على مدار 16 عام اعتاد مينا رضا – العامل بالشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي-، والمعين على الدرجة الوظيفية الثانية، أن يعمل لثماني ساعات يوميًا، مقابل أجر شهري يبلغ 4200 جنيه – أي نحو 89.63 دولار أمريكي-، دون الحد الأدنى للأجور في مصر البالغ ستة آلاف جنيه، ويعادل نحو 128 دولار. وهو مبلغ لا يكفي لتوفير الاحتياجات الأساسية لأسرته.
ومنذ ثماني سنوات ينتظر “رضا” أن يتلقى أي علاوة تساعده على تحمل أعباء المعيشة في ظل ارتفاع الأسعار وزيادة معدلات التضخم إلى 32.5%، وانخفاض قيمة الجنيه؛ إذ توقفت الشركة عن صرف العلاوات له وزملاءه منذ عام 2016 الذي شهد تعويمًاً لسعر صرف الجنيه المصري (العلاوة بمثابة زيادة سنوية على الأجر، تمنحها الحكومة المصرية لموظفيها بهدف تحسين ظروفهم المعيشية والتخفيف من آثار الظروف الاقتصادية).
الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، شركة حكومية مصرية، يعود إنشاؤها إلى قرار رئيس الجمهورية رقم 135 لسنة 2004، وتتبع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية. |
“منذ عام 2011 تمنحنا الشركة بدل وجبة شهريًا 100 جنيه/ 2.13 دولار، إضافة إلى 10 جنيهات/ 21 سنتًا، بدل مياه!، نطالب بتطبيق الحد الأدنى للأجور على جميع الدرجات الوظيفية، لذا تقدمنا بشكاوى لمجلس الوزراء ومع ذلك لم تتم الاستجابة لمطلبنا، والعاملون بالشركة متعبون وكثير منهم ترك العمل، فنحن نعمل لثماني ساعات يوميًا ولا يوجد مجال أو وقت لعمل آخر لكسب الرزق بجانب وظائفنا، ونتلقى أجورًا زهيدة للغاية”.. يحكي “رضا” الذي يعمل بفرع الشركة في محافظة المنيا، مناشدًا أعضاء مجلس النواب بالتدخل السريع لإدراج عمال شركات مياه الشرب والصرف الصحي على مستوى الجمهورية، لـ حزمة قرارات الحماية الاجتماعية التي أعلن عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي.”
في السياق نفسه، يعمل محمد عويس بأحد فروع الشركة القابضة لمياه الشرب، بالقاهرة، منذ 15 عامًا، لم يحصل خلالها على زيادة في أجره الشهري الذي لا يزال دون الحد الأدنى للأجور؛ إذ يتساوى راتبه مع أجر أي موظف حديث التعيين بالشركة، كما لم يحصل منذ عشر سنوات على العلاوة الثانوية أو أي علاوة أقرها رئيس الجمهورية.
“يتساوى راتبي مع العامل الذي وقّع عقدًا مع الشركة اليوم – رغم أني خدمت الشركة 15 سنة- بسبب عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور على جميع الدرجات الوظيفية، وهو مطلبنا الرئيسي، بجانب صرف العلاوات المتأخرة منذ 10 سنوات، وتسوية الحالة الوظيفية للعاملين في فروع الشركة بالقاهرة أسوة بباقي المحافظات، إضافة إلى تثبيت أصحاب العقود المؤقتة”.. يقول “عويس”.
في حين يعمل أحمد محمود منذ ثماني سنوات – محصل وقارئ عدادات مياه-، لدى فرع الشركة القابضة بمحافظة الأقصر، بنظام العمولة بحسب عقد مؤقت له مع الشركة، وتنص عقود محصلي المياه بالعمولة على أن يتقاضى المحصل 3% من قيمة الفاتورة بحد أقصى عشرة جنيهات ولا يتقاضون راتب أساسي ولا بدل انتقال، باستثناء بند القراءات وهو 40 جنيهًا لكل دفتر قراءات، لتتراوح أجورهم بين 1500 و3500 جنيه أي 32 إلى 74 دولارًا
“أنا وكثيرين غيري دون أي حقوق أو راتب ثابت ونتلقى أجورنا كل 45 يومًا وليس شهريًا، ، نحن مطالبون بنسبة تحصيل 70% فأكثر، وغالبًا لا يتعدى أجرنا 2000 جنيهًا، وأطالب بالتعاقد معي وفقًا للائحة الشركة أسوة بزملائي في فروع للشركة بمحافظات أخرى”.. يقول “محمود.
احتجاجات عمالية في الشركة
منذ مارس الماضي، بدأت موجة من الاحتجاجات العمالية داخل الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، في فروعها في محافظات أسوان والجيزة والقليوبية وسوهاج والمنيا، مطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، وفق قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 631 لسنة 2024، والخاص برفع الحد الأدنى للأجور للموظفين والعاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات العامة الاقتصادية، اعتبارًا من أول مارس 2024، إضافة للمطالبة بمراعاة التدرج الوظيفي وتثبيت العمالة المؤقتة ومحصلي المياه بالعمولة. |
وتعود بدايات أزمة عمال شركة المياه إلى عام 2016؛ إذ لم تطبق قوانين العلاوات الخاصة والاستثنائية على الأجر الأساسي، واكتفت الإدارة بتطبيق جزء منها على الأجر الشامل فقط، ما يمثل – حسب العمال الذين تحدثنا معهم- مخالفة للقوانين و القرارات الحكومية.
وكانت النائبة البرلمانية، نشوى الشريف، قد تقدمت بـ طلب إحاطة في فبراير 2022، بشأن حرمان العاملين بشركات مياه الشرب والصرف الصحي من الحصول على العلاوات الخاصة والاستثنائية والحد الأدنى للأجور وضم العلاوات الخاصة والاستثنائية على الأجر الأساسي لغير المخاطبين بقانون الخدمة المدنية ومنهم الخاضعين لقانون قطاع الأعمال العام.
ووفقًا لمستندات اطلعت عليها “زاوية ثالثة” فقد تقدم 15 من رؤساء مجالس إدارات شركات مياه الشرب والصرف الصحي بمذكرة لرئاسة الجمهورية، في 28 مارس الماضي، لعرض شكوى العمال من تدني أجورهم، ووفقًا لعمال بالشركة تواصلوا معنا، فإن الإدارة قامت بتطبيق الحد الأدنى للأجور (ويوازي ستة آلاف جنيه) على الدرجات الوظيفية الخامسة والسادسة فقط، بينما باقي العاملين لم يحصلوا سوى على أكثر من 300 جنيه زيادة في الأجور كحد أقصى.
ومنذ منتصف أبريل الماضي، بدأ عمال الشركة حملة جمع توقيعات للتقدم باستغاثة إلى الرئيس السيسي، يطالبونه فيها بالموافقة على تنفيذ الأحكام القضائية للعاملين بشركات المياه على مستوى الجمهورية، بشأن تعديل الأجر الأساسي وتنفيذ العلاوات منذ 2016 وما بعدها، وتطبيق الحد الأدنى للأجور على كافة الدرجات الوظيفية، ورفع العلاوة الدورية من 7% إلى 15% أسوة بالعاملين في شركة الكهرباء وغيرها من شركات الحكومة، إضافة إلى زيادة بدل الوجبة الغذائية إلى 500 جنيه، وتثبيت كافة العاملين بعقود مؤقتة منذ 2012 حتى تاريخه، وتثبيت محصلين العمولة على مستوى الجمهورية، وتوحيد أسس احتساب الأجور للعاملين بكافة فروع الشركة.
وتحت وطأة الاحتجاجات العمالية والشكاوى التي تقدموا بها وافقت الشركة القابضة لمياه الشرب، خلال أبريل المنقضي، على رفع بدل الوجبة إلى 600 جنيه، وبدل المياه إلى 150 جنيه، لكنها لم تمتثل لتطبيق الحد الأدنى للأجور أو تُنفذ أيًا من مطالب العمال الأخرى. |
تعنت إدارة الشركة
من جهته، يتهم جبالي المراغي – رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، رئيس المجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب-، إدارة الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، بالفشل والتعنت في تطبيق قرار رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للأجور، رغم أن الشركة ليس قطاعًا خدميًا لا يحقق أرباح، داعيًا إدارة الشركة للالتزام بالقرار ومراعاة ظروف العمال في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، مناشدًا وزير قطاع الأعمال محمود عصمت، بالتدخل لحل الأزمة.
ويُبين “المراغي” في حديثه إلى زاوية ثالثة أن هناك الكثير من العمال في بعض فروع الشركة القابضة لم يتلقوا علاوة منذ عشرة أعوام، لافتًا لعدم قانونية استمرار عمل محصلين وعمال بالشركة، بعقود مؤقتة لعدة سنوات، موضحًا أن القانون ينص على تثبيت العامل المؤقت بعد ثلاث سنوات من التعاقد معه، وألا يكون قد تجاوز سن الثلاثين عامًا، في حين أن الواقع يظهر أن بعض العمال يعملون بشكل مؤقت منذ نحو عشر سنوات و تجاوزوا بالفعل سن الثلاثين من العمر.
في السياق نفسه، يؤكد خالد الفقي – نائب رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال مصر، رئيس النقابة العامة للصناعات المعدنية والهندسية والكهربائية-، أن تطبيق الحد الأدنى للأجور وفقاً لقرار مجلس الوزراء، أصبح ساري المفعول، وتم تطبيقه بالفعل على القطاع العام، ويفترض أن تقدم الشركات التي تتعثر في تطبيق القرار، طلبات إلى الاتحادات التابعة لها.
ويشير “الفقي” في حديثه معنا إلى أن النقابة العامة للعاملين بالمرافق العامة، هي المعنية بأزمة عمال الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، موضحًا أن مسألة تثبيت العقود المؤقتة للعمال يخضع لاحتياجات جهة عملهم.
ظلم اجتماعي
يعتبر كمال أبو عيطة – وزير القوى العاملة والهجرة الأسبق، القيادي العمالي- أن عدم تطبيق الحد الأدنى للأجور يعد أحد أشكال الظلم الاجتماعي التي يتعرض لها العمال، في ظل ارتفاع أسعار السلع والخدمات، مستهجنًا الارتفاع الكبير في أسعار مياه الشرب التي يتحملها المواطنون – وبالتالي تحقق أرباح كبيرة للشركة-، دون أن يُحرك ذلك ساكنًا بالنسبة إلى أجور العمال ومحصلي العدادات بالشركة، واصفًا ذلك، في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، بغياب العدالة الاجتماعية التي قامت بسببها ثورتي 25 يناير و30 يونيو، والذي قد يؤدي لحدوث ثورة ثالثة
ويرى “أبو عيطة” أن العمل بعقود مؤقتة دون تثبيت هو أحد أشكال العبودية والرق، والتي تتورط بها مكاتب توريد العمالة للشركات، و يعززها ارتفاع نسب البطالة في المجتمع، ما يؤدي لكثرة العرض وقلة الطلب واستغلال أصحاب الأعمال احتياج الشباب للعمل، مبينًا أن السبب الذي يجعل قطاعات الأعمال والشركات تلجأ إلى العقود المؤقتة هي إمكانية فصل العمال في أي وقت، دون أي حقوق مادية أو تأمينات، وعدم تحميلهم أي مسؤولية أو تعويضات في حال تعرض العامل لإصابة عمل أو حتى الوفاة
ووفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، بلغ عدد العاطلين عن العمل في عام 2023، نحو 2.159 مليون متعطل، وتبلغ نسبة البطالة 6.9 بالمئة من إجمالي قوة العمل، ويبلغ معدل الفقر 32.5 في المئة من عدد السكان. |
المطالب قيد الدراسة
وبحسب ما علمت “زاوية ثالثة” من مصدر مسؤول في الشركة – فضل عدم ذكر اسمه-، فقد وجّه وزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، عاصم الجزار، تكليفًا إلى رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي ممدوح رسلان، في أبريل الماضي، بدراسة مطالب أعضاء مجلس الإدارة، المتعلقة بزيادة أجور العاملين.
وكان “رسلان” قد أكد في بيان له، أن حقوق العاملين دائمًا محل تقدير وعناية، وأن الشركة حريصة على تلبية مطالب العاملين ومساندتهم في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، ذاكرًا أن مطالبهم قيد الدراسة
في الوقت الذي يأمل فيه “مينا” و”محمد” و”أحمد” تحقيق مطالبهم المشروعة في أجور عادلة تحقق لهم حياة كريمة؛ فإن معاناتهم التي يشتركون فيها مع آلاف العمال غيرهم بالشركة، والتي يبلغ عدد موظفيها نحو 135 ألف، ستظل مستمرة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة وزيادات الأسعار وتضائل القدرة الشرائية، ما لم تتدخل الحكومة وتضع حدًا لهذه المعاناة، حسبما وصفوا جميعًا.