أدرك أن أوجب واجبات الوقت وأصدق تعبير عن التعاطف مع المنكوبين والضحايا جراء كارثة كبرى كتلك التي تحياها تركيا وسوريا، هو أن يقدم المرء لهم ما يمكنه تقديمه وفق المتاح. ومع إيماني العميق بمقولة إيليا أبو ماضي، بأن كل ما في الأرض من فلسفة لا يُعزي فاقدًا عمن فقد، غير أن أرى أن في الفلسفة عزاءات، قد نكون -وقت العواصف الكبرى- في حاجة لها.
خمسة وأربعون ألف عدد من لقوا حتفهم، حتى لحظة كتابة هذا المقال، جراء الزلزالين الكبيرين وتوابعهما، اللذين ضربا جنوب تركيا وشمال سوريا، ناهيك عن مئات الآلاف من الضحايا المصابين والمتضررين والمفجوعين والثكالى.
هزة عنيفة زلزلت الأرض، كما زلزلت، أو هكذا يجب، مسلمات، لطالما رددتها ولا تزال أصوات يمينية، تنطلق في تفسير الظاهرة، أن الله تدخل فأرسل لضحاياها عقابًا عاجلًا على خطاياهم، وهو تفسير يتوسع على سطحيته ليرى أن كل الظواهر الطبيعية وحتى الأوبئة والأمراض، آيات أرسلها الله لنا ليخوفنا بها تخويفًا، وهو ما يُرضي عقول البعض، ويمنحه شعورًا زائفًا، بوقوف القدرة الإلهية معه، وتدخلها الحاسم لتحقيق النصر له على مخالفيه. لكنه تبرير يعجز عن الصمود أمام حقائق الواقع، ومسلمات العقل، وبراهين المنطق.
ليس الآثمون وحدهم الذين ذهبوا للصلاة في الكنائس صباح هذا اليوم! لقد هلك كثير من القساوسة المتبتلين والراهبات المتفانيات المخلصات للدين!
ويقال بأن المسلمين هللوا يومها للكارثة التي حلت بلشبونة، وعدوها انتقامًا إلهيًا من محاكم التفتيش التي مورست في البرتغال، لكنهم فوجئوا أن الزلزال دمَر كذلك المسجد الكبير الذي يحمل اسم المنصور في مدينة الرباط بالمغرب!
كذا مثلا جرى تفسير ظاهرة زلزال تسونامي إندونيسيا العام 2004، وكذا جرى تفسير ظاهرة وباء كوفيد العام 2019، أوائل ظهوره بعيدًا عنا في أقصى الأرض، فاعتبروه انتقامًا إلهيًا لما لحق بأقلية مسلمي الإيجور في الصين.
الزلزال الذي ضرب أرض سوريا التي أنهكتها الحرب الأهلية أصلًا، فدمر ما بقي من أنقاض مدنها، وقضى على آلاف الناجين من حربها، كان مركزه كهرمان مرعش في تركيا، البلد الذي يحكمه حزب ذي جذور إسلامية، ولم تخجل أصوات يمينية إسلامية من إعادة ترديد تبريراتها السابقة عليه كونه عقوبة عاجلة على آثامنا، كما التقط خيط التبرير فيه هذه المرة أصوات يمين مسيحية، رأت فيه انتقامًا من الله على ما جرى في كنيسة آيا صوفيا، التي تحولت مسجدًا في عهد الرئيس التركي رجب أردوغان.
لكن زلزال تركيا وسوريا، يٌشبه في هزاته الارتدادية والفكرية زلزال لشبونة الذي قوض أركان الكنيسة في أوروبا منتصف القرن الثامن عشر.
ففي صبيحة اليوم الأول من نوفمبر عام 1755، اليوم الذي يوافق عيد القديسين، هزت الأرض -بتعبير ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة- هزت الأرض كتفيها في البرتغال وشمال أفريقيا، فاهتزت معها عقائد المسيحيين هزًا عنيفًا، فيما عرف لاحقًا بزلزال لشبونة.
في ست دقائق فقط، وفق ما ذكره ديورانت، تهدمت ثلاثون كنيسة، وانهار ألف منزل، ولقي خمسة عشر ألف رجل حتفه، وأصيب أمثالهم إصابات خطيرة، فيما يُشه الموت الجماعي في واحدة من أجمل عواصم العالم يومها.
حيَر الزلزال رجال اللاهوت، وأفسد بالهم، فلماذا اختار الزلزال هذه المدينة الكاثوليكية؟! ولماذا اختار يوم القديسين؟! ولماذا اختار ساعة التقاء كل هؤلاء الصالحين الأتقياء لحضور القداس؟!.. وهي الأسئلة التي فجرت وابلًا من الشك في اللاهوت ورجاله.
أحد اليسوعيين البرتغاليين قال إن زلزال لشبونة وما أعقبه من أمواج عاتية مدمرة كان عقابًا من الله على الرذيلة التي استشرت في المدينة. وألقى جون ويزلي موعظة عن أسباب الزلازل وعلاجها قال فيها: “إن الخطيئة هي السبب المعنوي للزلازل مهما كان سببها الطبيعي، وإن الزلزال هو نتيجة اللعنة التي صبتها على الأرض خطيئة آدم وحواء الأولى”.
لكن هذا التفسير جر أسئلة أكثر مما قدم أجوبة، فليس الآثمون وحدهم الذين ذهبوا للصلاة في الكنائس صباح هذا اليوم! لقد هلك كثير من القساوسة المتبتلين والراهبات المتفانيات المخلصات للدين!
ويقال بأن المسلمين هللوا يومها للكارثة التي حلت بلشبونة، وعدوها انتقامًا إلهيًا من محاكم التفتيش التي مورست في البرتغال، لكنهم فوجئوا أن الزلزال دمَر كذلك المسجد الكبير الذي يحمل اسم المنصور في مدينة الرباط بالمغرب!
وحين عزا بعض الكهنة البروتستانت في لندن هذه الكارثة لاستنكار السماء لجرائم الكاثوليك ضد الإنسانية، لم يمر سوى تسعة عشر يومًا حتى ضرب الزلزال مجددًا خمسة عشر ألف منزل في بوسطن، عاصمة ولاية ماساتشوستس، وهي موطن الحجاج البيوريتانيين أو المتطهرين.
هنا استشاط الشاعر والفيلسوف الفرنسي فولتير غضبًا من هذه التفسيرات، لكنه أيضًا لم يجد، بداية الأمر، شيئاً يوفق به بين الحادث الأليم وبين إيمانه بإله عادل، فدخل في حالة من الهم والغم لا توصف، وهو يتخيل آلام الضحايا وصرخات المفجوعين تحت الأنقاض.
صب فولتير جام غضبه على فيلسوف التفاؤل الألماني لايبنتز، ردًا على مقولة الأخير، بأن الله خلق العالم على أحسن تقويم، وأنه مهما حصل ويحصل ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن ما نراه من شرور قد يكون مقدمة لخير عظيم.
صوب فولتير حيرته وأسئلته صوب العناية الإلهية ذاتها، فأنشد قصيدته “برشلونة” التي طرح فيها كل هذه الحيرة والتساؤلات الفلسفية والميتافيزيقية التي أرقته.
وبعيدًا عن الحرب الهادئة غير المعلنة التي خاضها فولتير ضد رجال الكنيسة، والنار التي أوقدها تحت أقدامهم على مهل، نرى أنه أجاب ذاته بذاته، نهاية المطاف، ففي القاموس الفلسفي في مقالته “الإيمان بوجود الله” كتب ما يُعزز الإيمان ويحيل إلى الاعتراف بالعجز عن فهم الحكمة الإلهية الكاملة، فقال: “إن المؤمن الموحد بالله، رجل مقتنع كل الاقتناع بوجود كائن أسمى، فاضل، قوي معاً، خلق كل الموجودات، يُعاقب على الخطايا دون قسمة، ويُثيب على صالح الأعمال في رفق وحنان. إن المؤمن لا يعرف كيف يعاقب الله ولا كيف يعفو ويغفر، لأنه لم تبلغ به الجرأة حداً يخدع معه نفسه بأنه يدرك كيف يتصرف الله، ولكنه يعلم أن الله يفعل، وأن الله عادل”
ويمكن لنا أن نفهم ما قاله فولتير، ويساعدنا على تكوين منطق يساعدنا على فهم ما لا نفهمه، دون تقول على الله، ولا افتراء عليه، ولا أن نثبت في حقه انتقامًا لم يخبرنا أحد به، كل ذلك يحدث حين نعترف بأن علم الله أوسع من علمنا، وأن عدله حاضر مهما غاب عنا تصوره، فنردد مع فولتير بكلمات أخرى وفي طمأنينة: يارب نوقن بعدلك، ونؤمن بحكمتك، وإن عجزنا عن فهم مرادك.
* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي زاوية ثالثة