراميدز في صفقة قيل إنها بلغت قيمتها 3 ملايين دولار، وهو مبلغ كبير في سوق الانتقالات المحلية، وحتى انتقاله إلى بيراميدز تحول إلى أزمة كبرى لدى الجماهير للأسباب التالية:
- اتهامات بالتواطؤ مع “العدو”: لأن بيراميدز لم يكن مجرد نادي عادي، بل كان يُنظر إليه من قبل بعض جماهير الأهلي والزمالك على أنه “مشروع خارجي” يهدد هيمنة الأندية التقليدية مثل الأهلي والزمالك.
- تصريحات السعيد التي زادت الأمور تعقيدًا، فبعد انتقاله، أجرى بعض المقابلات الصحفية التي انتقد فيها إدارة الأهلي، ووصفها بأنها “لا تحترم اللاعبين”، ولذلك رأت بعض جماهير الأهلي في كلامه “خيانة” للنادي وجماهيره، بعد سنوات من الاحتفاء به كقائد وأسطورة.
- الرد العنيف من الجماهير والإعلام: حيث تحول السعيد إلى “شخصية غير مرغوب فيها” لدى شريحة كبيرة من مشجعي الأهلي، الذين وصفوه بـ”الجاحد”، كما بعض وسائل الإعلام الرياضية، خاصة تلك المقربة من الأهلي، شنّت حملات ضده، واصفين انتقاله بـ”الصفقة المشبوهة”.. لماذا مشبوهة؟ لا أحد يعرف!
أي أن اللاعب ببساطة، لا يملك حرية الاختيار، حتى لو كانت الصفقة قانونية، الجماهير تعتبر أن “الولاء” يجب أن يكون فوق كل اعتبار، ثم لديك غياب الحوكمة في إدارة الأزمات، فبدلًا من معالجة الأمر بهدوء، تحولت القضية إلى حرب إعلامية وتهجم شخصي، وثالثًا يأتي دور الإعلام في تأجيج الصراع، أي أن بعض وسائل الإعلام تستغل مثل هذه الأزمات لزيادة التفاعل، مما يزيد من حدة التوتر بين الأطراف وبين الجماهير، الخلاصة أن أزمة عبد الله السعيد مع الأهلي لم تكن مجرد صفقة انتقال، بل كانت درسًا في كيفية تحول العلاقة بين الأندية واللاعبين إلى معركة هويات، حيث يصبح اللاعب إما “بطلًا” أو “خائنًا”، دون أي منطقة رمادية بينهما. والنتيجة؟ جميعهم خاسرون، النادي يفقد أحد أبرز نجومه، واللاعب يفقد حب الجماهير، والكرة المصرية تفقد جزءًا من احترافيتها.
وبالطبع ما حدث مع السعيد، حدث مع زيزو، وكأننا نعيش في “ديجافو” متكرر وممل: الزمالك حاول الضغط على اللاعب، منعه من اللعب، وأصدر البيانات، شجب ونددد وقصف بلا هوادة، واتهم الأهلي باستغلال الظروف المادية السيئة، أما اللاعب نفسه فتحول إلى رهينة في معركة لم يخترها، بينما الجماهير تناقشت في “أخلاقيات” الانتقال وكأنه جريمة، المشكلة الأعمق؟ أنه لا توجد جهة محايدة تنظم السوق: العقود تُفسَّر حسب المزاج، وبند الأولوية في حالة زيزو تحول من “حق قانوني” إلى “مكيدة” بين عشية وضحاها، واللجان المشتركة بين الأندية تتدخل بشكل انتقائي، فتثبت حق نادٍ وتُهمل آخر، أما العقوبات، مثل الاستبعاد من “القائمة”، فتُفرض بعشوائية، وكأنها أداة للضغط بدلاً من كونها حلولاً نظامية.
حتى القانون المصري للرياضة نفسه يبدو عاجزاً أمام “عُرف” الكرة السائد، المادة 57 تُجيز انتقال اللاعب عند انتهاء عقده، لكن الأندية تتعامل معه كـ”هروب”، اللجنة الأولمبية تتدخل كـ”وسيط” في بعض الأزمات، لكن قراراتها تذوب في الهواء إذا تعارضت مع مصالح الأندية الكبرى، أي أن قضية زيزو لم تكن استثناءً، بل القاعدة في سوقٍ يتحكم فيه “الهوجة” أكثر من العقلانية، فمتى تتحول الانتقالات من معارك قبلية إلى عمليات احترافية تحترم القانون؟ الإجابة تبدو بعيدة في ظل نظام يعتبر “الشطارة” والالتفاف على القواعد مهارةً، والاحتكام للقانون ضعفاً، فعندما يغيب القانون، تصبح الغابة هي الحكم، وفي مصر، الانتقال ليس مجرد تغيير نادي، بل هو اختبار ولاء، والمشكلة أن الاختبار ليس عادلًا أبدًا.
نوصي للقراءة: تداخل المصالح: الأندية الرياضية المصرية كساحة للصراعات السياسية
على من نطلق الرصاص
العملية أصبحت “هيصة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فنجد سوق الإنتقالات المصري أشبه بـ”سوق العبيد”، أما اللاعب فليس لاعبًا محترفاً بالمعنى الحقيقي، وليس إنسانا أصلا، بل مجرد “شيك” يتحرك، وتُدار قيمته بناء على هوى في نفس الجنرالات والحُجاج الممسكين برسن اللعبة، وكأننا جميعا أصبحنا عساكر في “أوشلاء” كبير، ولذلك يخلط النادي عادةً بين العواطف الجياشة والمصالح، دون أي اعتبار لحق اللاعب في اتخاذ قراراته بنفسه، وهنا تكمن المأساة، في تلك “الهيصة” التي استباحت الكل: فاللاعب ليس حراً كفاية ليكون محترفاً، وليس مقيداً بما يكفي ليكون ملكية خالصة للنادي، أي أنه يقف في منطقة رمادية قاتلة، يُطالب بالولاء المطلق، بينما يُعامَل كسلعة قابلة لإهدار دمها في أي لحظة، ثم أن الانتقال من نادٍ لآخر لا يُنظر إليه كحق للاعب أصلًا بل يعامل كجريمة أخلاقية تستحق العقاب، سواء عبر الاستبعاد أو التشهير الإعلامي، أو حتى التهديدات المباشرة، (ملحوظة: نحن هنا لا نتحدث عن مجرمي حرب، بل عن لاعبي كرة قدم في العشرينات من العمر).
والعجيب أن هذه الفوضى المؤسسية لا تأتي من فراغ، بل هي نتاج ثقافة رياضية مريضة ترفض النضج من قديم الأزل، من أيام الحاج مرتضى منصور، الذي كان يقف في شموخ أمام اللاعبين كل يوم ثلاثاء وجمعة، مهددًا ومشيرًا بإصبعه الأوسط لكل من تسول له نفسه الثورة أو الخروج عن تلك التقاليد البالية، قد يقول قائل ولكن في النهاية هناك عقود بين اللاعبين والأندية، والعقود يحتكم إليها، وفعلًا هناك عقود، ولكنها مجرد أوراق يمكن تمزيقها عندما تشاء أهواء المسؤولين، أما اللجان المنظمة فأشبه بـ”ديكورات” لا تملك أدنى سلطة حقيقية، حتى الاتحاد المصري لكرة القدم يبدو عاجزاً، أو غير راغب، أو مهدَّد، أو ممسوك عليه صور، أي شئ، المهم أنه لا يحاول حتى فرض أبسط معايير الاحترافية، في هذا السوق العبثي.
أما الأكثر إيلاماً حقًا أن الجماهير التي يفترض أنها الضمير الحي للرياضة، تتحول إلى جزء من الآلة القمعية الرهيبة، تهلل عندما يُقيد لاعب، وتصرخ عندما يطالب بحقه، محولة الانتقال إلى مأساة إنسانية بكل المقاييس، فما الفرق بين لاعب يُجبر على البقاء ضد إرادته، وسجين يُحرم من حريته؟ والأكثر إثارة للشفقة أن الضحية هنا لا يملك حتى حق الصراخ، لأن الصرخة قد تكلفه كامل مستقبله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وبعدين هنروح بعيد ليه؟ فمنذ أيام رأيت بأم عيني مشجعًا زمالكاويًا عاقلًا، والمفترض أنه كامل الأهلية، نشر على حسابه الشخصي صورة محمود الخطيب، رئيس النادي الأهلي، وعليها الكابشن التالي: “قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ”. لا، لن أعلق على هذا الكلام، وسأترك لكم التعليق.
نوصي للقراءة: قانون الأندية الجديد: تحديث تشريعي أم تدخل حكومي يهدد استقلال الرياضة؟
الطريق إلى العبودية
في قلب هذه المعمعة والهيصة وقلة القيمة، تقف الجذور السامة في الإتحاد المهترئ، لتتغذى على ثلاث ركائز قاتلة: الفساد البنيوي، والتخلف الإداري، والاستثمار في التجهيل الجماهيري، هذه الثلاثية المارقة حوّلت اللاعب من محترف إلى “مملوك” بكل ما تحمله الكلمة من معنى قد يكون قاسيًا بالنسبة للبعض، ولكنه حقيقة مكتملة وواضحة الأركان.
فهناك أولًا: اقتصاد الظل الذي يقتات على دماء اللاعبين، حيث يعمل سوق الانتقالات المصري كحلقة مقفلة من المصالح غير المشروعة بين الأندية، أما العقود فتُكتب بنودها بخيط حريري يمكن قطعه في أي لحظة، وابقى روح اشتكي لو تقدر، وطبعًا، لو ذهب اللاعب للشكوى داخل مصر، فلن يحصل على أي شئ، ولن يتعرض النادي لأي إيقاف، لأن الاتحاد ببساطة يخاف من ردود فعل الجماهير، ولنا في السيد مرتضى منصور وزبانيته أيضًا، أسوة حسنة لمن كان يرجو رضاء الجماهير.. شاهد هذا الفيديو من فضلك ثم عد لنا.
لو لم تشاهد، فدعني أقل لك ببساطة أنه فيديو معبر، مرتضى منصور كان رئيس الزمالك في ذلك التوقيت، والزمالك كان محجوز على أرصدته في البنوك لأسباب يطول شرحها، ورغم ذلك اشترى بعض اللاعبين، وحاول تسجيلهم، لكن الأزمة أن اللائحة تقول أن التسجيل يستوجب أولًا دفع الرسوم، وبما أن الزمالك محجوز على أرصدته، رفض الاتحاد تسجيل أي لاعب من الزمالك قبل أن يدفع النادي رسوم التسجيل المستحقة، هل في ذلك أي شئ؟ في الحالات العادية لا، ولكن بما أننا في مصر، فالأمر تحول أيضًا إلى معركة ضخمة، وكالعادة اتهامات بالمؤامرة وتواطئ الاتحاد مع الأهلي لمنع سفينة الربان مرتضى منصور من العبور، لذلك قرر هذا الربان أن يذهب بنفسه إلى الإتحاد في شواشي الليل برفقة كاميراه المحبوبة، وقبل إغلاق القيد بساعات قليلة، ليطالب الإتحاد بتسجيل اللاعبين وإلا “ستحدث كارثة”، أي أنه تهديد فهمي نظمي رسمي، ولكن ما هي الكارثة؟ حسنًا، غضب الجماهير بالطبع.
وبالفعل، أذعن الإتحاد لمطالب الرجل، وسجل اللاعبين قبل دفع الرسوم بناءً على كلمة رجالة من مرتضى أن الرسوم ستأتيه من الشركة الراعية بعد أيام قليلة، وكل ذلك خوفًا من غضبة جماهير الزمالك، وهذا هو الاتحاد شخصيًا، أي السلطة، فما بالك باللاعب المغلوب على أمره، اللاعب المداس بالأقدام، ولذلك لا يجرؤ أي لاعب على المطالبة بحقوقه لأنه ببساطة سيواجه مؤامرة ضده من الإدارات المتواطئة، والتي سترفض تقويض “نظام العبودية” لأنه يضمن استمرار تدفق الأموال تحت الطاولة، أما الانتقالات النظيفة فنادرة جدًا، ولا بد لها أن تخدم اقتصاد الظل القائم على العمولات السرية وصفقات المقايضة بين كبار المسؤولين.
أما الركيزة الثانية، فهو الجهل اللابس لثوب الحفاظ على الهوية، حيث تختبئ الأندية وراء شعارات زائفة عن “الولاء” و”الحفاظ على هوية النادي” لتبرير انتهاكاتها، حيث تغذى الجماهير بخطاب عاطفي مسموم، لتحويلها إلى حراس معبد، يدافعون باستماتة عن هذا النظام الفاسد والمخوخ من الداخل، ببساطة أكبر؛ لأن النظام يحتاج إلى “أعداء وهميين” لتحويل الأنظار عن فساده، والأندية تدرك جيداً أن لاعباً واعياً يعني نظاماً مهدداً، لذا يتم ترسيخ ثقافة “العبودية الطوعية” عن طريق ربط أي محاولة للتحرر بمحاولة ـ”تدمير هوية النادي”، ثم تحويل كل أزمة انتقال إلى معركة هويات بدلاً من النقاش القانوني.
الركيزة الثالثة فتتمثل في تلك التشريعات الهزيلة والمقيتة التي تُكرس التبعية، أي أن القوانين الحالية أشبه بسياج من خيوط العنكبوت، تبدو كإطار قانوني لكنها تنهار عند أول اختبار، حتى نصل إلى النتيجة النهائية، دولة داخل الدولة، ونظام موازٍ تحكمه بعض العصابات التي تتحكم في مصائر اللاعبين، كما تتحكم عصابات المخدرات في ضحاياها، ومع كل حلقة فساد جديدة نتثبت من أن المشكلة ليست في الأفراد، بل في منظومة متكاملة من الاستغلال تحتاج إلى هدم وردم شامل، وهنا يأتي السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل يمكن كسر هذه الحلقة المفرغة أم أن اللاعب المصري محكوم عليه بالبقاء أسيراً؟
الجنازة الحارة
حقيقة، ليست لدينا إجابة واضحة عن السؤال السابق، ولذلك سنحول الدفة إلى سؤال جوهري مُربك آخر: أين هي الكرة الحقيقية من كل هذا؟ نحن نتصارع بحماسٍ شديد، ونتحزب بشراسة، نلعن سلسفيل جدود بعض، ونهتف ونشتم، لكن على ماذا؟ على سراب! على وهم! على “كرة قدم” فقدت كل مقوماتها الأساسية حتى صارت أشبه بمسرحية من مسرحيات “مسرح مصر”، بلا مضمون، ولماذا ننفق طاقتنا الهائلة؟ على صراعاتٍ تدور في الفراغ، ولماذا نتصارع على انتقالات اللاعبين؟ والدوري ف لا يوجد فيه ملاعب أصلًا، ولا مواعيد ثابتة للمباريات، ولا جداول واضحة، ولا حتى أندية محترفة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
أما الأكثر إيلاماً أننا نُجري معارك ضارية حول لاعبين يفتقدون لأبسط مبادئ اللعب، ليسوا سيئين فقط، بل يفتقدون حتى لأبسط المعلومات عن أدوارهم ووظائفهم داخل الملعب، مجرد أسماء تتبدل كل موسم في سوقٍ يفتقر لأبسط مقومات الجودة، وهنا يمكن الرجوع لما قاله حسن بلتاجي، المدرب المصري لنادي AKA berlin الألماني، وعضو فريق تحليل أداء المنتخب الألماني السابق، عندما قال أن المهاجم عادة يكون لديه 6 تحركات أساسية محفوظة لدى الجميع حول العالم، ولا مهاجم في الدوري المصري يعلم عنها أو يطبق منها شيئًا، وذلك في معرض حديثه عن أداء المنتخب المصري في السنين الأخيرة.
ولذلك فنحن أمام مشهد سريالي حقا: جماهير تُشعل السوشيال ميديا لأن نادياً سرق لاعباً من نادي آخر، وإعلام يُخصص برامج كاملة لتحليل مدى “خيانة” لاعب انتقل بموجب عقدٍ قانوني، ومسؤولون يُصدرون بيانات نارية وكأنهم في حرب تحرير وطنية، كل هذا الضجيج والصراعات والخناقات وسب الأديان لبعض، وفي النهاية، لا يوجد شئ حقيقي ملموس، الملاعب، معظمها ترابية أو عشبها صناعي متهالك، والمواعيد تُغير بعشوائية حسب أهواء مسؤولي الأندية، والمنافسة تقتصر فقط على فريقين يتناوبان على اللقب منذ عقود، أما المواهب، فحدث ولا حرج، لا يوجد مواهب أصلًا، وفي النهاية نعيش جميعًا في بالونة وهم كبيرة.
نتصرف كأننا نناقش انتقال “ميسي” أو “رونالدو” لأندية كبيرة، بينما واقعنا يقول إننا نُجادل في سوقٍ هزيل لا يُنتج كرة قدم حقيقية، شئ أشبه بما قاله الممثل صلاح السعدني حول نظرية “الشبهية”، فكل شئ يحدث في الدوري يحدث في الخارج بالضبط، لدينا أندية ولاعبين وقمصان، وقواعد جماهيرية، الأزمات تتفجر، والشتائم تتناقل، والقضايا تُرفع، ولكن وسط كل ذلك، لا توجد كرة قدم حقيقية، أي أننا نلهث وراء ظل ما بينما الجوهر نفسه، اللعبة نفسها، تبخرت منذ زمن بعيد، حتى الملاعب أصبحت خاوية على عروشها، ليبقى السؤال: إلى متى سنظل نرقص حول النار، ونحن نعرف أنها لن تُدفئ أحداً؟
تضمين فيديو يوتيوب