كيف أثر ارتفاع أسعار السكر في إنتاج العسل في مصر؟

تأثر قطاع تربية النحل في مصر بارتفاع أسعار السكر، مما أثر سلبًا على إنتاج العسل الطبيعي وزاد من تحديات مربي النحل في ظل الأزمة الاقتصادية.
Picture of حيدر قنديل

حيدر قنديل

أثرت الأزمة الاقتصادية التي تشهدها القاهرة، مع انخفاض قيمة العملة المحلية منذ بدء قرارات تعويمها في عام 2016، على قطاع تربية النحل وإنتاج العسل الطبيعي في المناحل، إذ يشكو كثير من مربي النحل من مشكلات متفاقمة، خاصة بعد الارتفاع غير المسبوق في أسعار السكر.

وقد تواصل ارتفاع السكر خلال العام الماضي، إلى أن استقر نسبيًا في رمضان من العام الجاري، إذ وصل إلى متوسط سعر 48 جنيهًا في السوق المحلية (أي نحو دولار أمريكي)، ثم انخفض سعره حسب البيانات الرسمية المعلنة، إذ وصل إلى نحو 40 جنيهًا في السوق المحلية، الشهر الجاري، بينما في المنافذ التموينية الحكومية فقد استقر عند سعر 27 جنيهًا.

كان المصريون القدامى أول من استأنسوا النحل وقاموا بتربيته في الخلايا التقليدية أسطوانية الشكل المصنوعة من الطين والقش، وبمرور العصور، ظل المصري بارعًا في إنتاج العسل وتطوير المناحل. وقد وصل متوسط عدد المناحل على مستوى الجمهورية في العام 2021 إلى نحو 25 ألف منحل.

وفقًا لبيانات مركز بحوث النحل الحكومي، تعد مصر من أبرز الدول المصدرة للنحل الحي، إذ تصدر أكثر من 25% من النحل الحي عالميًا، إضافة إلى تصدير العسل بجميع الأسواق – عدا الاتحاد الأوروبى-، وخلال عام 2022، صدّرت مصر أكثر من 3500 طنًّا من الأعسال، كما جاء متوسط أعداد طرود النحل الحي المُصدّرة  بنحو مليون و200 ألف طرد نحل خلال نفس العام (يحتوي الطرد الواحد على 25 ألف نحلة).

كانت مصر تنتج نحو 6.1 ألف طن من عسل النحل عام 1971، ارتفع إلى 12 ألف طن عام 1987، ثم بدأ يتراجع إنتاج مصر من العسل، وتظهر البيانات الواردة في كتاب الإحصاء السنوي الأخير لعام 2023، الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الرسمي، انخفاضًا في عدد الخلايا وإنتاجية عسل النحل في مصر، فوفقًا لأحدث إحصائية رسمية، فإنه في عام 2015، وصلت عدد الخلايا البلدية إلى نحو ألفي خلية، فيما كان عدد الخلايا الإفرنجية نحو 878 ألف خلية، في المقابل قُدّر إنتاج العسل من الخلايا البلدية في العام نفسه بنحو 12 ألف طن، بينما وصل إلى 4936 ألف طن من الخلايا الإفرنجية، مقارنة ببيانات العام 2010، إذ قُدّرت الخلايا الإفرنجية بنحو 1138 ألف خلية، بينما كان إنتاج العسل منها نحو 6025 ألف طن سنويًا؛ ما يؤكد أن تدهورًا يحدث في قطاع تربية النحل وإنتاج العسل، رغم التصريحات الرسمية التي تؤكد خلاف ذلك.

ورغم أن إحصاءات جهاز الإحصاء الرسمي تتوقف عند العام 2015، وتظهر أن مصر تمتلك ما مجموعه 879 ألف خلية نحل؛ إلا أن بيانات أخرى أصدرتها وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي في العام 2019، تشير إلى امتلاك مصر نحو مليوني خلية، ليظهر ذلك تضاربًا واضحًا في البيانات الرسمية حول قطاع النحل، بما يوحي بضرورة إنشاء قاعدة بيانات لقطاع النحل والعاملين به في مصر، حسبما أوضحت المصادر العاملة في القطاع التي تحدثت معهم زاوية ثالثة.

ويجمع مربو النحل على أن صناعة واقتصاديات النحل قد تأثرت بأزمة السكر التي ظهرت في العام 2016، ثم عادت للظهور بقوة ثانية منذ العام الماضي 2023، إذ يقول مربو النحل الذين تحدثنا معهم إن صناعتهم معرضة للتهديد بسبب نقص حصصهم من السكر، وكذلك الزهور والمحاصيل التي يلقحها نحلهم.

يقول عدد من مالكي المناحل الذين تواصلنا معهم إنه أصبح من العسير الحصول على السكر بكميات مناسبة لـ إنتاجهم. وتعثر أيضًا للبعض الحصول على حصص تموينية من السكر، نظرًا لأن المناحل المرخصة فقط التي تحصل عليه (يحصل كل مربي على كمية من السكر الحكومية تناسب حجم المنحل، بدءًا من 15 ألف نحلة فإنه من المفترض أن يحصل على نصف طن سكر لتغذية النحل). 

وحسب وصفهم، فإن الخلية يمكن أن تقدم إنتاجًا يصل إلى 25 كيلوجرامًا إذا توفرت كافة أدوات الإنتاج، بينما اليوم يشكو المربون من انخفاض الإنتاج إلى نحو الثلثين نتيجة أزمة السكر. كما انخفضت عدد حشرات النحل أيضًا، التي تؤثر بدورها على بعض المحاصيل التي يساعد النحل على تلقيح زهورها.

 يقول نحّال 43 عامًا، من  قرية الرجدية التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية، إن: “إنتاج عسل النحل قد تراجع بنسبة 25٪ بعد ظهور فيروس كورونا في عام 2019، فهذا الوباء تسبب في توقف حركة التجارة بالعالم لعدة أشهر وأثر ذلك سلبًا على مخزون السكر وانتاجيته، فجميع النحّالين قد تعرضوا لمشكلات كبيرة على إثر هذه الجائحة؛ أولها ارتفاع سعر السكر الذي يعد الغذاء الأساسي للنحل خلال الشتاء”.  

يتابع: يظن البعض أن النحّال يخلط العسل بالسكر كنوع من الغش، لكن في حقيقة الأمر، العسل هو الغذاء الذي يجمعه النحل طوال فترة إزهار النباتات، ويخزّنه لطعامه لاحقًا وقت انخفاض إنتاجية الأزهار، ولأننا في صناعتنا تلك نقوم بحصد ذلك العسل وبيعه للاستهلاك الآدمي، نقوم بتعويض النحل عن غذائه من العسل عن طريق منحه السكر عوضًا عنه.

واصفًا المشكلات التي تقابل مربي النحل في مصر، يقول علي السيد (60 عامًا، مهندس زراعي من قرية شبشير الحصة التابعة لمركز طنطا بمحافظة الغربية) في حديثه إلى زاوية ثالثة، إن المشكلات التي يواجهها النحّالون مؤخرًا كثيرة ومتشعبة؛ أولها إصابة حشرات النحل بأمراض مثل “الفاروا” الذي ظهر منذ عدة سنوات وقضى علي نسبة كبيرة من النحل في المنطقة، وبدأ النحالون يعالجون المشكلة عن طريق بعض الأدوية، لكنها كانت باهظة الثمن؛ لذا اضطروا  إلى إيجاد حلول بديلة للعلاج عن طريق خلط بعض الأدوية البشرية والبيطرية لمحاولة إنقاذ النحل. 

ويعد الفاروا مرضًا يصيب النحل ويسببه طفيلي يعرف بـ (فاروا ديستروكتور Varroa destructor)، ويعمل على امتصاص الدم، ما يسبب ضعف النحل، حيث أنه يتضاعف بسرعة كبيرة، فينتج جيل كل ثماني أيام، ويؤدي كل ذلك إلى ضعف الإنتاجية ويؤثر على صحة أسراب النحل. لم نجد إحصاءات رسمية معلنة تظهر حجم الخسائر الاقتصادية الناتجة عن إصابة حشرات النحل بهذا المرض.

يضيف: المشكلة الثانية تتمثل في رش المبيدات في الأراضي الزراعية، إذ تؤثر بشكل سلبي على النحل، وتُكبّد النحّال خسائر فادحة في حشرات النحل لديه، كما أنها تتسبب في حدوث حالات تسمم، عندما تعود النحلة مُحمّلة بالمبيد إلى الخلية، فتدمر الخلية بأكملها. مستطردًا: “هناك مشكلات أخرى نواجهها، تتمثل في قلة المراعي والمزارع، واختفاء الأشجار المثمرة المزروعة سابقًا على جوانب الطرق العامة و ضفاف الترع، وكانت بمثابة غذاء أساسي للنحل، ولكن حدث أن تناقصت بفعل اقتلاعها مع مرور الوقت؛ ما أجبرنا على الاعتماد على زراعات البرسيم، التي لا تكفي للوفاء باحتياج النحل من رحيق الزهور”.

ويشير إلى أن المشكلات لا تقتصر فقط على تربية النحل والعوامل البيئية المصاحبة، بل جزء منها يعود أيضًا إلى انتشار العسل المُصنّع في الأسواق المصرية، والذي يُعرض على أساس أنه عسل طبيعي، إذ أن ثمنه زهيد مقارنة بأسعار العسل الطبيعي؛ ما تسبب في خسائر متتالية ومستمرة للنحالين.

 

التجار المصدرين لطرود النحل وزيادة الأعباء

يقول أحمد سعيد – الخبير في تربية النحل من مدينة المحلة الكبرى الواقعة بمحافظة الغربية شمال مصر-، في حديثه معنا إن المشكلة الأساسية تكمن في عدم وجود رقابة علي التجار المحتكرين للسكر، إذ يقومون ببيعه بأسعار مختلفة، ما يؤدي إلى صعوبة شرائه، أيضًا يزيد المصدرون من معاناة النحّالين عند بيع طرود النحل في الخليج العربي، مضيفًا: “يقوم النحّال بتصدير النحل للدول العربية بالكيلو مرة أو مرتين في السنة، ويصل سعر الطرد إلى نحو 120 ريال وسعر الريال في البنوك اليوم وصل إلى 12.4 جنيه مصري، أي أن ثمن الطرد الواحد 1488 جنيهًا، ورغم ذلك يشتريه المُصدّر من النحّال المصري بنحو 150 جنيهًا مصريًا فقط، ما يعني انعدام هامش الربح بالنسبة للنحالين، وإذا توفر هذا الهامش فسيكون باستطاعة النحّالين شراء كميات من السكر وتوفير غذاء جيد للنحل”.

في السياق نفسه، يشرح عبد السلام عتمان – رئيس مجلس إدارة جمعية النحّالين المصرية، والقاطن في قرية شبشير الحصة التي تعرف بأنها قلعة صناعة النحل في مصر-، أن السوق عرض وطلب، وبعد ارتفاع سعر السكر أصبح النحل ضعيفًا وغير مرغوب فيه، ما أثر على تدفقات العملة الصعبة التي كانت تتوفر من خلال تصديره.

يوضح “عتمان” في حديثه إلى زاوية ثالثة أن خلية النحل الواحدة تستهلك في الموسم ما بين 35 كيلو سكر إلى 40 كيلو في المتوسط، مؤكدًا أنه لا يوجد بديل عن السكر كغذاء للنحل، وأن ارتفاع سعره جعل النحل جائع وضعيف، لأنه لا يجد زهورًا يتغذى عليها، ووفق رصده للمناحل التي يمتلكها، يشير إلى أن نسبة حشرات النحل لديه تناقصت بنسبة 50٪، متوقعًا مع انخفاض درجات الحرارة الشتاء المقبل وارتفاع الأسعار أن يفقد مزيدًا من النحل.

 

قلعة إنتاج العسل في مصر

شبشير الحصة وحصة شبشير قريتان تابعتان لمركز طنطا بمحافظة الغربية على بعد 110 كيلومتر من العاصمة القاهرة، تعدان أكبر المناطق التي تحتوي على مناحل في مصر، و تنتجان أكبر قدر من عسل النحل، وأيضًا كافة مستلزمات تربية النحل، وتعد مهنة النحالة مصدرًا لعمالة غالبية أبناء القرية، وكانوا يصدرون إنتاجهم إلى كل الدول العربية خاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

يعلق عماد عتمان، الذي يمتلك عدد من المناحل في نفس القرية، يقول: “إنني أتحدث بلسان حال جميع النحّالين، الارتفاع الجنوني في سعر السكر والأخشاب يسبب أضرارًا جسيمة للمهنة، وأطالب السلطة بسرعة إيجاد حل جذري لمشكلة السكر، كونه الدعامة الأساسية التي يقوم عليها إنتاج عسل النحل، واقترح أن تقوم الدولة بدعم وتوفير حصة من السكر لكل نحّال، بناءً على عدد خلايا النحل لديه حتى تعود تلك الصناعة كسابق عهدها، لأن الحال إذا استمر بهذا الوضع سينتهي إنتاج العسل المصري”. مشيرًا إلى أن السلطة في فترة تسعينات القرن الماضي كانت توفر حصة تموينية من السكر للنحالين، وقد توقفت الآن، لذا يطالبون بعودة تلك الحصة مرة أخرى حتى لا ينقرض النحل بفعل الجوع. 

 

السلطة تحاول إيجاد حلول لإنقاذ النحل والنحالين

في حديثه معنا، يعلق محمد  فتح الله – رئيس قسم بحوث النحل بمعهد بحوث وقاية النباتات التابع لوزارة الزراعة-،  ويقول: “الوزارة تعمل على مبادرة مليون شجرة، لتكون مصدرًا للرحيق، فهذه الأشجار زهرية سيستفيد منها النحل بشكل كبير، كما تعمل الوزارة الآن على التواصل مع وزارة التموين لتوفير حصة منخفضة التكلفة من السكر للنحالين، ولازلنا  في انتظار ردهم على المقترح، ونحن لا نعرف إذا ما كان باستطاعتهم توفير تلك الحصة من المخزون الاحتياطي لديهم، فهذا الأمر لازال رهن الدراسة حتى الآن”.

في مايو 2023، أعلن السيد القصير وزير الزراعة واستصلاح الأراضي عن قيام الوزارة بزراعة 1.3 مليون شجرة خلال المرحلة الأولى من المبادرة الرئاسية الهادفة لزراعة 100 مليون شجرة (مبادرة أطلقها الرئيس السيسي في عام 2022، وتهدف إلى زراعة 100 مليون شجرة، على مدار سبع سنوات ممتدة من عام 2022 إلى عام 2029)،  وحسب تصريحات وزير الزراعة فقد تمت زراعة الأشجار في محافظات القليوبية، والغربية، والفيوم، وبني سويف، والمنيا، وأسيوط، والوادي الجديد، كما قامت الوزارة من خلال الإدارة المركزية للتشجير، ومركز بحوث الصحراء، ومركز البحوث الزراعية، وجهاز مشروعات التنمية الشاملة بزراعة 700 ألف شجرة في بعض الغابات الشجرية والمناطق المحيطة بالمشاتل التابعة للوزارة على مستوى الجمهورية.

ويؤكد “فتح الله” أن وزارة الزراعة تقوم تعمل بتوفير وتقديم بعض الأدوية والمستلزمات الطبيعية التي تعالج  الأمراض وليس لها مردود سيئ على النحل أو على المنتجات الخاصة به، ودائمًا ما تعلن الوزارة عن ذلك خلال الندوات الإرشادية، أما العلاجات الكيماوية والعقاقير البيطرية وغير البيطرية تكون مضرة -حسب وصفه- بصحة النحل، وتضعف المناعة لديه وتجعله عرضة للإصابة بالأمراض.

وحسب ما أعلنته السلطة المصرية، فإنها تعمل على تنفيذ خطة للنهوض بتربية نحل العسل (مشروع النباتات والنحل)، ضمن استراتيجية كبرى بهدف إنعاش قطاعات ما يسمى “الاقتصاد المنسي“، إذ تسعى للتركيز على نوعيات معينة من النحل، بهدف زيادة إنتاجيتها وتصديرها، وتصدر مصر حاليًا وفق البيانات الرسمية نحو 25% من إجمالي صادرات عسل النحل في العالم. وتنفذ القاهرة المشروع بالتعاون مع الاتحاد الأوروبى وست دول من البحر الأبيض المتوسط، وهي مصر والجزائر وإيطاليا وإسبانيا وفرنسا واليونان.

.. وما بين تأكيدات رسمية تشير إلى تطور صناعة النحل وإنتاجيته في مصر، وبين النحّالين الذين يشكون من سوء الأوضاع في القطاع وتدهور أحوالهم الاقتصادية، يبقى السؤال الملح حول تضارب التصريحات الرسمية مع الوقائع التي رصدناها وشهادات من تحدثنا معهم، فمتى تنتهي الأزمة؟. 

 

حيدر قنديل
صحفي مصري

Search