هل تتحمل الأوضاع الاقتصادية مسؤولية ارتفاع معدلات الجريمة في مصر؟

تشمل بعض الحلول الأكثر فعالية زيادة القدرة على الوصول إلى التعليم، والتدريب المهني، وغير ذلك من الموارد التي يمكن أن تساعد الأفراد على بناء المهارات وتحسين آفاقهم الاقتصادية.
مي سعودي

 منذ أيام يتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي في مصر، آخر التطورات التي تكشف عنها النيابة العامة بين الحين والآخر بشأن جريمة طفل شبرا الخيمة، التي ارتبطت للمرة الأولى بما يعرف بـ”الدارك ويب- الإنترنت المظلم”، إذ أن الطفل أحمد البالغ من العمر 15 عامًا قد تعرض للقتل بطريقة عنيفة من جار له، بعد أن أغري الأخير بمبالغ نقدية كبيرة مقابل تصويره عملية قتل واستخراج أعضاء من الضحية.

وحسب المعلومات المتاحة عن الجريمة، فإنها ترتبط ببعد اقتصادي، إذ أن هدف القاتل كان الاستحواذ على خمسة ملايين جنيه، مقابل تصوير العملية، والتي كان مخطط تداولها وبيعها عبر مواقع “الدارك ويب” لتحصيل مبالغ طائلة. لكنه لم يتمكن في استكمال خطته باستدراج ضحايا جدد، وعقب اختفاء الطفل لأيام انكشف كل شئ.

حوادث يومية متداولة توحي بتزايد معدلات الجريمة في مصر مؤخرًا. تعددت أنواعها ما بين قتل وخطف وابتزاز وسرقة ونصب. واختلفت دوافعها وملابسات وقوعها، لكن السؤال الرئيس الذي بات مطروحًا: لمَ تستمر تلك المعدلات في الارتفاع رغم القبضة الأمنية الشديدة؟.

تعد الجريمة قضية منتشرة في طبقات مختلفة داخل المجتمع المصري، ويمكن أن يكون لها تأثير عميق على رفاهية الأفراد والأسر والمجتمعات. ورغم أن أسبابها معقدة ومتعددة الأوجه؛ إلا أن هناك مجموعة متزايدة من الأدلة تشير إلى وجود صلة قوية بين معدلات الجريمة ومستويات الفقر. فكثيرًا ما يُستشهد بالفقر كعامل رئيسي في إدامة السلوك الإجرامي، وقد يلجأ الأفراد الذين يفتقرون إلى الوصول إلى الموارد والفرص الأساسية إلى أنشطة غير قانونية كوسيلة للبقاء على قيد الحياة.

ووفق مؤشر قياس الجريمة في قاعدة البيانات (نامبيو) خلال عام 2024، فإن مصر احتلت المركز الـ 18 على مستوى الدول الإفريقية في معدلات الجريمة بمعدل 47.3 على مؤشر الجريمة، والمرتبة الـ 65 عالميًا، والثالثة عربيًا؛ بسبب تفشي ارتكاب الجرائم المختلفة.

غير أن هناك العديد من العوامل المختلفة التي يمكن أن تسهم في زيادة معدلات الجريمة في مصر، بما في ذلك العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وفقًا للدراسة التي نشرتها “فاستر كابيتال” حاضنة ومسرّعة الأعمال، وأبرز العوامل الرئيسية التي تم تحديدها؛ البطالة، وتعاطي المخدرات والكحول، وقضايا الصحة العقلية، والعزلة الاجتماعية، والضغوط الاقتصادية التي ينتج عنها زيادة معدلات الفقر وتآكل الطبقات المجتمعية. ويمكن لهذه العوامل أن تخلق شعوراً باليأس، ما قد يؤدي بدوره إلى السلوك الإجرامي وارتفاع معدلات الجريمة.

حسب نتائج بحث القوى العاملة للربع الرابع “أكتوبر – ديسمبر” لعام 2023، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن معدل البطالة وصل إلى مستوى 6.9%، إذ سجّل تقدير حجم قوة العمل 31.101 مليون مواطن، بينما كانت 31.956 مليون مواطن خلال الربع السابق بنسبة تراجع بلغت 2.7%. فيما سجل مُـعدّل البطالة بين الذكور نحو 4.6% من إجمالي الذكور في قوة العمل، بينما بلغ بين الإناث 17.7% من إجمالي الإناث في قوة العمل.

ورغم تصنيف القاهرة في المركز الـ 18 إفريقيا والثالث عربيًا في ارتفاع معدلات الجرائم، كانت الرواية الرسمية حاضرة، تدحض نتائج المؤشرات الدولية، ففي أكتوبر الماضي من عام 2023، قال وزير الداخلية محمد توفيق خلال فعاليات مؤتمر “حكاية وطن” إن معدلات الجريمة شهدت انخفاضًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، حيث انخفضت معدلات ارتكاب الجنايات في عام 2023 مقارنة بعام 2013 بنسبة 73%، كما أنه بالمقارنة بعام 2010 فقد تراجعت معدلات ارتكاب الجريمة بنسبة 9%، وهو ما وصفه الوزير بكونه رقمًا قياسيًا.

وأضاف توفيق، أن معدلات ضبط الجرائم المرتكبة ارتفع من 57% عام 2013 إلى 95% في 2023، وجرائم الجنحة انخفضت عام 2023 مقارنة بـ 2013 بنسبة 58% وتراجعت عن 2010 بنسبة 12%.  ولفت إلى أن معدلات الضبط في هذه الجرائم في 2013 كانت 20%، وأصبحت حاليا 84% وهذا رقم قياسي حققته وزارة الداخلية.

وكانت وزارة الداخلية قد أكدت في بيان لها في عام 2017، أن جرائم القتل العمد قد ارتفعت بنسبة 130%، والسرقة بالإكراه زادت بنسبة 350% بينما ارتفعت سرقة السيارات إلى 500%، فيما ارتفع أن عدد المجرمين “البلطجية” إلى 92 ألفًا و680 فرد، ليرتفع عدد “المسجلين خطر” بنسبة 55%، بخلاف غير المسجلين في الأوراق الرسمية، كما زادت جرائم الخطف من أجل الفدية إلى 400 حالة خلال العام 2016، وتضاعفت معدلات السرقة إلى نحو أربعة أضعافها، من خمسة آلاف إلى نحو 21 ألف حالة سرقة.

 

الأوضاع الاقتصادية السيئة تزيد من معدل الجريمة

 قام الجار بارتكاب جريمته وبعدها مكث في البحث عن الطفل المفقود بصحبة أسرته وجيرانه، وعندما اكتشفت قوات الأمن الجريمة، وتوصلت التحريات إلى مرتكب الواقعة ألقت القبض عليه وعرضه على النيابة العامة و باستجوابه أقر تفصيلًا بارتكاب الواقعة بغية الحصول على ملايين الجنيهات بعد بيع الفيديو على تلك المواقع السرية، فقد فضّل حصد الأموال السريع لانتشاله من فقر مدقع كان يحيا به.

ولذلك، تمثل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية سببًا مهمًا في انتشار جرائم السرقة والنصب، وتأتي في الوقت الذي بلغت فيه نسبة البطالة في مصر نحو 6.9% من إجمالي قوة العمل، بواقع عدد متعطلين 2.159 مليون متعطل (1.165 مليون ذكور، 994 ألف إناث)، وفق أحدث بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، كما سجل الجنيه المصري انخفاضًا كبيرًا أمام الدولار الأمريكي والعملات الأجنبية الرئيسية خلال الشهور القليلة الماضية، قبل أن يعاود الانخفاض الرسمي بقوة عقب قرار البنك المركزي الأخير بالتحرير الكامل لسعر الصرف.

شارحًا، يؤكد وليد هندي -استشاري الصحة النفسية- خلال حديثه إلى “زاوية ثالثة” أن الوضع الاقتصادي له تأثير كبير على مفهوم الإنسان نحو ذاته وأيضًا على معدل الطموح لديه وسلوكياته العامة، وما يترتب عليها من ارتكابه للجرائم، وفقًا لنظرية كارل ماركس وإنجلز اللذان قاما بتأسيس النظرية الاقتصادية في علم الجريمة، ونبهوا إلى مدى تأثير الأوضاع الاقتصادية للدول على الجرائم ونوعيتها ومعدلاتها.

ويبيّن “هندي” أن التضخم، والخصخصة، والكساد، والأجور المنخفضة، وارتفاع الأسعار الذي تعاني منه مصر، يؤثر على شكل الجريمة ونوعها، نتيجة تعرض الإنسان للضغوط المادية، التي تولد لديه صراع القيم وتحضه نحو ارتكاب الجرائم، مضيفًا أن الفقر والحرمان والفرص المحدودة تمثل ضغوطًا خارجية على الإنسان وتدفع البعض لارتكاب الجرائم، كما أن الخلل الاقتصادي الذي تتعرض له الدولة يؤدي إلى توليد العديد من الظواهر ومنها معدلات البطالة وظهور طبقات جديدة بالمجتمع؛ ما ينتج عنه وجود جرائم جديدة لم تكن موجودة من قبل. ونتيجة لظهور هذه الطبقات وأفكارها وسلوكها وطموحاتها ودوافعها الاقتصادية، فتنتج أنواع من الجرائم المختلفة.

وعدّد “هندي” الجرائم التي تقع نتيجة الظروف الاقتصادية وأهمها السرقة والنصب والرشوة وأيضا جرائم الشرف أو الدعارة، إلى جانب الاعتداء على المال العام، وانتشار المخدرات، إضافة إلى لجوء الكثير من الشباب إلى الهجرة غير الشرعية، نتيجة الضغوط الاقتصادية المتسببة في ظهور أنواع مختلفة من الجرائم التي تهدد السلم الاجتماعي (مثل الجرائم الإلكترونية بمختلف أنواعها).  

 

السوشيال ميديا

حالة من الجدل المتصاعد شهدتها مصر على إثر واقعة قفز الفتاة ” حبيبة الشماع” من سيارة تتبع إحدى شركات النقل التشاركي؛ ما تسبب في إصابات بالغة للفتاة، دخلت على إثرها في غيبوبة عميقة أدت إلى وفاتها. وقد وجهت اتهامات للسائق بمحاولة اختطاف الضحية.

اقرأ أيضًا: شركات النقل التشاركي في مصر: آمان مفقود ورقابة غائبة

وفق دراسة  أعدها باحثون في كلية الآداب جامعة الإسكندرية، عن أثر الظروف الاقتصادية على زيادة معدلات الجرائم، فيعد ذلك أحد العوامل المؤثرة التي تمنح تفسيرًا لبعض أنواع الجرائم والانحرافات التي تصدر عن بعض الجماعات والأفراد.

يتفق فتحي قناوي – أستاذ كشف الجريمة بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية- مع الدراسة موضحًا أن العامل الاقتصادي أحد العوامل المؤثرة في ارتكاب الجرائم في المجتمع المصري، لاسيما مع وجود عوامل أخرى كالبيئة والظروف المحيطة لمرتكب الجريمة، مبينًا خلال حديثه إلى” زاوية ثالثة” أن السوشيال ومواقع التواصل الإجتماعي تعد أحد الأسباب الرئيسية لزيادة المعدل الجرائم لاسيما مع وجود الكثير الجرائم المصورة والتي يتم شرحها بدقة بالغة؛ ما يسهل ارتكابها وتكرارها من قبل الأفراد.

يحدد “قناوي” أن أغلب من يلجأون لارتكاب الجرائم بدافع اقتصادي يعانون من ظروف غير سوية سواء إدمان المخدرات أو البطالة. وأوضح أن أغلب أنواع  هذه الجرائم تتم بشكل مماثل في العديد من المجتمعات مع تشابه ظروف مرتكبي الوقائع ذاتها (يظهر ذلك بشكل واضح في قضية حبيبة الشماع، إذ وحسب بيانات رسمية فإن السائق اعتاد على تناول المخدرات، وصدرت في حقه عدد من الشكاوى المختلفة).

ويشير إلى أن السبب الرئيس لارتكاب الجرائم هو الانعدام الأخلاقي الذي يعاني منه المجتمع في ظل غياب التربية دور الأسرة والجهات المعاونة في التربية وزارة التربية والتعليم متمثلة في المدارس،  ووزارة الأوقاف متمثلة في المساجد والكنائس. 

 

تقنين الجرائم والسيطرة عليها

جريمة أخرى كان دافعها الأساسي المواد المخدرة، حيث أقدم زوج على إنهاء حياة زوجته وتدعى هيام. ع، داخل منزلهما بإحدى القرى التابعة لمركز كفر الشيخ، وذلك عقب مشادة كلامية حدثت بينهما، وتطور الأمر إلى تعدي الزوج على زوجته وإنهاء حياتها خنقًا في ثالث أيام رمضان الماضي، ومن ثم أبلغ الأجهزة الأمنية عن الحادث. ومن خلال التحريات تبين أن القاتل كثيراً ما كان يهدد زوجته بسبب تعاطيه للمواد المخدرة، وكان يقدم بسببها على أفعال غريبة وعنيفة.

وأشارت دراسة تأثير المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية على جرائم الأحداث الصادرة عن المجلة العلمية للبحوث والدراسات التجارية، إلى أن هناك العديد من الأساليب المختلفة التي يمكن اتباعها لمعالجة مسألة معدلات الجريمة والفقر. وتشمل بعض الحلول الأكثر فعالية زيادة القدرة على الوصول إلى التعليم، والتدريب المهني، وغير ذلك من الموارد التي يمكن أن تساعد الأفراد على بناء المهارات وتحسين آفاقهم الاقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يساعد الاستثمار في برامج الصحة العقلية وعلاج تعاطي المخدرات في معالجة المشكلات الأساسية التي تساهم في السلوك الإجرامي. وأخيراً، يمكن أن تساعد زيادة الشرطة المجتمعية والدعم في خلق شعور بالسلامة والأمن؛ ما قد يؤدي بدوره إلى تقليل معدلات الجريمة.

تحدد هبة العيسوي – أستاذ الطب النفسي بكلية الطب جامعة عين شمس-  لـ “زاوية ثالثة” طرق التعامل مع الجريمة عن طريق وضع خطة قصيرة المدى للفحص النفسي للاضطرابات الشخصية والنفسية وتعاطي المخدرات في كل المراحل العمرية المتقدمة للمراهقين والشباب خلال المراحل التعليمية المختلفة، وخطة طويلة المدى عن طريق رفع نسب التوعية بين فئات المجتمع المختلفة، وضرورة توفير العديد من المنافذ التي تدعم الصحة النفسية للمواطنين سواء من خلال المستشفيات أو خدمة الخط الساخن التي توفر التوجيه والدعم اللازم للفئات تعاني من المشكلات النفسية والضغوطات التي يمكن أن تدفعهم لارتكاب الجرائم المختلفة، لاسيما في الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الكثير من المرضى.

ومن ناحية أخرى، تشير “العيسوي” إلى ضرورة تسليط الضوء على العقوبات التي يتم تنفيذها علي مرتكبي الجرائم سواء كانت بدوافع اقتصادية أو غيرها، وذلك لتحذير ذوي الميول الإجرامية من اللجوء لمثل هذه الممارسات، موضحة أن إبراز العقوبة يكون له دور في ردع الجرائم وتقنينها بين الفئات المختلفة. وتعد هذه الطريقة أهم بكثير من تغليظ العقوبة ذاتها لأن السرعة في تنفيذ القانون والإفصاح عن العقوبات يعتبر أحد الوسائل لتهذيب ذوي الميول الإجرامية.

مي سعودي
صحفية مصرية ومعدة تحقيقات، عضوة في نقابة الصحفيين

Search