جزيرة الوراق.. زاوية ثالثة توثق استخدام الرصاص الحي ضد الأهالي

أهالي جزيرة الوراق يواجهون الرصاص الحي والحصار الأمني في معركة ممتدة ضد التهجير القسري ومشروعات الدولة الاستثمارية
Picture of زاوية ثالثة

زاوية ثالثة

شهدت جزيرة الوراق بمحافظة الجيزة، صباح اليوم السبت، موجة جديدة من التوترات والاشتباكات بين السكان وقوات الأمن المصرية، على خلفية استمرار الحصار المفروض على المعدية النيلية التي تربط الجزيرة بمنطقة شبرا الخيمة، وتأتي هذه الاشتباكات في سياق تصاعد الخلافات بين الدولة وأهالي الجزيرة، بعد منع قوات الأمن دخول مواد البناء، وهو ما اعتبره السكان محاولة إضافية لتضييق الخناق عليهم، ودفعهم نحو الرحيل القسري وبيع ممتلكاتهم لصالح مشروعات استثمارية.

وبحسب شهود عيان تحدثوا إلى زاوية ثالثة من داخل الجزيرة، فضلًا عن فيديوهات بثها مواطنون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، استخدمت قوات الأمن قنابل الغاز المسيل للدموع وطلقات الخرطوش لتفريق الأهالي الذين تجمعوا احتجاجًا على منع دخول مستلزمات البناء واحتجاز المعدية لليوم الثاني على التوالي. وأسفرت الاشتباكات عن إصابة عدد من الأهالي، نحو 50 فرد بحسب شهود العيان) بجروح متفرقة، بعضها وُصف بالخطير، وسط حالة من الغضب والاستياء المتصاعد بين سكان الجزيرة.

وفي تصريحات خاصة إلى زاوية ثالثة، أكد شهود عيان من أهالي جزيرة الوراق في أن الأزمة اشتعلت منذ الصباح وكانت متوترة للغاية، حيث بدأت الأحداث بتجمع مجموعة من الشباب في أحد المقاهي القريبة من كمين للشرطة داخل الجزيرة، في انتظار خروج مجموعة من الشباب المحبوسين بسبب احتكاك سابق مع الشرطة، وأوضح أن الشباب كانوا يتناولون القهوة بشكل عادي، قبل أن يدخل أحد الضباط لشراء كوب من القهوة، ويتبادل الحديث معهم.

ويوضح شهود العيان أن الحديث بين الضابط والشباب تطور إلى مشادة كلامية، مما أدى إلى اندلاع اشتباك، حيث قام الضابط بضرب أحد الشباب، موضحين أنه تم اليوم أيضًا احتجاز خمسة أفراد من داخل منازلهم، بالإضافة إلى أربعة آخرين تم القبض عليهم أثناء سيرهم في الشارع.

وأشار أحد أهالي الجزيرة تحدث إلينا وفضل عدم ذكر اسمه، إلى أن الوضع في الجزيرة قد شهد تصعيدًا كبيرًا منذ الصباح، موضحًا أن الفوضى والاشتباكات ما زالت مستمرة، مؤكدًا استخدام القوات الأمنية للرصاص الحي لتفريق المتظاهرين، وأرسل إلينا صورًا خاصة لشاب (16 عامًا) تم استهدافه بالرصاص الحي في قدميه مما سيتسبب في بتر قدميه.

صور حصلت عليها زاوية ثالثة من الأهالي توثق استهداف المواطنين بالرصاص في جزيرة الوراق

 

نوصي للقراءة: “لن نُغادر” أهالي الوراق في مواجهة الإخلاء القسري.. والأمن يستخدم القوة المفرطة

 الاستثمار كلمة السر

ويرى المحامي المعني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية ياسر سعد أن منطقة الورّاق أصبحت واحدة من أبرز نقاط المقاومة الاجتماعية في مصر خلال المرحلة الراهنة، موضحًا أن الطبقة العاملة في الوراق، بتنظيمها الشعبي، تمثل اليوم خط المواجهة الأول أمام السياسات التي تنتهجها الدولة، خصوصًا في ظل الحصار شبه الكامل المفروض على العمل السياسي المنظم وعلى المجتمع المدني عمومًا.

ويلفت سعد في حديث مع زاوية ثالثة إلى تراجع مساحات المواجهة القانونية والحقوقية في مصر بصورة ملحوظة، حتى أصبحت مثل هذه التحركات نادرة، إن لم تكن منعدمة في بعض الفترات، قائلًا: ” قلّما نجد اليوم من يتصدى لملف قانوني أو قضائي ضد الدولة، لاسيما بعد قضية تيران وصنافير، التي شكّلت نقطة تحول في العلاقة بين الدولة والمجتمع.”

يقول سعد: “الورّاق، بتركيبتها الجغرافية والاجتماعية، وكونها أقرب إلى جزيرة منعزلة، تمتلك خصائص فريدة ساعدت على نشوء تنظيم جماهيري مهم، هو “مجلس عائلات الورّاق”، الذي يحاول منذ سنوات الدفاع عن حقوق السكان وممتلكاتهم في مواجهة محاولات نزع الملكية والتهميش، هذا المجلس قام بجهود كبيرة لمواجهة التوسّع الاستثماري وتدخلات الدولة، التي بدأت بمحاولات للترغيب المالي، حيث عُرضت مبالغ لتعويض الأهالي عن منازلهم، ثم تطورت إلى محاولات قسرية من خلال قرارات إزالة وادعاءات بالتطوير العمراني.

ويضيف: “لكنّ الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها، أن هناك استهدافًا مباشرًا للورّاق لأسباب اقتصادية واستثمارية، مع تزايد المؤشرات التي تتحدث عن رغبة بعض المستثمرين سواء مصريين أو من خارج مصر  في الاستحواذ على أراضي المنطقة، وهو ما يتسق مع سلوك الدولة وتصعيدها الممنهج ضد السكان، والذي تجاوز الإجراءات الروتينية المتبعة في بقية المحافظات، إلى درجات من العنف والاستهداف المباشر، وصلت في بعض الأوقات إلى ما يشبه الحملات العسكرية.”

ويوضح سعد أن هذا التصعيد، الذي تدرّج من الحصار إلى الهجوم، لا يمكن أن يُفهم إلا في سياق خطة متكاملة لإخلاء المنطقة من سكانها تمهيدًا لإعادة توظيفها استثماريًا، وهذه السياسات المتكررة تساهم في تعميق فقدان الثقة بين المواطن والدولة، بل وتنسف الإيمان بمؤسساتها الدستورية والقانونية.

وتُعد جزيرة الوراق إحدى أكبر الجزر النيلية في مصر، ويقطنها أكثر من 90 ألف نسمة، وتخوض الدولة منذ عام 2017 مواجهات قانونية وشعبية مع سكانها ضمن خطة لتحويل الجزيرة إلى منطقة استثمارية كجزء من مشروعات “تطوير واجهة النيل”، وهو ما يرفضه العديد من الأهالي الذين يتمسكون بحقهم في السكن وملكية الأراضي. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس الدولة كان قد أصدر أحكامًا قضائية لصالح عدد من أهالي الجزيرة، إلا أن الأزمة لا تزال تراوح مكانها، في ظل ما يعتبره السكان غيابًا للحلول التوافقية، واستمرارًا لسياسة فرض الأمر الواقع بالقوة الأمنية.

 

نوصي للقراءة: احتجاز نساء وتصفية شباب: ما نعرفه عن أحداث “النجيلة” بمطروح

التعامل الأمني يصنع قنبلة موقوتة

يقول -المنسق العام للحركة المدنية وعضو المجلس الرئاسي لحزب المحافظين طلعت خليل-، إن التعامل الخشن مع الأهالي بهدف تهجيرهم قسرًا من منازلهم هو أمر مرفوض تمامًا، مؤكدًا أن الحكومة تضغط عليهم بكل الوسائل الممكنة، رغم أن هناك قضايا تتعلق بحقوقهم في بناء منازلهم وغيرها من المسائل التي يتم تجاهلها.

ويضيف خليل في حديث إلى زاوية ثالثة: “بدأت الحكومة هذا الأسلوب في التعامل الخشن مع أهالي جزيرة الوراق منذ فترة طويلة، وما حدث اليوم من تصعيد هو تصرف غير مبرر من قبل الحكومة وقوات الأمن. إن هذا النوع من التعامل لن يؤدي إلا إلى نتائج سلبية ولن يحقق أي حلول فعالة. نحن ضد أي شكل من أشكال العنف ضد المواطنين، ومن الضروري أن تتعامل الحكومة مع هذا الملف بشكل مختلف وأن تبحث عن حلول جذرية لهذه الأزمة.

ويتابع: “الحكومة تعتمد على أسلوب القوة في مواجهة المواطنين، وهو ما يهدد بزيادة الاحتكاكات والإصابات في صفوف المواطنين، نحن نحذر من تكرار هذه الممارسات، ونؤكد على ضرورة إيجاد حلول فاعلة لمشكلة أهالي جزيرة الوراق بشكل خاص. إن الضغط المستمر على المواطنين بأساليب غير قانونية وغير إنسانية لن يؤدي إلا إلى نتائج سلبية لا تحمد عقباها.”

يقول ياسر سعد في حديثه معنا إن استمرار هذا النهج، من شأنه أن يدفع المواطنين إلى البحث عن أشكال بديلة للمقاومة والدفاع عن الحقوق، وقد يُفضي إلى أزمات مجتمعية أعمق، خاصة في ظل شعور قطاع واسع من الأهالي بأن ما يحدث هو جريمة كاملة تستوجب المحاسبة، ليس فقط على المستوى التنفيذي المحلي، بل على مستوى المسؤولية السياسية العليا، بدءًا من رئيس الجمهورية، مرورًا بمحافظ الجيزة، وانتهاءً برؤساء الهيئات التابعة المعنيين بملف التطوير.

ويضيف: “ما يجري في الوراق يمثل معركة حقيقية على الأرض، وعلى المجتمع المدني بكافة أطيافه ومؤسساته أن يدرك أن هذه لحظة فاصلة تستدعي أقصى درجات التضامن. نحن أمام انتهاكات تستوجب تحركًا عاجلًا، سواء عبر الدعم القانوني، أو الضغط الإعلامي، أو التوجه إلى المؤسسات الدولية لوقف هذه السياسات التعسفية.

ويتابع: “أهالي الورّاق يقاتلون من أجل البقاء، لكنهم قلة في مواجهة آلة ضخمة. مجلس العائلات، رغم شجاعته، لا يستطيع المواجهة وحده، خصوصًا في ظل تسرّب بعض العناصر من داخله ممن تربطهم مصالح بالدولة. لذلك، على كل من يؤمن بالعدالة الاجتماعية والحق في السكن والعيش الكريم أن يدعم الوراق وأهلها بكل السبل الممكنة. ويرى سعد أن الوراق معرّضة لمصير بالغ الخطورة إذا استمر الصمت، وأتمنى أن يُكتب لها الانتصار في هذه المعركة غير المتكافئة، لكن الأمر يحتاج إلى تكاتف فوري من كافة الفاعلين الحقوقيين والمجتمعيين.

ما جذور الأزمة؟

تمتد جزيرة الوراق على مساحة تقارب 1400 فدان، وتقع بين منطقتي إمبابة وشبرا الخيمة، ويصل عدد سكانها إلى نحو 90 ألف نسمة حسب تقديرات غير رسمية، يتوزع السكان على عائلات ممتدة توارثت الأراضي منذ عقود طويلة، ويعمل معظمهم في الزراعة أو الأنشطة المرتبطة بالنقل النيلي والتجارة البسيطة، لم تكن الجزيرة تحظى باهتمام كبير من الحكومة حتى العقدين الأخيرين، حين بدأت خطط لتحويل الجزر النيلية إلى مناطق جذب استثماري.

تعود جذور الأزمة إلى عام 1998 حين صدر قرار باعتبار جزيرة الوراق محمية طبيعية، ما أثار شكوكًا لدى السكان حول نية الحكومة إخلاء الجزيرة. لاحقًا، صدر قرار آخر من رئيس الوزراء سنة 2001 بإخضاع الجزيرة لقانون أملاك الدولة، منذ ذلك الحين بدأت النزاعات القضائية بين السكان والدولة. في 2017، تصاعدت الأزمة مع محاولة قوات الأمن تنفيذ قرارات إزالة بُنيت على أساس أن الأراضي ملك للدولة. إلا أن هذه المحاولة قوبلت بمقاومة شعبية واسعة، وسقط خلالها أحد السكان متأثرًا بإصابته.

منذ ذلك الحين، أصبحت الوراق تحت رقابة أمنية مشددة، وزادت وتيرة محاولات الإخلاء التدريجي، إذ صدرت قرارات بالإزالة، وتوقفت خدمات حكومية، وتم تقييد دخول مواد البناء إلى الجزيرة، في الوقت ذاته، ظهرت خرائط لمشروعات تطوير تُظهر الجزيرة كموقع لإنشاء مدينة استثمارية تحت اسم “حورس”، ما أكد شكوك السكان بأن الهدف النهائي هو تحويل الجزيرة إلى مشروع عقاري فاخر.

في عام 2002، حصل الأهالي على حكم لصالحهم بتملك أراضي الجزيرة، وفي عام 2010، أعلنت الحكومة، ترسيم الحدود الإدارية لـ5 محافظات، كانت بينها محافظة الجيزة، وضمنها الوراق، ووضعت خطة لتطوير الجزيرة، قبل أن تهدأ الأمور في الجزيرة لبضع سنوات بعد الإطاحة بنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981 – 2011).

تعتمد الحكومة في موقفها على اعتبار أن معظم أراضي الجزيرة تابعة لأملاك الدولة، وأن السكان لا يمتلكون وثائق ملكية قانونية كافية، لكن الواقع أن العديد من السكان يملكون عقود بيع وشراء موثقة منذ أربعينيات القرن الماضي، وبعضهم يحمل حُججًا عرفية وعقودًا مسجلة، ما يخلق إشكالية قانونية معقدة حول طبيعة الملكية.

في المقابل، تستند السلطات إلى القانون رقم 7 لسنة 1991 بشأن أملاك الدولة الخاصة، والقانون رقم 144 لسنة 2017 الخاص بتقنين وضع اليد، وتُعد هذه القوانين، وفق مراقبين أساسًا للإخلاء القسري إذا لم يقم الأهالي بتقنين أوضاعهم وفقًا لإجراءات الدولة، لكن الأهالي يرون أن تلك القوانين لم تأخذ في الاعتبار خصوصية الجزيرة كسكن دائم لعائلات متجذرة فيها.

 

نوصي للقراءة: مكافحة الفساد في مصر: كيف تحوّلت الاستراتيجيات إلى حبرٍ على ورق؟


المشروعات الحكومية المقترحة

بحسب خرائط منشورة من الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، فإن مشروع تطوير جزيرة الوراق يشمل إنشاء منطقة استثمارية كبرى تحت اسم “مدينة حورس”، تضم أبراجًا سكنية وفنادق ومنطقة أعمال، وقد أعلنت الحكومة أن هذه المشروعات ستوفر فرص عمل وتدر دخلًا استثماريًا للدولة، لكنها لم توضح بشكل مفصل خطط إعادة توطين السكان الأصليين، ووفقًا لما نشرته الهيئة العامة للاستعلامات التابعة للحكومة المصرية، يهدف المشروع إلى تحويل الجزيرة إلى مركز تجاري عالمي بمساحة 1516 فدانًا، بتكلفة إجمالية تبلغ 17.5 مليار جنيه. يتضمن المخطط إنشاء 8 مناطق استثمارية، منطقة تجارية، منطقة إسكان متميز، حديقة مركزية، مناطق خضراء، مرافئ (مارينا) سياحية، واجهة نهرية سياحية، منطقة ثقافية، وكورنيش سياحي. ​

وفي 2021، تم نقل تبعية ملف الجزيرة إلى هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، التي بدأت في شراء الأراضي من السكان بأسعار تراوحت بين 6 آلاف و12 ألف جنيه للمتر. وقبلها كانت الهيئة الهندسية قد أنهت بناء كورنيش على الضفة الغربية من الجزيرة. هذه الإجراءات تُظهر أن الدولة تسير في اتجاه تطوير شامل للجزيرة، دون وجود خطة واضحة لإشراك سكانها.

منذ يوليو 2017، بدأ الأهالي تنظيم احتجاجات متفرقة على الجزيرة، للمطالبة بحقهم في البقاء والعيش الآمن. تشكلت لجان شعبية للدفاع عن الجزيرة، وأُطلق وسم (#الوراق_مش_للبيع) على مواقع التواصل، ورفض الأهالي مغادرة منازلهم أو قبول التعويضات المقدمة، معتبرين إياها دون القيمة الفعلية للأرض والموقع.

وفي سبتمبر 2024، منعت قوات الأمن دخول مواد البناء إلى الجزيرة عبر المعديات، مما أدى إلى تكدس كبير واحتقان شعبي. وقد سجلت منظمات حقوقية مثل المفوضية المصرية للحقوق والحريات عدة انتهاكات بحق سكان الجزيرة، من بينها اعتقالات تعسفية واستخدام مفرط للقوة.

وعلى الجانب الرسمي، أكد محافظ الجيزة ومسؤولون في وزارة الإسكان أن مشروع تطوير جزيرة الوراق يأتي في إطار خطة قومية لتطوير الجزر النيلية، وقالت الحكومة إنها ملتزمة بتوفير وحدات بديلة وتعويضات عادلة، وأنها لا تستهدف التهجير القسري. لكن غياب الشفافية في تفاصيل التعويضات، وعدم إشراك السكان في اتخاذ القرار، يزيد من حدة التوتر.

كما أصدر مجلس الوزراء بيانًا في نوفمبر 2024 أكد فيه أن “الدولة لا تصادر ممتلكات أحد، لكنها تطبق القانون على المخالفين”. إلا أن منظمات حقوقية محلية ودولية، مثل مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، شككت في مدى التزام الدولة بالمعايير الدولية للترحيل الطوعي.

 

Search