أميرة الضاحي، امرأة في الثالثة والثلاثين من عمرها، تقضي ساعات طويلة يوميًا أمام صيدلية الإسعاف في الجيزة، في محاولة للحصول على حقنة “مريونال” لعلاج تأخر الحمل، وهي حقنة نادرة لا تتوفر بشكل مستمر في السوق. ورغم المعاناة اليومية والانتظار لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، لا يتوقف الأمل في قلب أميرة، التي تواصل محاولاتها للحصول على العلاج، رغم صعوبة الموقف.
بعد سبع سنوات من محاولات العلاج المتواصلة، بدأت أميرة في رحلة شاقة من الأطباء إلى المستشفيات، حيث خضعت للكثير من الفحوصات الطبية، بدءًا من المنظار الجراحي، مرورًا بالحقن العلاجية المكلفة، وصولًا إلى أشعة الصبغة، وكل ذلك على أمل أن تجد علاجًا يُحقق حلمها في الأمومة. لكنها، كغيرها من النساء اللاتي يعانين من العقم، تواجه تحديات إضافية تتمثل في نقص الأدوية وارتفاع الأسعار.
ورغم أن العلاجات المطلوبة تتطلب تكاليف ضخمة، إلا أن أميرة لم تجد خيارًا آخر سوى بيع مصوغاتها الخاصة لتمويل علاجها. “الخوف من فقدان الأمل والتكلفة المادية الكبيرة تلاحقني يومًا بعد يوم”، تقول أميرة، مؤكدة أن غياب الأدوية في الأسواق يزيد من معاناتها.
هذه الحكاية واحدة من آلاف الحكايات لنساء في مصر يواجهن تحديات تأخر الحمل في ظل نقص الأدوية، وهو ما يعكس أزمة صحية أكبر. تتطلب هذه الأزمة وقفة جادة لمعالجة أسباب نقص الأدوية وتوفير العلاج بشكل منظم وآمن، خاصة في ظل غياب الدعم الكافي للنساء المعيلات في المناطق المختلفة.
بين نقص الأدوية وضغوط المجتمع
تبدأ زينب الشافعي، المقيمة في محافظة القليوبية، يومها في الساعة الثالثة فجرًا للبحث عن الحقنة التي تحتاجها لعلاج تأخر الحمل. رحلة يومية طويلة تستهلك منها المال والجهد، ولكن النتيجة دائمًا ما تكون خيبة الأمل. “أغادر منزلي في وقت مبكر جدًا بسبب نقص الحقنة في الأسواق، لكن مع كل رحلة يزداد الضغط النفسي من المجتمع”، تقول زينب.
تعيش زينب في بيئة ريفية تضع عبئًا إضافيًا على معاناتها. أسئلة الجيران المتكررة حول سبب خروجها في ساعات متأخرة تزيد من إحراجها، لكنها تخشى الكشف عن سبب رحلاتها اليومية خوفًا من الوصمة الاجتماعية التي قد تطاردها. رحلة العلاج التي كانت تأمل أن تكون سريعة وفعّالة أصبحت متعثرة بسبب نقص الأدوية التي لا يمكن الحصول عليها في الوقت المحدد.
منذ ثمانية أشهر، بدأت زينب في الشعور بتقلصات وآلام شديدة مصحوبة بأعراض أخرى أثارت القلق، ما دفعها لإجراء الفحوصات الطبية. اكتشفت إصابتها بتكيس المبايض، وهو ما يؤثر على قدرتها على الإنجاب. مع مرور الوقت، ازداد الوضع سوءًا، وشعرت أن تأخر العلاج ليس فقط يؤثر على جسدها، بل أيضًا على حياتها الشخصية والمجتمعية. “لم أكن أعلم أن هذه الأعراض مرتبطة بالمرض، وكان الأمر يزداد صعوبة مع استمرار نقص العلاج”.
تواجه “زينب الشافعي” معركة يومية للحصول على الحقن التي تحتاجها لعلاج تكيس المبايض، الذي يؤثر على قدرتها على الحمل. حسب منظمة الصحة العالمية، تصاب واحدة من كل خمس نساء حول العالم بهذه المتلازمة الهرمونية التي تؤدي إلى اضطرابات في الدورة الشهرية وصعوبة في الحمل.
منذ أسابيع، قامت “زينب” بزيارة صيدلية الإسعاف يوميًا، وأخيرًا تم صرف حقنة واحدة من “مريونال” بعد انتظار طويل، لكنها لا تزال بحاجة إلى حقنة “ديكاببتيل” التي هي أيضًا ناقصة في الأسواق. “عندما أعود للمنزل دون الحصول على العلاج الكامل، تبدأ أسئلة زوجي وعائلته، وفي بعض الأحيان تكون كلماتهم جارحة”، تقول زينب.
وبينما تواصل “زينب” سعيها للحصول على العلاج اللازم، تظل معاناتها مضاعفة بين نقص الأدوية ومشاعر الإحراج والضغط الاجتماعي من المحيطين بها.
يؤكد الدكتور أحمد عبد الحق، استشاري أمراض النساء والعقم، أن حقنة “ديكاببتيل” تعد خطوة حاسمة في عملية الحقن المجهري، حيث تساعد على تنظيم توقيت إطلاق البويضات من المبيض، مما يساهم في تحسين فرص نجاح العملية. كما يشير إلى أن نجاح الحقن المجهري يعتمد على عدة عوامل حاسمة، مثل الالتزام بمواعيد الجرعات، التغذية الصحية، وعمر الزوجة، مما يرفع نسبة نجاح العملية إلى 70-80%.
تؤكد رشا الجندي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة بني سويف، أن ثقافة الإنجاب تختلف بين القرى والمدن في مصر. ففي المناطق الريفية، يتوقع المجتمع أن تُنجب المرأة مبكرًا، بينما في المدن الكبرى قد يتأخر الإنجاب إلى سن الثلاثين. ومع ذلك، تشترك جميع المجتمعات في النظر إلى المرأة التي لا تستطيع الإنجاب على أنها ناقصة، مما يضعها تحت وصمة العار. وهذا الموروث الثقافي يُعزز من الضغط الاجتماعي الذي يواجهه العديد من النساء.
تروي “أميرة” تجربتها: “أنا في مجتمع يحدد أنوثة المرأة بناءً على قدرتها على إنجاب الأطفال، وللأسف لم أتمكن من إنجاب طفل حتى الآن.” تتحدث عن الضغوط التي تعرضت لها من قبل زوجها وعائلته، حيث تحولت حياتها إلى انتظار دائم لنتائج العلاج وتكرار الأسئلة المحرجة من الجميع. “الأمر وصل إلى سؤال أقارب زوجي عن تفاصيل حياتي الخاصة، مثل عدد مرات الجماع ومواعيد الدورة الشهرية، وهذا ما جعلني أشعر بالاختراق الشديد لخصوصيتي.”
وتضيف أميرة: “لا أحد يدرك تأثير هذه الأسئلة الجارحة، التي تُضاف إلى الضغط النفسي الذي أعيشه طوال الوقت، خاصة أن العلاج لم يحقق النجاح المطلوب.” كما تعبر عن خوفها من عدم قدرتها على تحمل تكاليف الحقن المجهري القادمة، إذ تقول: “صرفنا أكثر من 46 ألف جنيه على منشطات البويضات فقط، ولا أستطيع جمع المبلغ المطلوب للمرحلة التالية.”
أظهرت الدراسات النفسية الحديثة، بما في ذلك دراسة دنماركية، وجود ارتباط بين العقم وزيادة خطر الانتحار، حيث تم فحص 106 امرأة تعاني من العقم. النتائج كشفت أن النساء اللواتي لا يستطعن الإنجاب، أو اللاتي يواجهن صعوبة في الإنجاب لأكثر من مرة، يعانين من مستويات اكتئاب أعلى، ويعانين من مشاعر الذنب والعزلة المتزايدة.
يؤكد حسام حسن، استشاري الطب النفسي، أن تلك الضغوط النفسية تصبح أشد عندما تتضافر مع المعاناة من نقص الأدوية في السوق أو عدم القدرة على تحمل تكاليف العلاج. ويقول: “أي خلل في نتائج العلاج بسبب الظروف المالية أو نقص الأدوية يزيد من احتمالات الإصابة بالاكتئاب الحاد، وقد يتطور ذلك إلى حالات انتحارية.”
الضغط المجتمعي في مصر، حيث يُنظر إلى الإنجاب كعلامة رئيسية لنجاح المرأة في الحياة الزوجية، يساهم في تعميق هذه المعاناة النفسية. يشير حسن إلى أن المجتمع يضع عبئًا نفسيًا على المرأة، مما يضاعف معاناتها ويزيد من مخاطر آثار العقم الاجتماعية والنفسية.
نوصي للقراءة: محاكم التفتيش الأخلاقيّة في مصر: تمييز طبقي وانتهاك لحقوق المرأة بمادة غير دستورية
لا بديل بالأسواق
مع استمرار أزمة نقص الأدوية، طلبت زينب من طبيبها المعالج وصف علاج بديل، لكن لا توجد بدائل متوفرة حتى الآن.
وزير الصحة خالد عبد الغفار يرى أن الأزمة ليست بسبب نقص الأدوية، بل هي “أزمة ثقافة” وأن هناك بدائل لجميع الأدوية. إلا أن العديد من الأدوية الأساسية لعلاج العقم، مثل “ميريونال” و”ديكاببتيل”، لا توجد لها بدائل متاحة في السوق، كما يؤكد سامح نبيل، عضو شعبة الصيادلة بالغرف التجارية.
كما أن أدوية العقم لا تحظى بنفس الأولوية التي تحظى بها الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة مثل الضغط والأورام وأمراض القلب، مما يجعلها غير مدرجة في الوحدات الصحية المخصصة لصحة المرأة أو في نظام التأمين الصحي. هذه الأولوية تساهم في تعميق أزمة نقص الأدوية الخاصة بالعقم، كما يقول نبيل.
من جانبها، تشارك ولاء خالد، البالغة من العمر 21 عامًا، مع زينب وأميرة في شعورهن بالغضب من المنظومة العلاجية في مصر، إذ تصف رحلتها اليومية إلى صيدلية الإسعاف بأنها مرهقة، حيث تتعرض لمواقف مذلة مثل فصل صفوف المرضى الذين يبحثون عن أدوية العقم عن صفوف أخرى، بالإضافة إلى رفض الروشتة بعد مرور أكثر من 30 يومًا.
رغم مساعدة أحد أقاربها في إرسال الأدوية عبر المسافرين، إلا أن تشديدات المطارات على إدخال الأدوية تعقد الأمور. فقد طلبوا روشتة طبية مختومة من مستشفى حكومي وأوراق تثبت حالتها الصحية، ورغم تحضير كل هذه الوثائق، إلا أن الأدوية تم رفض إدخالها بحجة أن المسافر يجب أن يكون هو نفسه المريض.
أما أمام صيدلية الإسعاف، فتتواصل الحكايات بين زينب وأميرة وولاء عن الأسعار المتزايدة للحقن وتخوفهن من تحريك الأسعار. سبق أن أعلنت الحكومة عن زيادة أسعار أكثر من ألف صنف دوائي من الأصناف التي كانت تعاني من نقص حاد، وكان هذا التحرك بناءً على مقترحات رئيس شعبة الدواء، على عوف، الذي يعتقد أن الحل يكمن في تحريك الأسعار للتعامل مع أزمة النواقص.
يشير محفوظ رمزي، رئيس لجنة الدواء بنقابة الصيادلة، في تصريح إلى زاوية ثالثة؛ إلى أن شعبة الدواء تتحدث نيابة عن شركات الأدوية وتراعي مصالحها، خاصة مع انخفاض أرباح الشركات بعد تحرير سعر الصرف في عام 2022. وقد شهد السوق المصري أزمة في سعر الدولار في فبراير 2022، حيث وصل إلى 70 جنيهاً في السوق السوداء، قبل أن يتحسن تدريجياً ليصل إلى حوالي 48 جنيهاً في مارس 2024. ومع هذا التغير، عانى السوق من أزمات متتالية شملت نقص الأصناف الحيوية وارتفاع أسعار الأدوية.
يرجع رمزي أزمة نقص علاج العقم عند السيدات إلى عدة عوامل، أبرزها الصعوبات الروتينية في الإفراج الجمركي عن المواد الخام. كما يرى أحمد فاروق، الأمين العام السابق لنقابة الصيادلة، أن شح الأدوية الخاصة بالعقم هو مشكلة متكررة تتجاوز أزمة الدولار، وتعود إلى أن هذه الأدوية غير مدرجة ضمن قائمة العلاجات المدعمة، مما يتيح للشركات رفع أسعارها بشكل مبالغ فيه.
تستمر هيئة الدواء في دراسة طلبات الشركات بخصوص رفع أسعار الأدوية التي تعاني من نقص مستمر في الأسواق، بينما تواجه العديد من النساء صعوبة في الحصول على العلاج المناسب بسبب تكاليفه المرتفعة.