دفع التقدّم الميداني الأخير للجيش السوداني في العاصمة الخرطوم، وما أعقبه من انسحاب ميليشيات الدعم السريع، عددًا متزايدًا من اللاجئين السودانيين المقيمين في مصر إلى اتخاذ قرار العودة الطوعية إلى بلادهم. في مشهد لافت خلال عيد الفطر، شهد شارع فيصل بالقاهرة تجمّع مئات من اللاجئين استعدادًا لمغادرة البلاد عبر حافلات متجهة إلى السودان، مرورًا بمعبري حلفا وأرقين، وذلك ضمن مبادرات يقودها المجتمع المدني السوداني بالتعاون مع أفراد من الجالية.
في الأول من أبريل الجاري، أطلقت مبادرة “راجعين لبلد الطيبين”، الداعمة لعودة اللاجئين، عشر حافلات لتوفير وسيلة نقل بتكلفة منخفضة للعائدين، مع إتاحة العودة المجانية للأسر ذات الدخل المحدود وذوي الاحتياجات الخاصة، بحسب ما أكده محمد سليمان، مؤسس المبادرة وعضو الجالية السودانية في مصر، في حديث إلى “زاوية ثالثة”.
وأوضح سليمان أن أبرز دوافع العودة تكمن في التدهور الحاد للأوضاع الاقتصادية للاجئين، مشيرًا إلى أن الكثير منهم كانوا يعتمدون على تحويلات شهرية من السودان، غير أن تراجع قيمة الجنيه السوداني أمام نظيره المصري — إلى نحو 0.08 جنيه مصري — أفقد تلك التحويلات فاعليتها. كما أعرب عن خيبة أمل العديد من الأسر السودانية من تقاعس المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عن توفير مساعدات مالية كافية، الأمر الذي اضطرهم للبحث عن عمل داخل مصر، حيث واجهوا أجورًا لا تتناسب مع تكلفة المعيشة.

وأضاف أن العقبات الإدارية والمادية التي واجهتها الأسر في محاولة إلحاق أبنائها بالمدارس السودانية في مصر، ساهمت بدورها في التعجيل باتخاذ قرار العودة، حتى قبل استكمال تحرير المدن السودانية كافة.
وأشار سليمان إلى أن المبادرة خصصت دعمًا خاصًا للعائدين الأكثر هشاشة، قائلًا: “نوفر التذاكر المجانية للأسر المتعففة، والمكفوفين، وذوي الاحتياجات الخاصة، بفضل مساهمات متبرعين سودانيين من أوروبا وأمريكا”، مضيفًا أن المبادرة، التي توسعت لاحقًا إلى عدد من المبادرات الفرعية، كانت تُسيّر حافلات بمعدل رحلة واحدة كل يومين، تُقلّ في كل منها أكثر من 150 لاجئًا.
وقدّر سليمان العدد الشهري للعائدين عبر منفذ أشكيت الحدودي في منطقة حلفا بنحو 50 ألف شخص، مشيرًا إلى أن وتيرة العودة تسارعت تزامنًا مع تحرير مناطق جديدة بواسطة الجيش السوداني، ليرتفع العدد الإجمالي للعائدين — وفق تقديره — إلى ما يقارب 600 ألف شخص حتى الآن.
رغم الزخم الذي تحظى به مبادرة “راجعين لبلد الطيبين”، إلا أنها لم تكن الأولى من نوعها؛ إذ سبقها إطلاق مبادرة “الإنصرافي” في العام الماضي، والتي ساهمت في عودة الآلاف من السودانيين إلى وطنهم، دون مقابل مالي. غير أن شحّ التمويل حال دون استمرارها، لتتوقف نهائيًا قبيل شهر رمضان الماضي، كما يروي حامد يوسف، مؤسس المبادرة وأحد أفراد الجالية السودانية في مصر، في حديثه إلى “زاوية ثالثة”.
يقول حامد: “كنا نسيّر ثلاث رحلات أسبوعية، تضم كل منها ثلاث أو أربع حافلات، تسع كل واحدة منها نحو 50 راكبًا. كنا ننقلهم من القاهرة إلى مدينة حلفا السودانية، حيث تتولى مبادرات أخرى مهمة إيصالهم إلى مناطقهم الأصلية، أو يكملون رحلتهم على نفقتهم الخاصة. ومع أن أعداد المتقدمين للتسجيل كانت بالآلاف، إلا أننا لم نتمكن من تلبية جميع الطلبات بسبب العجز في الموارد، ما اضطر بعضهم لتحمّل نفقات العودة بأنفسهم”.
ويشرح يوسف أن تكلفة العودة الطوعية تُقدّر بنحو 5 آلاف جنيه للفرد، وهو مبلغ يعجز كثير من اللاجئين السودانيين في مصر عن توفيره، خاصة في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة واشتداد الحنين إلى الوطن بعد الإعلان عن تحرير الخرطوم. ويرى أن هذا العائق المالي يُمثّل أحد أبرز العقبات أمام الراغبين في العودة، رغم التيسيرات التي تُقدّمها السلطات المصرية عند معبر الحدود، والتي تشمل المرور بعد التأكد من الأوراق الثبوتية والتفتيش الروتيني لتفادي تهريب البضائع أو الممنوعات، مع السماح باصطحاب الحقائب الشخصية، دون الأثاث أو المنقولات الثقيلة.
كما أشار إلى شكوى متكررة من اللاجئين السودانيين، تتعلق بإجراءات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إذ يشترط لإغلاق ملف اللاجئ المُسجَّل لدى المفوضية مدة قد تصل إلى ثلاثة أشهر، ما يُعقّد على البعض اتخاذ قرار العودة الفوري، ويُبقيهم معلّقين في حالة من الانتظار غير المضمون.
في السادس والعشرين من مارس الماضي، أعلن قائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، من داخل القصر الجمهوري، استعادة السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم، مؤكدًا “تحريرها من ميليشيات الدعم السريع”، وفق وصفه. وأوضح الجيش في بياناته أن قواته أحكمت قبضتها على معسكر طيبة، الذي كان يُعد آخر معقل للميليشيا في العاصمة، إلى جانب تأمين مطار الخرطوم الدولي، أحد أهم المواقع الاستراتيجية في المدينة.في المقابل، ردّ قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، المعروف باسم “حميدتي”، بتصريحات حملت نبرة تحدٍّ، قائلًا إن “الحرب في السودان لا تزال في بدايتها”، مشيرًا إلى أن انسحاب قواته من العاصمة لا يعني نهاية المواجهة. وهدّد، في تصريحات تداولتها وسائل الإعلام، بإعادة الانتشار داخل الخرطوم بقوات “أكثر تنظيمًا وشراسة”، واصفًا التراجع الذي جرى في أم درمان بأنه “قرار جماعي من قيادة الدعم السريع وإدارة العمليات، أملته ضرورات ميدانية”.
ومنذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل 2023، شهد السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخه الحديث. فقد أسفرت المعارك المتواصلة عن مقتل عشرات الآلاف، ونزوح أكثر من 11 مليون شخص، من بينهم 3.1 ملايين فرّوا إلى دول الجوار، بحسب إحصاءات الأمم المتحدة، ما يجعل النزاع المستمر أحد أكبر أزمات النزوح على مستوى العالم.
نوصي للقراءة: الإفلات من الحرب في السودان لا يعني النجاة في مصر
العودة رغم التحديات
رغم ما تواجهه العاصمة السودانية من دمار في بنيتها التحتية، اختار أكمل المهداوي، البالغ من العمر 62 عامًا، العودة إلى وطنه. الرجل الذي أقام لعامين في حي الهرم بمحافظة الجيزة، سافر مؤخرًا إلى السودان لمتابعة أعماله التجارية، تاركًا خلفه أسرته في مصر، قبل أن تقوده التطورات الأخيرة، وعلى رأسها تحرير الخرطوم والانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوداني، إلى اتخاذ قرار بلمّ شمل أسرته والعودة إلى بلاده للاستقرار مجددًا.
ويقول المهداوي في حديثه إلى زاوية ثالثة: “هناك فئة من اللاجئين السودانيين ترغب بالاستقرار في مصر، لكن الغالبية العظمى تتوق للعودة إلى الوطن. صحيح أن الحياة في مصر أرخص، وأجمل، وأسهل مقارنةً بالوضع في السودان، حيث الخراب كبير والتحديات جسيمة، وهذه هي الحقيقة المُرّة. لكن، في ظل غياب فرص العمل، يتحول البقاء في مصر بالنسبة للسودانيين إلى شكل من أشكال الموت البطيء مع مرور الزمن.”
زكية علي، البالغة من العمر 45 عامًا، واحدة من الذين أجبرتهم الحرب على مغادرة ديارهم، لتستقر مع أسرتها في محافظة أسوان جنوب مصر. استقبلت نبأ تحرير الخرطوم بزغاريد الفرح، وقررت بمعية أسرتها العودة في الأيام القليلة المقبلة، آملة في بداية جديدة على أرض الوطن.
وتقول إلى زاوية ثالثة: “الغربة والحرب علمتانا الكثير، وجعلتانا ندرك قيمة الوطن الذي يحتاج إلينا اليوم أكثر من أي وقت مضى. إذا توقفت الحرب، فستُتاح فرص لإطلاق مشروعات صغيرة ومتوسطة، وإمكانيات للتنمية والاستثمار.”
غير أن هذا التوجه لا يلقى قبولًا لدى الجميع. إذ يُفضّل أبو بكر حسن، البالغ من العمر 29 عامًا والمقيم بحي فيصل في الجيزة، البقاء في مصر، رافضًا دعوات العودة الطوعية في ظل استمرار تدهور الأوضاع داخل السودان.
ويقول لـزاوية ثالثة: “أفضل الحياة في مصر، لأنه لا أحد هنا يسألني عن قبيلتي أو انتمائي العرقي. فلماذا أعود إلى مكان أُعامل فيه كمشرد بلا كرامة؟”
وتُعد مصر حاليًا أكبر بلد مضيف للاجئين السودانيين، وفق بيانات رسمية صادرة عن الحكومة المصرية، التي تشير إلى وجود أكثر من 1.2 مليون سوداني طلبوا الحماية الدولية على أراضيها. ووفقًا لمفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، تستضيف مصر نحو 546,746 لاجئًا سودانيًا مسجلين رسميًا لدى المفوضية، بينما لا يزال آخرون ينتظرون التسجيل. ويُشكّل السودانيون نحو ثلثي عدد اللاجئين المسجلين في مصر، والبالغ إجماليهم 827,644 لاجئًا من 95 جنسية مختلفة.
نوصي للقراءة: السودانيون في مصر: بين النزوح القسري وأحلام العودة رغم الدمار
العودة إلى المجهول
ترى نون كشكوش، مديرة مرصد الجزيرة لحقوق الإنسان وعضوة مبادرة محامو الطوارئ في السودان، أن أوضاع السودانيين الذين نزحوا إلى مصر وكينيا تُعد أكثر أمنًا واستقرارًا مقارنةً بأولئك الذين ما زالوا داخل السودان أو نزحوا إلى إثيوبيا. وتؤكد، في حديثها إلى زاوية ثالثة، أن الخرطوم والولايات التي استعادها الجيش السوداني لا تزال تعاني من انعدام الأمن، بسبب الانفلات الأمني الشديد ودمار شبه كامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية، بما يشمل الكهرباء، والمياه، والاتصالات، إلى جانب الانهيار التام في القطاع الصحي. وتُشير إلى استمرار القصف بالطائرات المُسيّرة من جانب قوات الدعم السريع على الولايات الشمالية القريبة من الحدود المصرية، فضلًا عن تواصل الهجمات على المدنيين في أم درمان.
وتضيف كشكوش أن المناطق التي تُعد “محررة” لا تزال تشهد حالات تفشي للأوبئة والأمراض المعدية، على رأسها الكوليرا، في ظل غياب خدمات طبية كافية، داعية إلى تدخل عاجل من المنظمات الإنسانية الدولية لسد الفجوة الصحية. كما رصدت في هذه الولايات عددًا من حوادث السطو المسلح، ما يُعزز مؤشرات الانفلات الأمني ويُضعف فرص العودة الآمنة. وتؤكد أن أي عودة للنازحين لا يمكن أن تتم دون جهود دولية حقيقية لإعادة الأمن والخدمات الأساسية، وتهيئة البلاد لتصبح صالحة للعيش من جديد.
من جانبه، يرى د. محمد ساتي نقدالله، الناشط المدني والخبير في حقوق الإنسان، أن عودة اللاجئين السودانيين إلى وطنهم ما تزال مرهونة بمستقبل مجهول. ويوضح في حديثه إلى زاوية ثالثة، أنه على الرغم من تقدم القوات المسلحة وتراجع قوات الدعم السريع، إلا أن غياب الاتفاقات السياسية لوقف إطلاق النار ونزع السلاح وتسريح المليشيات، يعرقل أي سيناريو لعودة آمنة.
ويحذر نقدالله من استمرار انتشار السلاح في أيدي جماعات مسلحة غير نظامية مثل “كتائب البراء” و”كيكل”، وما تسببه من تهديد حقيقي للاستقرار، لاسيما في ظل قدرة قوات الدعم السريع على شن هجمات على مناطق مدنية باستخدام الطائرات المُسيّرة، حتى بعد انسحابها من مواقع عدة.
ويضيف أن الخراب الواسع الذي طال البنية التحتية — من محطات المياه والكهرباء، إلى المستشفيات والمرافق الخدمية، وحتى البنية الإنتاجية والصناعية — يجعل من فكرة العودة والاستقرار حلمًا بعيد المنال. ويشير إلى أن السودانيين داخل مصر وسواها من دول اللجوء يتساءلون بقلق عن إمكانية توفير مدارس آمنة لأطفالهم، وسبل للعيش الكريم بعد فقدان ممتلكاتهم ومصادر رزقهم في الداخل.
ويختم نقدالله بالإشارة إلى أن موجات العودة ستكون محدودة في المدى القريب، وقد تقتصر على أفراد من بعض الأسر، إما لتحسس الوضع على الأرض أو نتيجة الضغط المالي في دول النزوح، معتبرًا أن أي عودة جماعية وآمنة لن تتحقق دون اتفاق شامل لإنهاء الحرب، ودعم دولي حقيقي لجهود إعادة الإعمار.
من ناحيته يعتبر الإعلامي السوداني المقيم في مصر، سيف الدين سليمان، رئيس تحرير شبكة سودازول، أن رحلات العودة إلى السودان تمثل مجازفة في ظل إنهيار البنية التحتية والمرافق والدمار الهائل الذي لحق بالمنازل والأبنية وتحول بعضها إلى مخافر والبعض الآخر إلى مخازن للأسلحة، إضافة إلى عدم استقرار الأوضاع الأمنية ووجود عصابات السلب والنهب التي كانت تتعاون مع ميليشيات الدعم السريع وتحتل منازل المواطنين، وفي ظل تجدد هجمات الدعم السريع على بعض المدن عبر المسيرات، وعدم القضاء عليهم أو إعلانهم الاستسلام، وهو ما يعني إمكانية تجدد المواجهات العسكرية بين الجيش السوداني والمليشيات.
يقول لزاوية ثالثة: “الخرطوم لا تزال مدينة منكوبة وتنتشر بها العصابات، والجثث لا تزال في الشوارع والبنية التحتية مدمرة، وبالتالي فإن العودة إلى السودان هي عودة إلى المجهول وعلى مسؤولية العائدين أنفسهم، وليست عبر دعم رسمي من الدولة أو مبادرة من السفارة السودانية في القاهرة”
ويرى سليمان أن الأوضاع الاقتصادية المتردية التي يعيشها اللاجئين السودانيين في مصر بسبب ارتفاع أسعار إيجارات السكن وتكاليف المعيشة وندرة فرص العمل، في الوقت الذي فقد فيه غالبيتهم مصادر الدخل والممتلكات بسبب الحرب، بجانب إغلاق المدارس السودانية والتضييق عليها والمضايقات الأمنية التي يتعرض لها بعض السودانيين في مصر، والتي تحرمهم من حرية التنقل، وتصل إلى إلقاء القبض عليهم وترحيلهم، رغم حيازتهم لبطاقة المفوضية العليا للاجئين، كلها عوامل شجعت الكثير من أبناء الجالية السودانية في مصر، خلال الفترة الأخيرة، على اتخاذ قرار العودة الطوعية إلى المدن الأكثر أمنًا في السودان.
وكان الناطق باسم الحكومة السودانية، خالد الإعيسر، قد دعا المغتربين السودانيين، في الـ 27 من مارس، للعودة إلى البلاد والمساهمة بخبراتهم في إعادة إعمارها، كاشفًا عن وضع الحكومة العديد من الترتيبات المستقبلية المطلوبة والمحفزة لتيسير عودتهم.
وبالتزامن تشهد مدينتي الخرطوم وجبل أولياء توترًا أمنيًا، فيما وثّقت مقاطع فيديو، نشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تصفيات ميدانية نفذها أفراد من الجيش السوداني إلى جانب المجموعات التي تقاتل معه، بحق أسرى ومدنيين في أحياء محلية الخرطوم وجبل أولياء، بما في ذلك بري، الجريف غرب، الصحافات، مايو، الأزهري، والكلاكلات.
وبحسب بيان صادر عن محامو الطوارئ بالسودان، في 31 مارس المنقضي؛ فقد تزامن ذلك مع حملة مكثفة على وسائل التواصل الاجتماعي يقودها نشطاء ومؤيدون للقوات المسلحة بهدف توفير الغطاء لهذه الجرائم، معتبرين أن تلك الانتهاكات، التي يتم تبريرها بتهم التعاون مع قوات الدعم السريع، تشكل خرقًا خطيرًا للقوانين الوطنية والدولية، وتؤجج خطاب الكراهية والعنف، وتهدد النسيج الاجتماعي عبر نشر ثقافة أخذ الحق باليد، ما يؤدي إلى استغلال البعض لهذه الفوضى لتصفية خصوماتهم خارج إطار القانون والقضاء.
نوصي للقراءة: تحليل: هل السودانيون حقًا سبب أزمة العقارات في مصر؟
إعادة الإعمار
ترتبط قرارات العودة الطوعية للاجئين السودانيين في مصر بعدد من العوامل المتشابكة، أبرزها رغبة كثير من الأسر في الاطمئنان على منازلها وممتلكاتها، من جهة، والأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اللاجئون في مصر من جهة أخرى، خاصة الأسر التي فقدت مصادر دخلها في السودان، ولم تتمكن من الاندماج في سوق العمل المصري. هذا ما توضحه د. أماني الطويل، الخبيرة في الشؤون السودانية، ومديرة البرنامج الأفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، في حديثها إلى زاوية ثالثة.
وتشير الطويل إلى أن الغالبية العظمى من العائدين يتجهون إلى شرق ووسط السودان، لكون تلك المناطق أقل تضررًا من الحرب من حيث تدمير البنية التحتية، مقارنةً بالعاصمة الخرطوم، التي ستتأخر عودة اللاجئين إليها لفترات أطول، نظرًا لحجم الدمار الكبير. ومن المتوقع، بحسب تقديراتها، أن يبادر بعض الرجال بالعودة أولًا للمساهمة في جهود إعادة الإعمار وتهيئة الظروف المعيشية، تمهيدًا لعودة أسرهم لاحقًا.
وتؤكد الطويل أن مسار الاستقرار في السودان مرهون بطبيعة الأداء السياسي للمؤسسة العسكرية في المرحلة المقبلة. إذ أن تمسك الجيش السوداني بموقف محايد بين مختلف المكونات السياسية، وسماحه للمدنيين بصياغة معادلة سياسية جامعة تقوم على المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، سيكون عاملًا حاسمًا في استعادة الأمن وبناء الثقة. أما في حال قرر الجيش الاحتفاظ بالسلطة بشكل مباشر، أو منح حلفائه من القوى المدنية التي دعمته خلال المعارك الأخيرة وزنًا سياسيًا أكبر من غيرهم، فإن ذلك قد يُقوّض فرص الاستقرار، ويفتح الباب أمام عودة الاقتتال، خاصة في ولايات الشمال والشرق والوسط.
وتُحذّر الطويل من أن أي تسوية لا تتضمن مصالحة وطنية حقيقية، ستُبقي منطقة غرب السودان ودارفور في حالة هشاشة أمنية، رغم وجود حاضنة شعبية لقوات الدعم السريع هناك، نظرًا لتصاعد التوترات السياسية مع خصومها المحليين. وتلفت إلى أن استمرار النزاعات دون حلول سياسية شاملة، قد يُعيد طرح سيناريو تقسيم السودان، مشيرة إلى وجود تيارات داخلية تدعم هذا الاتجاه، إلى جانب ما تعتبره “مخططًا دوليًا للتقسيم” تقوده إسرائيل، ما يُبقي البلاد أمام مستقبل غامض، حتى مع التقدم العسكري الحالي.
فيما تعتبر السفيرة منى عمر، مقررة لجنة العلاقات الخارجية وعضو المجلس القومي للمرأة، مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية سابقًا، في تصريحات إلى زاوية ثالثة، أن هناك فرصة جيدة لاستقرار الأوضاع في السودان والعودة الطوعية للاجئين السودانيين، في ظل تحرير الخرطوم والانتصارات التي حققها الجيش السوداني وهروب حميدتي، قائد ميليشيات الدعم السريع، إذ أن السودان تحتاج إلى عودة مواطنيها إليها لإعادة إعمارها، في ظل وجود فرصة لتحقيق الاستقرار وتشكيل حكومة وطنية وإجراء انتخابات.
وتعتقد مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية سابقًا، أن عملية إعادة الإعمار ستستغرق سنوات، في ظل الدمار الهائل الذي لحق بالمنازل والأبنية والمنشآت الحكومية والمؤسسات، وما تعرض له السكان من تشريد وإجبار على النزوح، لاسيما أن دولة السودان فقيرة وتحتاج إلى دعم المجتمع الدولي الذي يبدو منشغلًا بصراعات أخرى، أبرزها: الحرب الروسية الأوكرانية، وحرب الإبادة التي تتعرض لها غزة، والصراع في الكونغو، مشيرة إلى أن هناك احتمالية لتجدد الصراع العسكري في السودان.
وفي الوقت الذي تجددت فيه آمال كثير من اللاجئين السودانيين في مصر بالعودة إلى الوطن، بعد تحرير الخرطوم، وتزايد الإقبال على مبادرات العودة الطوعية إلى السودان؛ فإن المخاوف بشأن تجدد المواجهات العسكرية وشبح تقسيم البلاد الذي لا زال ماثلًا، إضافة للدمار الهائل في المنازل والبنية التحتية، الذي لحق بالعاصمة ومدن سودانية أخرى، يعصف بأحلام السودانيين في الاستقرار والحياة الكريمة.
فيديو لمحمد سليمان مؤسس مبادرة راجعين لبلد الطيبين