“كان الوداع موجعًا، غادرت السودان لأول مرة بحزن يعتصر قلبي، وعيناي تلتقطان مشاهد الخراب والدمار، فيما أفكاري غارقة في منازلنا الضائعة وممتلكاتنا التي تركناها خلفنا”، بهذه الكلمات تستعيد ميادة صلاح، سودانية مقيمة في القاهرة منذ اندلاع الحرب في إبريل 2023، لحظات النزوح القاسية. تصف خروجها من وطنها كجرح لم يندمل، وهي لا تزال تحمل حلم العودة، تشتاق إلى تفاصيل حياتها القديمة وغرفتها التي غادرتها مبعثرة، على أمل أن تعود يومًا لتعيد ترتيبها كما كانت.
لم يكن حلم العودة حكرًا على ميادة وحدها، إذ ينتظر سيف البروف تحسن الأوضاع الأمنية وانتهاء الاستهداف القائم على العرق والجغرافيا ليعود إلى وطنه. يقول بأسى: “رغم استقبال مصر لنا وفتح أبوابها، إلا أن قلبي وروحي لا يزالان هناك.” فقد سيف عددًا كبيرًا من عائلته وأصدقائه في الأزمة، وما زال يكافح للتأقلم مع الحياة الجديدة في مصر، لكنه يعترف: “أشعر أنني أعيش بلا روح، وكأن نزوحنا القسري قد سلبنا حياتنا وألقى بنا في غربة لا نهاية لها.”
يعيش سيف البروف في القاهرة متنقلًا بين المساكن، في رحلة بحث لا تنتهي عن مكان يتناسب مع قدراته المالية المحدودة. غلاء الإيجارات أصبح عبئًا لا يستطيع تحمله، فقد استقر مؤخرًا في مسكن خالٍ من الأثاث بمدينة 6 أكتوبر، بتكلفة سبعة آلاف جنيه شهريًا. يقول بحسرة: “نحن قادمون من منطقة حرب، فقدنا كل شيء. هناك من يستغل ضعفنا، حتى أن بعض السودانيين لم يجدوا مفرًا سوى العودة إلى السودان، رغم المخاطر التي تحاصرهم هناك.”
يعاني الشاب الثلاثيني، الذي يعمل صحفيًا، من مشقة الحياة وقلة الفرص المتاحة. يروي أن: “مليشيات الدعم السريع نهبت ممتلكاتي وقتلت أفرادًا من عائلتي. لم يتبقَ لي سوى الأرض، وهي كل ما أملك وأحلم بالعودة إليه. أتمنى أن تتحسن الأوضاع في أقرب وقت، لأتمكن من العودة إلى موطني الذي لا يزال يسكن قلبي.”
نوصي للقراءة: تحليل: هل السودانيون حقًا سبب أزمة العقارات في مصر؟
خروج إجباري
“الخروج الإجباري يحمل ألمًا لا يوصف”، تقول هنادي عبداللطيف سهيل، سودانية مقيمة بالقاهرة: “لا شيء أصعب من أن تُجبر على ترك وطنك وبيتك.” الحنين يلاحقها باستمرار إلى بلاد مزقتها الحرب، حيث تسكن الآن ميليشيا الجنجويد منزلها الذي نهبوا محتوياته بالكامل. تتذكر: “كنت أعيش مع أهل زوجي، لكن الحرب فرقتنا، ورحيل جد ابنتي كسر قلوبنا جميعًا. أحيانًا أتساءل: هل سنعود يومًا إلى ذلك المنزل؟ وكيف سنواجه غيابه الذي لن يُعوّض؟”
بعد شهرين من الحرب، أدركت هنادي عبداللطيف أن الأوضاع في السودان لن تهدأ قريبًا، وأن تعقيد الأزمة يتفاقم يومًا بعد يوم. قررت الفرار إلى مصر مع أسرتها الصغيرة، التي تضم شقيقتيها أماني وياسمين، وثلاثة أطفال: ابنتها ذات السنوات السبع، وبنات شقيقتها البالغتين ثلاث وخمس سنوات. الطريق إلى مصر لم يكن سهلًا؛ واجهت العائلة محنة مريرة عندما استولى أفراد من ميليشيا الدعم السريع على جوازات سفر الأطفال، مما جعل السفر يبدو مستحيلًا. ولكن، بمحض الصدفة، وجدت العائلة الجوازات مبعثرة في منطقة مجاورة، لتواصل رحلتها المليئة بالألم نحو بر الأمان.
وصلت هنادي إلى مصر في فبراير الماضي، حيث استقرت مع شقيقتها تهاني. تركت وراءها ذكريات تستعيدها في أحلامها، معلقة أملها على توقف الحرب والعودة إلى وطنها: “حلم العودة لم يفارقني، وأعيش على أمل تحقيقه يومًا ما.”
يؤكد حبيب يعقوب، الأمين العام للرابطة السودانية بمصر، أن السودانيين جميعهم يتوقون للعودة رغم المخاطر. يشير إلى أن بعضهم قد عاد بالفعل، رغم الظروف الصعبة، بعدما أصبحت أموالهم وممتلكاتهم في السودان بلا قيمة. الميسورون في وطنهم صاروا بين الفقراء في مصر، في انتظار نهاية النزاع الذي دمر كل شيء.
في 9 أبريل الماضي، ذكرت المتحدثة باسم المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أولجا سارادو، أنه ازداد عدد اللاجئين السودانيين المسجلين لدى المفوضية في مصر خمسة أضعافٍ خلال العام الماضي، بمعدلٍ يومي يتراوح بين ألفين لثلاثة آلاف لاجئ وطالب لجوء، قصدوا مرافق استقبال المفوضية في منطقة القاهرة الكبرى ومدينة الإسكندرية. أما في أغسطس 2024، تم تسجيل أكثر من 748 ألف لاجئ وطالب لجوء لدى المفوضية في مصر، غالبيتهم من النساء والأطفال الذين وصلوا مؤخرًا إلى مصر هربًا من الصراع الوحشي الذي بدأ في السودان في إبريل 2023. ومنذ اندلاع الصراع، نما عدد اللاجئين السودانيين المسجلين بنحو سبعة أضعاف ومن المتوقع أن تستمر الأعداد في الارتفاع، ووفق بيانات نشرتها المفوضية تستند إلى الحكومة المصرية في نوفمبر الماضي، فقد نزح إلى مصر نحو 1.2 مليون سوداني منذ بدء الحرب.
تستعيد شوق محمود، ناشطة في مجال العمل التطوعي، تجربتها قائلة: “أول مرة دخلت مصر بعد الحرب كانت في مايو 2023، لكنني عدت إلى السودان في 20 أكتوبر من نفس العام.” عادت لوطنها مدفوعة برغبة قوية في تقديم المساعدة للنازحين في المعسكرات، رغم علمها بالمخاطر.
رحلة العودة كانت مليئة بالمخاطر، تحملت الشابة الثلاثينية القلق والخوف، حيث وجدت نفسها تنتقل بين مناطق السودان الملتهبة. وصلت أولًا إلى ولاية البحر الأحمر، التي تطل على البحر الأحمر بعاصمتها بورتسودان، ثم انتقلت إلى مدينة مدني، إحدى المدن الكبرى بولاية الجزيرة. كانت هذه المناطق قد طالها الدمار وشهدت نزوح معظم سكانها، لتصبح رحلتها أشبه بالسير على حافة الموت مع كل خطوة.
تحكي شوق محمود عن رحلتها المحفوفة بالمخاطر قائلة: “الخطر كان يلاحقني طوال الطريق، وشعوري بعدم الأمان لم يفارقني. كنت برفقة صغاري الذين كانوا يصرخون من شدة الخوف، وأنا أعيش توقعات دائمة باشتباكات قد تندلع في أي لحظة، فضلًا عن خطر الأمراض التي لا يتوفر لها علاج.” رغم تلك الصعوبات، مضت شوق في رحلتها الصعبة، مدفوعة برغبة في مساعدة أبناء وطنها النازحين.
ولكن بعد أن أنهكتها الظروف، عادت إلى القاهرة في يوليو الماضي مع أطفالها، بحثًا عن استقرار تعليمي لهم. تقول: “جئت إلى القاهرة لأن التعليم في الولايات غير مستقر. عدت لأضمن مستقبل أبنائي، لكنني أعيش على أمل العودة إلى الوطن قريبًا.”
نشرت المنظمة الدولية للهجرة تقرير في 23 يوليو الماضي، عن التنقل في السودان، يفيد بأن هناك نحو 10.7 مليون شخص (2.1 مليون أسرة) نازح في السودان. 55% منهم من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عامًا، وقد عانوا أكثر من عام من الانفصال وانتهاكات حقوق الإنسان والصدمات والعنف وعدم الحصول على الخدمات الأساسية. ويشمل العدد الإجمالي للنازحين ما يقدر بنحو 7.9 مليون شخص فرّوا من ديارهم منذ بداية النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023. وقد عبر حوالي 2.1 مليون شخص الحدود إلى دول الجوار منذ 15 أبريل 2023 بما في ذلك إلى مصر وتشاد وجمهورية جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وإثيوبيا وليبيا وأوغندا، حتى الفترة التي رصدها التقرير في يوليو.
نوصي للقراءة: الهروب من ساحات القتال إلى تحدّيات الاستقرار : اللاجئين السودانيين في مصر وأزمة السكن
ثمن العودة
يشكو حبيب يعقوب من غلاء المعيشة في مصر، حيث يعاني الجميع، سواء مصريون أو سودانيون، من ضغط التكاليف المتزايدة. يقول: “الجميع يعاني، والعودة إلى الوطن تحتاج إلى أموال. هناك سودانيون قرروا العودة إلى بلادهم رغم الحرب، إذ يفضلون ذلك على العيش هنا بذل وحاجة.”
بجهود شخصية، ساعد حبيب عددًا من أبناء بلده في العودة عبر مكاتب الترحيلات التي يعمل بها، قائلاً: “جمعنا مساعدات لتغطية تكاليف السفر لهؤلاء الذين لم يتمكنوا من التكيف مع الحياة هنا.” وأوضح أن العودة تتطلب توفر جواز سفر سوداني وتأشيرة دخول، مع إمكانية التفاوض لتخفيض تكلفة السفر البري بالأتوبيسات، والتي تبلغ حوالي 1500 جنيه مصري. يضيف: “هناك أسر، خاصة النساء والأطفال، تجد صعوبة كبيرة في توفير المبلغ، ما يدفعها للعودة رغم المخاطر التي تنتظرها.”
يضيف، أن بعض السودانيين بدأوا العودة لوطنهم الغارق في الحرب، تحديدًا منذ فبراير الماضي، بسبب الغلاء والارتفاع الكبير في سعر الإيجارات التي قفزت من 800 جنيه إلى ثمانية آلاف جنيه دون أثاث: “بخلاف التأمين والسمسرة وهناك استغلال واضح، حيث أصبح يطرد غير القادرين وتسكين من يدفع أكثر.”
جاءت إقبال عباس (73 عامًا) إلى مصر بعد الحرب بأسبوعين في 17 مايو 2023، رفقة زوجها وبناتها وأحفادها، مؤكدة أن كل أملها في العودة حتى وإن سكنت على ركام بيتها بحسب قولها لنا: “نتخيل عودتنا كل يوم ونتذكر منازلنا، حتى وإن كان ما تبقى منها ركام بعد تدميرها سنعيش فيها.”
تحكي أنها كانت تسكن في منطقة من أخطر المناطق وهي “توتي” في وسط العاصمة بين الخرطوم وأم درمان: “كانت من أوائل المدن التي تم ضربها”. قررت المجيء إلى مصر وفي الطريق الذي استمر أكثر من أسبوع توفيت خالتها التي لم تتحمل مشقة الرحلة، حتى وصلوا واستقروا في زهراء المعادي بالقاهرة.
تقول إن أحفادها لايزالون يعانون من صدمة نفسية ما بعد الحرب، يبكون بحرقة لفقدان مدارسهم وألعابهم وحياتهم: “ابني لايزال هناك في السودان لأنه نقيب شرطة وأحفادي يرغبون في العودة لرؤية خالهم ونحاول طمأنتهم بأن العودة قريبة.”
بينما تقول هنادي: “لم يسلم بيتي من النهب والسرقة بعد دخول أفراد مليشيات الدعم السريع إليه، فقد كسرو الأبواب واتلفوا الآثاث وسرَقوا وخربوا وألقوا بكل مافيه في الأرض، وبل وقاموا بتكسير أواني المطبخ، فقدت كل ما بالمنزل ولكني لا أزال أحلم بالعودة”. كانت تعيش في حي النخيل بمدينة أم درمان، وبعدها توجهت إلى ولاية نهر النيل ومكثت فيها أكثر من شهر ونصف في انتظار توقف الحرب وبعدها جاءت إلى مصر: “شهور الانتظار من أصعب الأيام التي مرت بنا.”
تتذكر أول سبعة أيام من الحرب وهي بمنزلها، حيث تتعالى أصوات الرصاص وهي تشاهد فزع ابنتها: “كانت أيام صعبة ومرعبة لازال صوت ابنتي تالية في أذني وهي مرعوبة من الأصوات التي نسمعها بشقتنا في الطابق الأول، فكانت تزداد بصورة يومية”، موضحة أنها واجهت معاناة في التنقل ما بين مدينة شندي بولاية نهر النيل ومن ثم إلى دنقلا بالولاية الشمالية ومن ثم إلى مدينة وادي حلفا: “ولم نكن نعلم أن أمامنا الآلاف ممن ينتظرون الدخول إلى مصر عبر التأشيرة.”
لم تجد هنادي إجابة عن أسئلة صغيرتها المتكررة كل يوم على مدار أكثر من شهر من الانتظار، عن موعد السفر، ما أصابها بحالة نفسية سيئة: “تأثرت بشكل كبير وكنت أحاول في كل مرة أشرح لها أن أمامنا الكثير ممن حضروا قبلنا للسفر، ولم تهدأ حتى وصلنا إلى مصر”. منذ وصولها وهي تبحث عن فرصة عمل في مجالها التي تخصصت فيه وهو الإعلام: “لم أفقد الأمل”، يؤرقها تعليم ابنتها في ظل ارتفاع أسعار رسوم المدارس وهي بلا عمل أو دخل، بجانب فقدانها لكل ما تملك: “فقدت سيارة زوجي وهي آخر ما نملك، كانت السيارة بداخل مسجد الختمية بمدينة بحري وظلت في أمان لأكثر من عام، لكن بعد شهرين من وصولنا علمنا بسرقتها.. فلم نعد نملك شيئًا.”
فقدت ميادة كل ما تملك تقريبًا، ولم يتبقَ لها سوى القليل من الملابس وجهاز الكمبيوتر المحمول الخاص بها. كانت تظن أن سعادتها بإتمام تمهيدي الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة الخرطوم ستكون بداية لتحقيق أحلامها، لكنها وجدت نفسها تهرب من الموت عبر معبر أرقين البري. تحكي عن المشاهد القاسية التي لا تزال محفورة في ذاكرتها: “رأيت التكدس الهائل للناس الفارين من ويلات الحرب، حافلات يتجاوز عددها الخمسين، وانتظار طويل بين الحياة والموت. رأيت أشخاصًا يفارقون الحياة قبل أن يحصلوا على فرصة العبور.”
تروي ميادة بمرارة مشاهد النهب والعنف، اقتحام المحال التجارية والبنوك، استباحة المنازل، واغتصاب الفتيات واقتيادهن قسرًا. وعندما وصلت إلى ميناء القاهرة البري في يونيو 2023، وحصلت على ختم تأشيرة الوصول، خطت خطواتها الأولى على الأرض المصرية ببطء، مشبعة بوجع وألم. التفتت إلى الوراء كأنها تبحث عن جزء مفقود منها، وهي تتساءل بدموع محبوسة: “هل سأعود يومًا؟ متى سأرى منزلي الصغير مجددًا؟ هل سألتقي شقيقتي وشقيقي اللذين لا يزالان في أم درمان؟”
بين ميادة التي تعيش على أمل العودة، وهنادي التي تشاركها الحلم، وبين من غامروا بالعودة إلى وطنهم رغم أهوال الحرب، تظل صرخات السودانيين وتساؤلاتهم تتردد: متى ستنتهي هذه الحرب التي لم تبقِ أخضرًا ولا يابسًا؟