قتل النساء باسم «الشرف»: هل تستطيع مصر التخلص من هذه الفوضى؟

تستمر جرائم الشرف في مصر في التصاعد، حيث تُرتكب تحت ذريعة الحفاظ على “الشرف”، ما يثير تساؤلات عن دور المجتمع والقانون في حماية النساء من العنف الذي يطالهن في ظل تقاليد قديمة وممارسات غير قانونية.
Picture of منار بحيري

منار بحيري

كانت نادية مبروك في سن الثالثة حينما شهدت مقتل أمها، إذ زارها اثنان من إخوتها، وبحجة الشرف، أطلقا عليها الرصاص لأنها تزوجت دون موافقة عائلتها. “كانت أمي حينها حاملًا في أشهرها الأخيرة، وبجانبها شقيقتي الصغرى التي لم تتجاوز السنة والنصف، في حين أصرّ المجتمع على اعتبار الجريمة دفاعًا عن شرف العائلة.”

تستكمل نادية التي تعمل صحفية وتعيش في مدينة السادس من أكتوبر: “بعد سنوات، تذكرت قصتها عندما قرأت عن فتاة قُتلت على يد أقربائها لنفس السبب، لم يكن لجرائم الشرف من تبرير سوى العار، وكان المجتمع يتجاهل الحقيقة المرّة بأن الضحايا من النساء لا يعتبرن بشرًا بقدر ما يُنظر إليهن كـ ممتلكات بيد عائلاتهن.”

واجهت والدة نادية وفق حديثها صعوبات، إذ تحدّت رفض عائلتها وأصرت على الزواج بمن أحبته، ما أشعل الكراهية في نفوس إخوتها. لم تكن مجرد حادثة، بل صورة مؤلمة تتكرر في مجتمع يرى في المرأة عبئًا يتحمل الرجل مسؤوليته، متجاهلاً حريتها واختيارها. تقول: “رحلت أمي تاركة جرحًا عميقًا في نفسي، وعجزت عن الحديث عنها أمام الناس خوفًا من الأحكام المسبقة، صدمتني قصص مماثلة تكررت على مر السنين، وأعادت فتح الجرح، حيث أصبحت أرى أن أمي كانت ضحية لنظام اجتماعي كامل يرى في قتل النساء حماية للشرف.”

تضيف: جريمة مقتل أمي ظلت كجرح مفتوح، ترافقني ذكراها كظلٍ ثقيل في كل مرة أسمع فيها عن جرائم الشرف، لم يكن الجرح بسب مقتلها فحسب، بل أيضاً بسبب الصمت المهيب الذي أحاط قصتها، وكأنها لم تكن يومًا، ظللت أسأل نفسي مرارًا: كيف يمكن لأفراد عائلتها أن يروها جريمة تستحق الموت؟ لم يكن موتها خلاصًا من “عارٍ” زائف، بل كان اغتيالاً لحقها في الحياة والحب. وأصبحت قصتها مثالًا على مجتمع يسلب النساء حريتهن باسم التقاليد، ويرفع راية الشرف بينما يتجاهل المعاني الحقيقية للشرف، مشهد جارتنا التي اكتفت بإخراجنا من الغرفة وتركها تتألم حتى الموت هو تجسيد لهذا التجاهل، كان بوسعها المساعدة، لكنها كغيرها آثرت الصمت، فقد رأت أن لأهل أمي حقًا في تقرير مصيرها وكأنها شيء مملوك، لا إنسانة مستقلة.

توضح: “كلما نضجتُ، أدركتُ أن أمي لم تُقتل لأنها أخطأت، بل لأنها كانت جريئة بما يكفي لتعيش حياتها كما أرادت، لقد أحبّت، وتزوجت، وأنجبت، لكنها في نهاية المطاف كانت ضحية ثقافة ترفض أن تعترف للمرأة بحقوقها، وتعتبر تمردها جريمة، كان موت أمي إعلانًا غير عادل بأن الحب والمشاعر والاختيارات كلها أشياء ممنوعة على النساء، وأن مصير من يعارض هذا النظام هو الموت.”

تُثار الأسئلة حول تصاعد ما يعرف بجرائم الشرف في المجتمع المصري، إذ يشهد المجتمع المصري خلال السنوات الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في قضايا القتل بدافع الشرف، وتتناثر الحوادث في أروقة المحاكم وأعمدة الصحف، مثيرة صدمةً شعبية وتساؤلات لا حصر لها حول تأثير العادات والتقاليد الموروثة على حياة الأفراد، خاصة في المناطق الريفية وصعيد مصر. تشير الإحصائيات الأخيرة إلى زيادة ملحوظة بنسبة تكاد تتجاوز الـ 25% في جرائم الشرف خلال السنوات الخمس الأخيرة، وهو واقع مأساوي تعيشه النساء المصريات، اللاتي يقعن ضحايا لجرائم تُرتكب بدافع الدفاع عن “الشرف” وفق موروثات اجتماعية قديمة، تضعف فيها كفة العدالة لصالح التشدد المجتمعي

 

نوصي للقراءة: “تضاعف جرائم قتلهن”.. النساء يسددن فاتورة الفقر مرتين 

 

جرائم الشرف تصاعد مستمر

مع تزايد حدة جرائم القتل بدافع الشرف، احتلت القاهرة المركز الثالث عربيًا والـ 24 عالميًا من حيث معدلات الجرائم وفق تصنيف “ناميبو” لقياس معدلات الجريمة لعام 2023، وتشير دراسات محلية إلى أن تلك الجرائم في تصاعد مستمر، ما يزيد العبء على الأسر المصرية التي أصبحت ضحيةً لانفلات المعايير المجتمعية وتراجع القانون.

فبحسب دراسة أجراها طلاب بكلية الآداب قسم الاجتماع بجامعة عين شمس، تشكل جرائم القتل العائلي ما يقارب الربع إلى الثلث من إجمالي جرائم القتل في البلاد، إذ تندرج جرائم الشرف ضمن هذه الجرائم العائلية، لتضع عبئًا متزايدًا على كاهل الأفراد ضمن محيطهم الأسري، وتدعم إحصاءات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية هذا التوجه، حيث أكدت أن نحو 70% من هذه الجرائم يرتكبها الأزواج بحق زوجاتهم، يليهم الأشقاء بنسبة 20% ضد شقيقاتهم، بينما تمثل الجرائم المرتكبة من قبل الآباء ضد بناتهم حوالي 7% فقط، و3% من الجرائم يرتكبها الأبناء بحق أمهاتهم، وذلك بدافع “الحفاظ على الشرف وغسل العار”.

وتدعم إحصاءات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية هذا التوجه، إذ أكدت أن نحو 70% من هذه الجرائم يرتكبها الأزواج بحق زوجاتهم، يليهم الأشقاء بنسبة 20% ضد شقيقاتهم، بينما تمثل الجرائم المرتكبة من قبل الآباء ضد بناتهم نحو 7% فقط، و3% من الجرائم يرتكبها الأبناء بحق أمهاتهم، تحت ذريعة الحفاظ على الشرف.

في استعراض شامل لـ الفترة بين 2015 و2019، سجل “دفتر أحوال” البحثي المستقل، وقوع 371 حالة قتل أو إصابة مرتبطة بقضايا الشرف، وكانت الشكوك حول السلوك سببًا رئيسيًا في وقوع العدد الأكبر من الضحايا، إذ أسفرت عن مقتل 231 ضحية، بينهم 227 من الإناث، تلاها دافع ترك المنزل بمجموع 41 حالة (جميعها من الإناث)، وأشارت الدراسة أيضًا إلى أن استخدام الطعن كان الوسيلة الأبرز في تنفيذ هذه الجرائم، يليه الخنق أو الغرق.

و تندرج جرائم العنف القاتل ضد النساء والفتيات كأحد أشد انتهاكات حقوق الإنسان رواجًا، لتصل إلى ذروتها كنهاية دموية لـ دورة متصلة من العنف القائم على النوع الاجتماعي، التي غالبًا ما تكون مسبوقة بتجارب مريرة من الأذى الجسدي أو الجنسي أو النفسي، وفقًا للأمم المتحدة، وقد أصدر مكتب “الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات” بالتعاون مع “هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة” دراسة شاملة بعنوان “جرائم قتل النساء والفتيات المرتبطة بالجنس: تقديرات عالمية للقتل الأسري وقتل الشريك الحميم المرتبط بالنوع لعام 2022.” 

تأتي الدراسة في إطار حشد الجهود العالمية لمواجهة تلك الجرائم؛ إذ تمثل الطبعة الثانية من تقرير شامل يتناول تقديرات عالمية لـ حالات قتل النساء والفتيات على أيدي الشريك الحميم أو أحد أفراد الأسرة، مستندةً إلى بيانات من عام 2022، ويعد هذا العام الأشد عنفًا خلال العقدين الماضيين، مع تسجيله أعلى معدلات قتل للنساء والفتيات في جميع مناطق العالم، ما يظهر حجم المشكلة الممتد إلى مجتمعات متعددة وثقافات متنوعة. لكن رغم التقدم التدريجي في توفير البيانات العالمية/ المحلية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي، تبقى فجوات واضحة تحد من فهم معدل القتل المرتبط بالنوع الاجتماعي في المجال العام وضد الفئات الأكثر تعرضًا للخطر، كـ الناشطات السياسيات والمدافعات عن حقوق الإنسان والصحفيات.

وفقًا للمشرع المصري، فإن الجريمة التي يرتكبها الزوج ضد زوجته التي يضبطها متلبسة بالزنا، داخل فراش الزوجية تعد جُنحة، ووفقًا لـ المادة رقم 237 من قانون العقوبات، فإن الزوج الذي يضبط زوجته متلبسة في حالة زنا فأرداها قتيلة فإنه يُعاقب بالحبس بدلًا من العقوبات المقرر في المادتين 234 و236، حيث ينتظر هذا الزوج فقط عقوبة تبدأ من 24 ساعة وأقصاها الحبس لمدة 3 سنوات. ويتفق الفقه على تسمية تلك الحالة بأنها تقع تحت طائلة عذر الاستفزاز أي “استفزاز الزوج” الذي رأى زوجته بغتة متلبسة في الزنا، وفقدانه السيطرة على نفسه وشعوره في هذه الحالة، حيث يندفع منتقمًا دون النظر إلى العواقب.

أما عن عقوبة الزنا للزوجة التي ثبت عليها واقعة الزنا في منزل الزوجية، فيُغلظ القانون المصري عقوبتها، وفقًا لنص المادة 274 من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، التي جاء فيها بأن المرأة المتزوجة التي ثبت زناها يُحكم عليها بالحبس مدة لاتزيد على سنتين؛ لكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرتها له كما كانت، فيما تأتي عقوبة الزوج وفقًا لنص المادة رقم 277 من ذات القانون لنفس السنة تكون إذا ما ثبت زنا الزوج بمنزل الزوجية بدعوى الزوجة فإنه يُعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر. 

 

نوصي للقراءة: جرحٌ عميقٌ يُدمّر حياة النساء.. العنف الرقمي والتشهير في مصر

 

قُتلن لأنهن نساء

في السابع من ديسمبر عام 2022، أنجز المسؤولون في مركز “تدوين”، دراسة معنونة بـ “قُتلن لأنهن نساء“، تهدف إلى تسليط الضوء على مدى انتشار حوادث القتل والانتحار التي تستهدف النساء والفتيات في المجتمع المصري، من خلال توثيق وتحليل الحالات المنشورة في الصحف في الفترة الممتدة من أكتوبر 2021 حتى أكتوبر 2022. واعتمدت الدراسة على منهج المسح الشامل، جامعة كافة حوادث قتل النساء والفتيات التي تم توثيقها عبر الإنترنت، لتقدم صورة متكاملة حول هذه الظاهرة في مصر. وتشير البيانات إلى أن حوالي 80.4٪؜ من حالات قتل النساء والفتيات ارتكبت بواسطة أحد أفراد الأسرة وأن حوالي 11.8٪؜ من تلك الحالات ارتكبت على يد أحد الأصدقاء أو الجيران أو الغرباء . ومن بين النساء والفتيات التي قتلت بدافع الشرف أو الشك في السلوك بنسبة 9.8٪

الجدير بالذكر أن مركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي تأسس في عام 2016 . بهدف نشر الوعي القائم على الأدلة حول قضايا النوع الاجتماعي، وتنفيذ المشاريع و صياغة السياسات واتخاذ الإجراءات اللازمة لتعزيز مكانة المرأة فيها المجتمع المصري والحد من العنف ضد النساء والفتيات بشكل عام.

مي صالح – الباحثة في قضايا النوع الاجتماعي- تقول: “قضايا القتل بدعوى الشرف قديمة جدًا في جذورها، لكنها تتطور باستمرار من حيث الأساليب المستخدمة، يعود ذلك إلى رؤية المجتمع للمرأة باعتبارها حاملة شرف الأسرة، إذ يرتبط شرف الأب والأخ والزوج بشرفها، وأي تصرف غير مقبول منها يُعد إهانة لشرف العائلة بأكملها، المجتمع يُحمّل المرأة وحدها مسؤولية الحفاظ على الشرف، ويميل إلى وصم النساء وتحميلهن تبعات العنف الواقع عليهن بدلًا عن محاسبة الجُناة، بل غالبًا ما يجد المجتمع تبريرات لتصرفات المعتدين.”

تُضيف في حديثها إلى زاوية ثالثة: “شاهدتُ بنفسي حادثتين توضحان هذا الواقع المؤلم؛ في إحداهما، كانت الضحية فتاة من عمال التراحيل تعمل في الزراعة، اغتصبها ابن صاحب الأرض، وعندما علم أخوها بالأمر، لم ينتقم من الجاني، بل قتل أخته لينتهي بها الحال مقتولة وأخيها مسجون، بينما أفلت الجاني الحقيقي من العقوبة. في واقعة أخرى، كانت هناك فتاة معلمة تعطي دروسًا خصوصية في حي شعبي، وبدأت الشائعات تنتشر حولها بين سكان المنطقة، لتصل إلى أخيها، الذي بادر بقتلها دون تحقيق أو محاولة للفهم. وأرى أن هذه الحوادث تكشف أن بعض النساء يُقتلن لا لكونهن مذنبات، بل لأنهن سعَين وراء لقمة العيش.”

وتعزو الباحثة بقضايا النوع الاجتماعي تأزم المشكلة إلى أن القانون نفسه غير عادل في بعض أحكامه المتعلقة بجرائم الزنا؛ فحين تقتل المرأة زوجها إذا ضبطته في وضع مخل على فراش الزوجية، تُعامل كـ جانية في قضية قتل عادية، أما إذا قام الزوج بقتل زوجته وعشيقها في موقف مشابه، يُعتبر الأمر دفاعًا عن الشرف، مايظهر نظرة المشرع المتحيزة تجاه شرف المرأة مقارنة بالرجل، ومن جهة أخرى، تعاني قوانين العقوبات لدينا من ثغرات في بعض موادها، مثل المادة 17 والمادة 60، التي تعطي للمجتمع وللقاضي مساحة للتبرير، بحيث ينظرون إلى اعتداء الأخ على أخته أو الزوج على زوجته على أنه “تأديب”.

وترى مي أن وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا في تفاقم هذه المشكلة، إذ أصبحت مجموعات على تطبيق تليجرام تستغل الصور الخاصة بالنساء والفتيات، وتبحث عن تفاصيلهن الشخصية لتصل إلى أرقام آبائهن أو أزواجهن، بهدف التحريض على العنف ضدهن، ما يزيد من حدة التحريض الذكوري المجتمعي، “نحن كباحثات/ين نسعى دائمًا للمطالبة بتعديل القوانين، بما في ذلك إنشاء مشروع قانون موحد لمناهضة العنف ضد المرأة وتقييد استخدام المادة 17، كما أننا نؤكد على أهمية العدالة التعويضية والتوعية، إذ أن التصالح في مثل هذه القضايا ليس في مصلحة المجتمع.

 

نوصي للقراءة: وسوم الكفاح من أجل الحرية الجسدية للمرأة  

 

ذكريات مؤلمة مُغلفة بـ “الشرف”

ندى سعيد، أردنية في الـ 53 من عمرها، تزوجت من مصري كان يعمل في الأردن، وأنجبت منه ثلاثة أطفال، بعد عدة سنوات من الزواج، انتقلت إلى مصر مع عائلتها واستقرت لتعيش مع زوجها لنحو تسع سنوات، إلى أن ألمّ بزوجها مرض خطير وأُدخل على إثره إلى العناية المركزة.

تروي في حديثها معنا أن شقيق زوجها منعها من زيارة زوجها في المستشفى، وقال لها بلهجة صارمة إنه يتوجب عليها العودة إلى بلدها وترك الأطفال في مصر، محذرًا إياها من العودة مرة أخرى، وعندما رفضت الانصياع لأوامره، هددها قائلاً إنه سيقوم باحتجازها ويلجأ إلى الشرطة ليُلقي عليها تهمة تمس شرفها، ما سيؤدي إلى سجنها إن عادت إلى المنزل.

ومع تصاعد التهديدات، تقول ندى إن عائلة أجبرتها زوجها على إعداد أوراق السفر بشكل عاجل، وحجزوا لها تذكرة سفر رغم أن والدتها كانت لا تزال تنتظر اكتمال أوراقها، أُجبرت ندى على السفر قبل والدتها بأسبوع، وغادرت مطار القاهرة، فيما تأكدت عائلة زوجها من مغادرتها البلاد، وبعد عدة أيام، عادت والدتها إلى الأردن أيضًا.

بعد مرور شهر على سفرها، توفي زوج ندى في سبتمبر 2019، ومنذ تلك اللحظة قُطعت علاقتها بأطفالها الثلاثة، لم يمضِ وقت طويل حتى تلقت نبأً مفجعًا؛ خبر وفاة ابنتها الصغيرة أنوار، التي لم يتجاوز عمرها 11 عامًا، وكُشف لاحقًا أن العائلة كانت تمارس عليها تعذيبًا شديدًا، شمل الصعق بالكهرباء، وصل الأمر في نهاية المطاف إلى أن ألقت عمتها وعمها جثمان الطفلة من شرفة المنزل وغطوها بسجادة، مدّعين أنها سقطت عرضًا، لكن تقرير الطب الشرعي أثبت العكس.

اتصلت السلطات المصرية بندى وأبلغتها بما حدث، ما دفعها للعودة إلى مصر حيث تقدمت بشكوى للنيابة، وروت تفاصيل المعاناة التي مرت بها قبل سفرها، وأصدر رئيس المباحث أمرًا يقضي بعودة طفليها الآخرين، محمد وأحمد، اللذين يبلغان من العمر 16 و17 عامًا، إلى حضن والدتهم، واليوم يعيش الطفلان مع والدتهما في الأردن، حيث تُحاول لملمة جراحهم والعمل على بناء حياة جديدة بعيدًا عن تلك الذكريات المؤلمة.

يقول محمود عبد الفتاح – المحامي الحقوقي وأحد مؤسسي مركز قضايا المرأة المصرية- في حديثه مع زاوية ثالثة: “لا حلّ إلا بتقييد السلطات القضائية فيما يتعلق بجرائم القتل والعنف الموجهة ضد النساء، وخاصة تلك التي تُرتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف أو ما يُعرف بجرائم الشرف، فالأمر يتطلب إلزامًا قانونيًا ينزع عن القضاة هامش التخفيف في الأحكام التي تُخفف وطأة الجريمة وتمنح العذر للجناة بحجة الشرف.”

يضيف: ثمة ورقة بحثية مهمة أعدها شكري الدقاق، رئيس محكمة جنايات الإسكندرية سابقًا، تُسلط الضوء على ضرورة إعادة النظر في النصوص القانونية، لتشمل تعديلات واضحة تشدد العقوبات على جرائم الشرف، وتعالج القصور التشريعي الذي يتيح للجناة الإفلات من العقاب الكامل، إن هذه الورقة البحثية تقدم رؤية تتحدى الأعراف الاجتماعية والموروثات القانونية، التي تُشكل ملاذًا آمنًا للعنف ضد المرأة بدلاً من أن تكون درعًا يحميها.”

ترى أمل فهمي – المديرة التنفيذية لمركز تدوين لدراسات النوع الاجتماعي-، أن مصطلح “جرائم الشرف” يعدّ مفهومًا مغلوطًا مما يُرسخ فكرة غير حقيقية تمنح المجتمع، وخاصة الرجال، السلطة للتحكم في أجساد النساء، معتبرةً أن هذا المصطلح يعطي شرعية لـ التصرفات العنيفة تجاه المرأة، لذا لابد من تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية، مثل. جرائم القتل أو  جرائم العنف الذكوري الممارَس بدواعي الشرف.

وتشير في حديثها إلينا إلى أن حالات العنف والتشويه التي تتعرض لها النساء، غالبًا ما تكون بدعوى مخالفة المرأة لما يُرى أنه من التقاليد والأعراف، والتي يُلبَس بعضها طابعاً دينياً، هذا التبرير يؤدي إلى تبرير كافة أشكال التعنيف ضد المرأة، وصولاً إلى القتل، حيث تدفع النساء الثمن في معظم الحالات، سواء في قضايا الاغتصاب أو التحرش الجنسي أو حتى ما يسمى “جرائم الشرف”.

أمل تقول إنه لابد أن نُدرك جيدًا أهمية رصد هذه الجرائم التي تنتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، نظراً لغياب إحصائيات رسمية من الدولة حولها، كما أن هناك ضرورة مُلحة للعمل بجدية لرصد هذه الحالات وفتح حوار مجتمعي لتفكيك العلاقة الزائفة بين مفهوم الشرف وجسد المرأة، وهي علاقة ألحقت ضرراً كبيراً على النساء.

وعن التحديات، تختتم مديرة مركز “تدوين” حديثها بضرورة الفصل بين مفهوم الشرف وأجساد النساء، وحق المرأة الكامل في حرية التصرف بجسدها، مشددة على مواجهة المفاهيم المجتمعية والأسَرية التي تُقيد هذا الحق، كما أن هناك أهمية قصوى للعمل مع الأجيال الأصغر لتغيير هذه المفاهيم المجتمعية، وإطلاق حملات مناصرة للنساء المعرضات 

 

نوصي للقراءة: طلاق كل دقيقتين في مصر: ماذا تخبرنا الإحصائيات عن تفكك الأسر؟ 

 

لماذا تزداد جرائم الشرف؟

يرى محب ألفونس – استشاري علم النفس-، أن جرائم الشرف تتخذ بُعدين أساسيين: الجرائم غير المتعمدة والتي تنشأ عادةً نتيجة الصدمة التي يتعرض لها الشخص، إذ تؤدي هذه الصدمة إلى انقطاع التواصل بين العقل الواعي – المسؤول عن اتخاذ القرارات المنطقية وتقييم العواقب – والعقل اللاواعي، ما يتسبب في سلوكيات لا تُحسب عواقبها، وتكون هذه السلوكيات مدفوعة بالغضب والاندفاع وفقدان القدرة على التفكير المنطقي أو التحكم في التصرفات، ما يؤدي في النهاية إلى غياب التقدير السليم للعواقب.

يضيف، هناك أيضًا جرائم متعمدة تتم هذه الجرائم على خلفية مجموعة من المعتقدات والعادات المتجذرة، مثل الثأر أو التصورات المشوهة حول الشرف أو العنف المبني على الجنس، فالشخص الذي يرتكب هذه الجرائم يسعى غالبًا للتخلص من العار والخزي الذي تفرضه عليه هذه القيم المشوهة في محيطه الاجتماعي، بل ويهدف إلى اكتساب مكانة يُنظر إليها على أنها شجاعة أو شرف من وجهة نظره.

ويشير ألفونس في حديثه معنا إلى أن الجرائم المتعمدة غالبًا ما ترتبط بنقص الوعي والتشبث الأعمى بالمعتقدات المشوهة، دون تقييم عقلاني أو منطقي، ويرى أن هذه العوامل ترجع في الأساس إلى التأثيرات الثقافية والاجتماعية العميقة، إذ تكون القيم والمعايير غير موضوعية وغير انتقائية.

تخرجت سهام عزت (اسم مستعار) من محافظة أسيوط حاملة شهادة في الخدمة الاجتماعية، إلا أن حياتها لم تأخذ مسارًا هادئًا بعد التخرج؛ فبضغط من أسرتها، تزوجت مباشرة من رجل يكبرها بسنوات عدة، وكانت في الـ21 من عمرها، بينما كان هو قد بلغ الـ50. عاشت معه عشر سنوات، أنجبت خلالها أربعة أطفال، بنتين وولدين، كان زوجها قد تأخر في الزواج، الأمر الذي أشعل الطمع في قلوب إخوته، الذين أرادوا السيطرة على إرثه وممتلكاته، وكانوا يعتقدون أن وجود أطفالها، يعيق طموحاتهم في الاستيلاء على الميراث.

تروي إلى زاوية ثالثة أنه للضغط عليها ودفعها لترك المنزل، بدأ إخوته في نشر شائعات مسيئة عن سمعتها، بل ذهبوا إلى حد التواصل مع إخوتها، مدعين سوء سلوكها. دفعت هذه الإشاعات بعض إخوتها إلى الاعتداء عليها أكثر من مرة، بما في ذلك تعرضها لضرب مبرح من أخيها الأكبر، وعندما كانت تفكر في اللجوء إلى القانون، كانت والدتها تمنعها، بدعوى حماية أخيها من السجن.

بعد أن ضاقت ذرعًا بالاعتداءات المستمرة ولم تجد حلاً آخر، قررت الهرب مع أطفالها الأربعة إلى محافظة السويس، حيث بدأت حياة جديدة بعيدًا عن العنف العائلي، إلا أن ظروفها لم تتحسن كلية؛ فبعد عامين من الانتقال، ما زالت تعاني من تحديات كبيرة، من ضمنها حرمان أطفالها من التعليم خوفًا من أن تكتشف عائلتها مكان إقامتهم، خاصة مع التهديد المستمر الذي يلاحقها بالقتل. تعيش حاليًا في مسكن مستأجر تحت ضغوط نفسية واجتماعية كبيرة، إذ تشعر بعدم الأمان حتى من أقارب زوجها الراحل.

تعليقًا، يؤكد جمال محمود، محامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، أن التحديات القانونية التي تواجه المحامين في مجال “جرائم الشرف” تعتبر من أخطر القضايا التي تعصف بالمجتمعات المعاصرة، إذ يعتقد القاتل، من خلال ارتكابه لهذه الجريمة، أنه يقوم بتطهير نفسه من العار والمذمة، دون أن يدرك أنه يرتكب ما هو أكبر وأخطر، وهو سفك الدم، الذي يمثل فسادًا أشد من أي جريمة أخرى.

فإن ارتكاب شخص لجريمة قتل قريبة له بدعوى حماية الشرف وصيانة العرض هو أمر يتوجب محاسبة القاتل عليه، لا ينبغي أن تكون صلة القرابة أو الشك عذرًا مخففًا له، فالأحكام لا تُبنى على الشك. حتى لو كان المتهم متيقنًا من موقفه، فإن القضاء هو الجهة المعنية بإصدار الأحكام ومتابعة تنفيذها، لا الأفراد، وإلا ساد قانون الغاب.

فيما يتعلق بكيفية التعامل مع قضايا الشرف، يشدد محمود على أن القانون لم يمنح أي شخص، مهما كانت صلته بالضحية، الحق في التعدي على الآخرين، كل اعتداء له تكيفه القانوني، وقد ينتج عن هذا الاعتداء إصابات، مما يجعله جنحة ضرب بسيطة، حتى لو وصل الأمر إلى القتل. فتكييف كل واقعة قتل يعتمد على ظروفها وملابساتها.

من بين هذه الظروف، يُعتبر ضبط الزوج لزوجته في حالة تلبس بالزنا ثم قتلها أمرًا يستدعي الدراسة القانونية العميقة، أما فيما يتعلق بالثغرات القانونية التي يستغلها الجناة لتخفيف العقوبة، فيشير إلى أنه لا يمكن اعتبارها ثغرات بالمعنى المتعارف عليه، ولكن كما هو متفق عليه، فإن لكل قضية ظروفها الخاصة.

فإذا فاجأ الزوج زوجته حال تلبسها بجريمة الزنا فقتلها في الحال، فإن العقوبة قد تقتصر على الحبس، بدلاً من العقوبات الأشد المنصوص عليها في المواد 234 و236، التي تشمل الإعدام والسجن المؤبد، ويجب أن تتوافر شروط معينة: أن يكون الزوج في حالة مفاجأة، وأن تكون الزوجة متلبسة، وأن يتم القتل في تلك اللحظة للاستفادة من تخفيف العقوبة، التي قد لا تتجاوز السنة الواحدة حسب القانون.

وتنبع حكمة التخفيف في هذه الحالة من كون الزوج في حالة من الصدمة تجعله يتصرف بشكل غير مدروس، أما إذا كان الزوج قد علم بخيانة زوجته وانتظر حتى تقع في الجريمة ثم نفذ جريمته، فقد قضت الأحكام بأن الزوج لا يستفيد من التخفيف في هذه الحالة.

لذا، فإن أهم الخطوات القانونية لمنع حدوث جرائم الشرف تتمثل في التشريعات والعقوبات الرادعة وسرعة التقاضي، فهي صمام الأمان لأي مجتمع، ولكن يتوجب أن تسبق هذه التشريعات مرحلة التوعية حول آثار الجريمة على الفرد والمجتمع، فلكل جريمة دافع ينبع من نفس المتهم، ومن هنا فإن الحد من الجرائم عمومًا هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق جميع مؤسسات الدولة، إن تقدم الشعوب وتقبل تنوع الثقافات ونبذ العنف هو جهد جماعي يتطلب منا جميعًا التعاون كشركاء في وطن واحد.

إن تصاعد هذه الجرائم يفتح باب النقاش حول ضرورة إعادة تقييم السلوكيات الاجتماعية وإعلاء سيادة القانون، لإيقاف النزيف المجتمعي القائم على الموروثات البالية التي تعمق الجراح الأسرية وتحطم نسيج المجتمع، ليبقى التساؤل معلقاً: إلى أي مدى ستظل النساء ضحية لمفاهيم قديمة؟.

منار بحيري
منار بحيري
صحفية مصرية

Search