أمل وجيه صالح، سيدة في السابعة والخمسين من عمرها، عاشت وأسرتها الصغيرة في شقة متواضعة بنظام الإيجار القديم بمنطقة فايدة كامل في المعادي. كانت الشقة شاهدة على أفراح العائلة وأزماتها.
مع تطلع أبنائها لتحسين مستوى معيشتهم، قرر ابنها البحث عن شقة تمليك تضمن للعائلة استقرارًا أكبر. عرض أحد مكاتب العقارات شقة في عمارة حديثة قيد الإنشاء بمنطقة عرب المعادي، وبدا العرض فرصة مثالية. دفعت أمل المبلغ الأول، 65 ألف جنيه عام 2017، بعد أن اقترضت وجمعت مدخراتها. وقّعت العقد بآمال كبيرة، لكنها صُدمت عند زيارة الشقة لتكتشف أنها بيعت لعدة أشخاص آخرين.
تقول أمل: “عندما حاولت استرداد أموالي، واجهت تهديدات من البائع، الذي استعان بأقاربه للضغط علينا. لم أكن الوحيدة المتضررة؛ فهناك آخرون رفعوا شكاوى مشابهة. لاحقًا، علمت أن خاله محامٍ، وكان يتدخل لصالحه في القضايا”.
تعيش أمل الآن مع ابنتها غير المتزوجة، بينما انتقل ابنها المتزوج إلى منطقة المرج. تتابع: “عندما حاولت تثبيت صحة توقيع العقد في المحكمة، لم أستطع دفع أتعاب المحامي. مرت تسع سنوات، وأصبحت الأموال التي دفعتها غير كافية حتى لشراء غرفة، بعدما كان سعر الشقة حينها 150 ألف جنيه. اليوم، حكم على الجاني بالسجن تسع سنوات، قضى منها خمسًا، لكن أحدًا لم يخبرنا عن مصير أموالنا”.
استندت زاوية ثالثة في هذا التقرير إلى استبيان شمل 100 مواطن اختيروا بعناية لتمثيل الفئات المتضررة، بالإضافة إلى تحليل قاعدة بيانات أُعدت من أرشيف الصحف خلال الأشهر الستة الماضية. يكشف التقرير عن معاناة العديد من المواطنين نتيجة تأخر الفصل في القضايا القانونية المتعلقة بالمحتالين، في ظل غياب تشريعات كافية تضمن الحماية الفعالة للحقوق، مما يفتح المجال للتساؤل حول دور النظام القانوني في إنصاف الضحايا.
نوصي للقراءة: المعلمون المصريون يتحدون قرارات وزير التعليم في ساحة القضاء
أساليب جديدة للاحتيال
أمل ليست سوى واحدة من مئات الضحايا الذين وقعوا فريسة لعمليات احتيال متنوعة في مصر، سواء عبر الإنترنت أو من خلال علاقات شخصية مباشرة. في تقرير أجرته “زاوية ثالثة”، تم تحليل نتائج استبيان استمر شهرًا، وضم 100 مشارك من مجموعات خاصة على تطبيقَي “فيسبوك” و”واتساب” تضم أفرادًا تعرضوا للنصب. هدف الاستبيان إلى كشف أساليب الاحتيال، ومدى انتشارها، وأسباب ضعف الإبلاغ عنها.
أظهرت النتائج أن 60% من المشاركين لم يبلغوا عن حالات الاحتيال التي تعرضوا لها، في حين أبلغ 30% فقط، بينما اختار 10% عدم اتخاذ أي إجراء. أما عن أنواع الاحتيال، فقد شملت الاحتيال الإلكتروني (36%)، والاحتيال المالي (32%)، وشراء منتجات أو خدمات مزيفة (23%)، بينما سجل الاحتيال العقاري نسبة 4%، تمثلت في بيع شقق أو أراضٍ وهمية.
عند استعراض أسباب الوقوع في الاحتيال، ذكر 34% من المشاركين أن السبب هو التسرع وضيق الوقت، وأشار 25% إلى عدم التحقق من المصدر، بينما أفاد 22% بأن ضعف الوعي بآليات الحماية كان العامل الأساسي. كذلك، رأى 11% أن الاستغلال العاطفي من المحتال كان السبب المباشر.
وفيما يخص تأثير الاحتيال، أفاد 43% أنهم تكبدوا خسائر مادية كبيرة، بينما أكد 39% أنهم عانوا من أضرار نفسية واجتماعية جسيمة. أما عن أسباب عدم الإبلاغ، فقد أرجع 42.9% ذلك إلى فقدان الثقة في استعادة حقوقهم، فيما اعتبر 29.9% أن الأمر غير مهم، بينما لم يعرف 19.5% الجهة المناسبة للتبليغ.
أوضح الاستبيان أيضًا تقييم المشاركين لدور الحكومة في مكافحة الاحتيال؛ إذ يرى 45% أن السلطات غائبة تمامًا عن حماية المواطنين، بينما يعتقد 43% أن هناك دورًا محدودًا، في حين أقر 12% بوجود دور فعّال. كما أشار 75% من المشاركين إلى أن طول الإجراءات القضائية ساهم في تعزيز انتشار عمليات الاحتيال وإفلات الجناة من العقاب.
نوصي للقراءة: منصة العدالة المتصدعة: بدل الطعون يثير الغضب في ساحات القضاء المصري
قضايا النصب
يقول جمال محمود، المحامي بالاستئناف العالي ومجلس الدولة، لـ”زاوية ثالثة” إن تأخر قضايا الاحتيال في الوصول إلى المحكمة يعود غالبًا إلى ضرورة استكمال مستندات أساسية، مثل تحريات المباحث حول الواقعة للتأكد من صحتها. ويوضح أن هذا التأخير يختلف حسب ملابسات كل قضية، لكنه يظل سببًا رئيسيًا في إطالة أمد التقاضي.
يشير محمود إلى أن القانون المصري يواجه جرائم الاحتيال بحزم، وفقًا للمادة 336 من قانون العقوبات، التي تُعاقب مرتكبي الاحتيال بالحبس، مع إمكانية وضع المتهم تحت مراقبة الشرطة لمدة تصل إلى عامين عند تكرار الجريمة. كما يؤكد أن التشريعات المصرية تواكب تطورات الجريمة، لا سيما الاحتيال الإلكتروني، الذي تصدى له قانون مكافحة جرائم الإنترنت بشكل فعال.
وحول تأثير النظام القضائي الجديد، يقول محمود: “أدى استحداث النظام الرقمي الموحد لوزارة العدل وربط المحاكم ببنية رقمية متكاملة إلى تقليل الفجوة الزمنية بين القضايا الجنائية والمدنية، لكن تظل هناك تحديات في تنفيذ الأحكام، خصوصًا مع الجرائم التي يتقن مرتكبوها التخفي عن السلطات.”
ينصح المحامي المواطنين بتوخي الحذر عند التعامل مع جهات أو أشخاص غير موثوقين. ويقول: “قبل توقيع أي عقد، يجب عرضه على محامٍ مختص لضمان الحقوق. وفي حال التعرض للاحتيال، من الضروري التوجه فورًا إلى قسم الشرطة لتحرير محضر رسمي، مع تقديم كافة المستندات الداعمة، ومتابعة المحضر لدى النيابة العامة لضمان إحالة القضية إلى المحكمة.”
نوصي للقراءة: ضحايا التحول الرقمي: كيف تهدد ثغرات النظام المالي أموال المصريين؟
ضحايا الاحتيال الإلكتروني
روى عدد من المواطنين أنهم تعرضوا لجرائم الاحتيال الإلكتروني قصصهم، حيث عبّروا عن معاناتهم بعد أن فقدوا مدخرات جمّعوها على مدار سنوات بسبب خداع رقمي محكم. من بين هؤلاء، شاب كان يحلم بتأسيس حياة زوجية، وأمّ فقدت أمان مستقبل أبنائها، في قصص تُبرز الألم الإنساني الناتج عن هذه الجرائم المتزايدة.
أحد هؤلاء الضحايا، عمرو أسعد، شاب يبلغ من العمر 28 عامًا من محافظة دمياط، خسر مدخراته البالغة 350 ألف جنيه. بدأت المأساة عندما تلقى رسالة عبر تطبيق واتساب تدعوه للانضمام إلى منصة رقمية تُدعى “علي إكسبريس 202″، تعد المشاركين بأرباح مالية مقابل تنفيذ إعجابات على مواقع التواصل الاجتماعي. أرسلت له المنصة عوائد صغيرة في البداية لتعزيز المصداقية، لكنه سرعان ما وقع في فخ مطالب مالية متزايدة بحجج متنوعة، كان آخرها إرسال مبالغ كبيرة بحجة “إلغاء التجميد عن الرصيد”.
رغم تقديم عمرو بلاغًا رسميًا إلى مركز شرطة دمياط ومباحث الإنترنت، واجه صعوبة في استعادة حقوقه بسبب الإجراءات البيروقراطية الطويلة، حيث لم يتم التوصل إلى الجناة الذين استخدموا أساليب تخفي محكمة لتجنب الملاحقة القانونية. يعبر عمرو عن شعوره بالعجز قائلاً: “النظام المتبع في البلاغات بطيء للغاية، فبين كل خطوة وأخرى يختفي النصابون ومعهم الأموال، لقد استغلوني وسلبوا مدخرات حياتي.”
من جانب آخر، يروي أمير محمود، خباز من قرية شبلنجة التابعة لمركز بنها، تفاصيل معاناته بعد تعرضه لعملية احتيال مشابهة. دفع أمير مبلغ 56 ألف جنيه لشخص يدعى محمد سمير، الذي يدير مكتبًا باسم “شركة الحياة”، مقابل وعد بتوفير عقد عمل في السعودية خلال شهر. استمرت التأجيلات قرابة أربعة أشهر، ليكتشف في النهاية أن الشخص قد تم حبسه بتهمة الاحتيال على آخرين. بعد خروجه بكفالة، اختفى محمد سمير ومعه أموال وأوراق الضحايا، مما ترك أمير وغيره من المتضررين دون حلول واضحة لاستعادة حقوقهم.
نوصي للقراءة: النيابة العامة المصرية تتغاضى عن التحقيق في شكاوى تعذيب المحتجزين
مساندة الضحايا
“زاوية ثالثة” أجرت مقابلة مع محمد اليماني، رئيس مجلس أمناء مؤسسة “قاوم”، للحديث عن جهود المؤسسة في مواجهة جرائم النصب الإلكتروني. أوضح اليماني أن المؤسسة تأسست بهدف مكافحة الجرائم الإلكترونية، ومع تصاعد الظاهرة مطلع العام الجاري، أطلقت المؤسسة منصة “امسك نصاب” لتوثيق جرائم النصب الإلكتروني، وتوعية المواطنين بأساليب المحتالين وكيفية الوقاية منها.
وأشار اليماني إلى أن “قاوم” تقدم الدعم القانوني والنفسي للضحايا، من خلال فرق متخصصة تعمل على جمع الأدلة، وتحرير المحاضر، ومتابعة القضايا لدى الجهات المختصة. كما توفر المؤسسة خبراء في الدعم النفسي والاجتماعي لمساعدة الضحايا، لا سيما الشباب الذين قد يعانون من آثار نفسية حادة تصل إلى التفكير في الانتحار.
فيما يتعلق بالصعوبات، أوضح اليماني أن تأخر المحاكم في إصدار الأحكام يمثل تحديًا كبيرًا، ما يدفع المؤسسة إلى اللجوء إلى الجهات العليا لتسريع الإجراءات عبر تقديم طلبات إلكترونية ومتابعة التحقيقات. وأضاف أن غياب آليات فعالة للقبض على المجرمين وتنفيذ الأحكام يزيد من تعقيد القضايا، خاصةً مع استخدام خطوط اتصالات مسجلة بأسماء وهمية، مما يجعل تعقب الجناة أكثر صعوبة.
وأكد اليماني أن “قاوم” تعمل بالتعاون مع فريق قانوني متخصص ومحامين متطوعين لتقديم المشورة القانونية، إلى جانب تقديم مقترحات تشريعية تهدف إلى تشديد العقوبات وتسريع إجراءات المحاكمات. وشدد على أهمية تحديث بيانات العملاء لدى شركات الاتصالات لضمان تطابق هوية المستخدم الفعلي مع البيانات المسجلة، كخطوة أساسية في التصدي لهذه الجرائم.
واختتم اليماني حديثه بالإشارة إلى أن جرائم النصب الإلكتروني لا تؤثر فقط على الضحايا الأفراد، بل تمثل تهديدًا أوسع لأمن المجتمع، مما يستدعي تكاتف الجهود من كافة الجهات للحد من انتشارها.
يواجه قانون العقوبات المصري، الصادر برقم 58 لعام 1937 والمعدل بالقانون رقم 189 لعام 2020، جرائم النصب بعقوبات تصل إلى الحبس لمدة تصل إلى عامين، وقد خصص القانون بابًا كاملاً بعنوان “النصب وخيانة الأمانة” للتعامل مع مثل هذه الجرائم. تنص المادة (336) على أن يعاقب بالحبس كل من استولى على أموال أو ممتلكات منقولة أو سندات مالية أو مستندات مخالصة أو غيرها من الممتلكات المنقولة، وذلك عن طريق الاحتيال والاستيلاء على أموال الغير أو جزء منها، سواء كان باستخدام أساليب خداعية لإيهام الناس بوجود مشروع كاذب أو واقعة مزورة أو بإنشاء أمل كاذب في تحقيق ربح وهمي، أو بدعوى تسديد مبلغ معين تم الحصول عليه بالاحتيال، أو بالإيهام بوجود سند دين غير صحيح أو مستند مخالصة مزور، كما يشمل ذلك التصرف في ممتلكات ثابتة أو منقولة ليست ملكاً للجاني أو ليس له حق التصرف فيها، أو باستخدام اسم كاذب أو صفة غير حقيقية، أما من شرع في النصب ولم يتمه، فيعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة. ويتيح القانون إمكانية وضع الجاني، في حالة العود، تحت مراقبة الشرطة لمدة تتراوح بين سنة وسنتين.”
وفرق القانون بوضوح بين أنواع الجرائم المختلفة، إذ تصنَّف “الجنايات” كجرائم تُعاقب عليها بعقوبات مشددة مثل الإعدام أو السجن المؤبد أو السجن المشدد أو السجن، بينما تُصنَّف “الجنح” كجرائم يُعاقب عليها بعقوبات الحبس والغرامة التي يزيد حدها الأقصى عن مائة جنيه (100 جنيه)، أما “المخالفات”، فهي الجرائم التي يُعاقب عليها بغرامة لا يزيد حدها الأقصى على مائة جنيه (100 جنيه).
ورغم وجود نصوص قانونية قد تمثل حماية للمواطنين من عمليات الاحتيال والنصب التي باتت حسب شهاداتهم منتشرة، إلا أن المواطنون ممن شاركوا في استبيان زاوية ثالثة يرون أن تراخي القبضة الأمنية وطول الأمد القضائي قد تسببا في عدم حصولهم على حقوقهم في النهاية، وزيادة عمليات الاحتيال بأشكالها المختلفة.