حياة مع وقف التنفيذ: مسارات النزوح والمرض خلف أبواب غزة

وفي حين تدخل الحرب على غزة يومها الـ 120، لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب مزيدًا من المجازر اليومية، التي تُسقط مزيدًا من الضحايا والمصابين والمفقودين، بينما المفاوضات لا تزال جارية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وعودة النازحين من أمام معبر رفح البري إلى منازلهم في كافة مناطق القطاع. ويبقى النازحون بين حياة معلقة أو موت وشيك في انتظار قرارات لم تعلن بعد.
منار بحيري
منار بحيري

منذ السابع من أكتوبر الماضي، شهدت منطقة شمال قطاع غزة تهجير آلاف من الفلسطينيين ودَفعَهُم نحو الجنوب، حيث اضطروا لترك منازلهم المُدمّرة وحملوا أطفالهم في رحلة الفرار من قصف الاحتلال الإسرائيلي.

ومع ذلك، تواصل سُلُطات الاحتلال، الضغط عليهم للنزوح إلى أقصى نقطة بالقرب من الحدود المصرية. نحو رفح، موسعة بذلك دائرة التهجير والنزوح. وقد ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجازر جماعية خَلفّت ورائها نحو ٢٧ ألف و131 شهيد و٦٦ ألف و٢٨٧ مصاب حتى اليوم.

تواصلت “زاوية ثالثة” مع عائلات فلسطينية؛ كُتب لها النجاة من ويلات القصف، واتخذت مسارات مختلفة في سعيها للأمان، لنسرد لكم بعضًا من قصصهم، فمنهم من لجأ إلى المستشفيات باعتبارها الملجأ الأكثر أمانًا؛ في حين اختار آخرون التنقل من الشمال إلى الجنوب رغم المخاطر. وهناك من وجدوا في بيوت أقارب لهم مأوى. 

 

عائلة خضر وسرقة المساعدات

شاب أربعيني؛ كان يعيش بمنطقة “الكتيبة” في خان يونس -أحد أبرز الأحياء المستهدفة حتى اللحظة من طائرات الاحتلال بغارات عنيفة- يسرد في حديثه إلى “زاوية ثالثة”، تفاصيل ما حدث معه في الأيام الأولى من الحرب وحتى نزوحه.
“هربنا من الموت بأعجوبة في أجواء تحفها المخاطر إلى محافظة رفح دون مأوى وملابس وطعام افترشنا الأرض، يمر اليوم علينا بصعوبة حد الموت، فنحن لا نستطيع الحصول على الأساسيات الأولية الضرورية للمعيشة. من يمتلك المال فقط ينجو وما دون ذلك قد يموت جوعًا”. يقول أشرف حسين خضر، 46 عامًا، يعول أسرة مكونة من ستة أفراد، بدأت الحرب بشكل مكثف في محافظة غزة، حيث تطورت الأمور بشكل مأساوي إلى مرحلة الإبادة، ثم تدهورت الأوضاع في جنوب غزة، حيث تقدمت آليات الاحتلال وأصبحت المنطقة تحت وطأة القصف العنيف من الطائرات.

 

في مواجهة هذه الكارثة، قرر “خضر” ترك منزله بعد استهدافه من قبل الاحتلال، لكنه كان قد فقد أقاربه وأبناء عمومته وعددهم لا يقل عن 20 شهيدًا. يوضح: “ما يزيد من معاناتنا هو أن جميع المؤسسات الموجودة في محافظة رفح هي جزء من هذه الأزمة، يتم السيطرة على معظم المساعدات التي تصل إلى غزة من خلال المعبر البري لرفح من قبل وزارة الاقتصاد ومباحث التموين، وتُورد هذه المساعدات إلى المخازن الخاصة بهم ويتم عرضها على التجار بأسعار خيالية”.  


وبالرغم من نجاته من القصف يقول: “أنا وصلت لمرحلة بائسة للغاية، لا أملك المال ولا أي نوع من أساسيات ومقومات الحياة، أسكن في خيمة نايلون. وفي كتير من الأوقات أتمنى الموت حين أرى أنني لا أستطيع تلبية طلبات أولادي من الطعام والتدفئة من البرد القارص. وقد تعرّض حفيدي -عمره ثمانية أشهر- لأربع حالات تسمم نتيجة وجود حشرات في الخيمة”. 

ويظهر اليأس والعجز في حياة خضر حيث يشير إلى صعوبة العيش في ظروف قاسية جدًا: “أعجز عن شراء الحطب، الأمطار تغرق الخيمة والأطفال يرتجفون من شدة البرودة، يجب أن تتوقف حرب الإبادة من حقنا أن نعيش في سلام”. 

حسب وكالة أونروا، فقد نزح ما يصل إلى 1,7 مليون شخص (أو أكثر من 75 بالمئة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة حتى يوم 22 يناير الماضي، بعضهم عدة مرات. ويتم إجبار العائلات على الانتقال بشكل متكرر بحثًا عن الأمان. وفي أعقاب القصف الإسرائيلي المكثف والقتال في خان يونس والمناطق الوسطى في الأيام الأخيرة، انتقل عدد كبير من النازحين مرة أخرى إلى الجنوب؛ ليزداد الشريط الحدودي في رفح بين مصر وفلسطين اكتظاظًا، ما يشي بوضع كارثي على كافة المستويات.

 

لا أحد يشعر بنا

 

 Credit - Mohammed Ibrahim
Credit – Mohammed Ibrahim

 

في ظل الظروف القاسية التي تعيشها مخيمات النزوح في رفح، تشارك الرسامة آلاء الجعبري، التي نزحت من منطقة الصفطاوي شمال غزة، قصتها وتجربتها الشخصية مع الحياة في المخيم.

“الخيمة باردة”، تبدأ آلاء حديثها، مُعبرة عن الصعوبات اليومية التي تواجهها وأسرتها في المخيم، تصف الحياة هناك بأنها مليئة بالتحديات، فالكلمات تعجز عن وصف الوجع والحياة التي تغيرت بشكل جذري “نشتاق لكل شيء فقدناه، ونريد أن نحكي ونقص عن معاناتنا لكنّا فقدنا حتى تلك القدرة من هول ما مررنا به”. 

تتحدث عن الحرمان من الحقوق الأساسية وكيف أن الأحلام أصبحت ذكرى بعيدة، مشيرة إلى الشعور بالإهمال والنسيان. وتصف الوضع في مخيمات رفح بأنه مزدحم للغاية، الطرق ضيقة والمواصلات شبه معدومة، مما يجعل كل مشوار يومًا كاملاً من العناء. تتحدث عن ارتفاع أسعار الطعام ونقص الإمدادات، وكيف أن الظروف الصحية السيئة والجو الملوث تسببت في مرض الكثيرين، إضافة إلى الشعور بالعجز والألم النفسي والجسدي الذي يعتريها وأسرتها.

 

يبلغ عدد سكان مدينة رفح المجاورة للحدود مع مصر، 300 ألف نسمة، وفق آخر الإحصاءات الرسمية من بلدية المدينة، ما يجعل رفح في وضعها الطبيعي مكتظة حتى قبل وصول مليون نازح جديد أصبحوا جميعًا يعيشون في مساحة 20 كيلومترًا مربعًا. ويبلغ عدد النازحين في مراكز الأونروا 713 ألف نسمة، في حين بلغ عدد النازحين في الخيام والساحات والمنازل 268 ألف نسمة.


نجاة ووداع حلم

 

Credit: Mohammed Al Bardawilc
Credit: Mohammed Al Bardawilc

 

في مخيمات النازحين في غزة، الأطفال هم الأكثر تأثرًا وضعفًا جرّاء ويلات الحرب، يعيش المئات منهم حياةً مليئة بالصعاب والتحديات النفسية والجسدية، بعضهم فقد ذويه، وآخرون يعانون من مشاكل صحية جسدية جرّاء محاصرتهم وظروف الحرب. يبحثون عن علاج لجروحهم النفسية والجسدية، وعن طعام يملأ معدتهم. يتعايشون مع الخوف والمعاناة اليومية، وفق ياسر خضر: “خرجنا من منزلنا بأعجوبة ولم نستطع الاحتفاظ بأي شئ”.

ياسر خضر، ١٧ سنة، من خان يونس نزح إلى مخيم رفح. يصف أنه كان يدرس في مرحلة التوجيهية -توازي الثانوية العامة في مصر- وذلك قبل بداية الحرب، وكان يحلم أن يصبح مهندسًا، لكنّ الحرب أجهضت أحلامه وتوقف التعليم في قطاع غزة إلى ما لا نهاية.

 

تعطلت الدراسة في غزة تمامًا في مدارسها البالغة 796 مدرسة -حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني-؛ خاصة مع القصف المستمر للمدارس التي إما أن دُمرت أو أصبحت ملاذًا للنازحين. ووفق البيانات الرسمية فإن 304 ألف و 371 طالب أصبحوا خارج الفصل الدراسي المدرسي لهذا العام في غزة، وهم طلاب المدارس الحكومية البالغ عددهم 154 ألف و 311 طالب، وطلاب مدارس الأونروا البالغ عددهم 142 ألف و120 طالب، إضافة إلى 7 آلاف و 940 طالب هم طلاب المدارس الخاصة.

يقف ياسر بانتظار المساعدة، أو موت يخيم عليهم كل ساعة بنفاذ ما يملكونه من طعام وشراب، فخوفهم الكبير لم يكن من صواريخ العدو، التي يمكنها التهام خيمتهم. يقول: “كل يوم يموت شخص مقرب، وحتى اللحظة لا أستطيع استيعاب أننا هُجرّنا من منزلنا وأصبحنا نعيش في خيمة قارصة البرودة، مساحتها ثلاثة أمتار، يجلس فيها عشرة منا”. كنت اهتم بتوثيق جرائم الاحتلال وفي الوقت نفسه، قدمت المساعدة لجيراني، لكن عندما أشاهد والدي يجتهد من أجل تأمين الطعام والشراب لنا في هذه الظروف الصعبة، يزيد انعزالي وعجزي عن مساعدته، يبدو أنني غير قادر على القيام بأي شيء، يصف الشاب.

وفي حديثه معنا، يقول النازح من مخيم النصيرات إلى رفح فتحي أحمد مبارك، 38 عامًا، وكان يعمل موظف علاقات عامة ومصور في جامعة الأقصى بفلسطين: “منذ بداية الحرب سمعنا أصوات القصف و الارتجاجات الجنونية في كل مكان بغزة، ولا نستطيع النوم يوميًا ونحن نستمع إلى الأصوات المرعبة وشظايا الصواريخ و الطائرات والمدفعية من حولنا، وأصبح صوت ما تبقى من سيارات إسعاف عادة أساسية في يومنا وهي تنقل الضحايا”.

حسب وزارة الصحة الفلسطينية، فإنه قد تم تدمير 121 سيارة إسعاف بشكل كامل حتى يوم 29 يناير المنصرم.

يستطرد مبارك: “في منطقتنا، وهي المنطقة الوسطى في مخيم النصيرات، اقتربت الدبابات من الشرق والشمال، تحت وطأة قصف الطائرات الذي لا يتوقف. اضطررنا لترك منازلنا والفرار إلى رفح، حيث ارتفعت الأسعار بصورة مجنونة، وتجاوز جشع التجار كل حدود الإنسانية، وسط ارتفاع غير مسبوق في أسعار كل شيء”. مضيفًا أن نصف عائلته اضطرت للهرب إلى دير البلح، لكن قوات الاحتلال طاردتهم وتعرض منزل العائلة لقصف مدمر، “استشهدت زوجة أخي وابنها، وأصيب العديد من أفراد العائلة بجروح خطيرة”.

 

سُكنى الشارع

 Credit - Mohammed Ibrahim
Credit – Mohammed Ibrahim

انتقل فتحي رفقة زوجته التي كانت حامل في الأيام الأخيرة من الشهر التاسع، وأطفاله الثلاثة إلى رفح بحثًا عن الأمان والطعام، يقول “الناس هنا في رفح يعيشون حالة من الزحام المستمر، لا يوجد مكان فارغ، لجأنا إلى الجلوس في الشارع ونمنا هناك ليلتين، محاولين البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف الصعبة، ونأمل أن تأتي أيدي العون قريبًا لمساعدتنا على تجاوز هذه الأوقات الصعبة”.

النزوح الثالث لفتحي الذي استقر بمعبر رفح حتى رزق بمولوده الرابع، لكن رحلة الولادة كانت صعبة. يقول: “تعرضت زوجتي للمخاض في النهار ومشينا مسافة طويلة، تركنا الأولاد وأغلقنا المكان عليهم خوفًا من الضياع. استخدمنا للوصول إلى مستشفى الإماراتي برفح عربة يجرها حمار. كانت تتألم لساعة ونصف دون أن نجد وسيلة نقل، أو قدرة على التواصل عبر الهاتف لطلب الإسعاف”.

ويصف: “أثر الخوف والتوتر والذعر من الحرب والقصف المستمر، على وزننا وصحتنا العامة. كل يوم، نعتمد على علبة فول وعلبة جبنة لإطعام الأسرة، ومعظم أطفالي يعانون من البرد والإسهال ونزلات معوية، ولا يوجد أي نوع من الأدوية لتخفيف معاناتهم”.

 الأسرة التي لجأت إلى الاعتماد على البطاطين والمفروشات المستخدمة، المقدمة من الجيران وبعض الأصدقاء، تواجه نقصًا حادًا في الملابس والأحذية. ويظهر الوضع المعيشي الذي يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، مدى اليأس الذي يعتري الأسرة، خاصة بعد أن أصبح القصف يهدد حياتهم بشكل مباشر. “أكبر خوفنا كان عندما اقترب القصف من منزلنا، مما أدى إلى تحطم النوافذ والأبواب، وفقدنا بعض أفراد الأسرة بين شهيد ومفقود”،  بألم أضاف فتحي. في ظل هذه الظروف الإنسانية المأساوية، تظل قصة أحمد فتحي مبارك وأسرته شاهدة على الصراع اليومي من أجل البقاء.


يوسف أبو وطفة -رئيس تحرير شبكة قدس-، يلخص الوضع في شمال قطاع غزة وفي مخيمات رفح، بكلمات مؤثرة. يقول: “استشهدت أختي وزوجها و١٧ فرد من العائلة في قصف، نزحت لرفح، وأشعر بالندم لنزوحي، كنت أفضّل الموت في بلدتي، فنحن هُجرّنا سابقًا و لا نريد تكرارها ثانية”. مؤكدًا أن رفح تضم الآن قرابة 1.3 مليون نسمة على مساحة جغرافية تبلغ 20 كيلومترًا مربعًا، تشهد أوضاعًا إنسانية صعبة لا تُحتمل، يواجه السكان هنا أزمة كبيرة تتمثل في نقص حاد في مياه الشرب وتصريف مياه الصرف الصحي، إلى جانب ذلك، تنتشر أمراض وأوبئة مثل فيروس الكبد الوبائي بسرعة، ويعاني السكان من نقص حاد في الأدوية والمسكنات. ومع دخول يناير والبرودة القارصة، تزداد معاناة السكان حيث تهطل أمطار كثيفة وتزداد برودة الطقس، وبسبب نقص الموارد والدعم، يجد السكان صعوبة في توفير ملابس شتوية ومستلزمات أساسية.

وفي حين يحتاج النازحون إلى الضرورات الأساسية من كساء وطعام وشراب ودواء، اتخذت الأمم المتحدة قرارًا ببدء تحقيق فوري مع موظفي وكالة غوث اللاجئين أونروا، بعد ادعاءات قدمتها سلطة الاحتلال متهمة 12 موظفًا في الوكالة الأممية بغزة، بالاشتراك في عملية طوفان الأقصى وبأنهم عناصر متعاونة مع حماس؛ الأمر الذي أدى إلى اتجاه تسع دول غربية على رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وإيطاليا إلى الإعلان عن وقف مساعداتها للأونروا؛ ما سيؤثر على حجم المساعدات الضرورية التي تقدمها الوكالة لأكثر من 2.2 مليون فلسطيني داخل القطاع المحاصر.

 

الحصار يضيق الخناق على الرعاية الصحية

Credit: Emad El Byed
Credit: Emad El Byed


تلقت النازحة نجلة جرادة (60 عامًا)، أدويتها الخاصة بمرض السُكّري التي تعاني منه منذ 15 عامًا من المستوصف الحكومي دومًا، لكن لاحقًا دُمرّت العيادات والمشافي وتحوّل ما بقي منها إلى ملاجيء تؤوي النازحين، و بعدما نزحت إلى منطقة الزوايدة في جنوب القطاع، اضطرت لشراء بعض الأدوية البديلة، لكنّ الدواء وثمنه ليسا متوفرين دائمًا.

تحدثنا ابنتها فاطمة أبو الخير: “لقد مر أسبوعين منذ أن توقفت والدتي عن تلقي حقن الإنسولين، وحالتها تزداد سوءًا يومًا بعد يوم، وبسبب نقص العلاج، فإن مستوى السكر في جسمها يرتفع، ولا نمتلك الطعام الكافي لتناوله وموازنة السكر لديها”.

 

“إن مرض السكري هو المسبب الرابع للوفاة في فلسطين”. وبحسب تقرير لوزارة الصحة عام 2021، فإن مرض السكري يسبب ما يقارب من 10.6% من مسببات الوفاة في فلسطين. ووفقا لآخر مسح عام 2022، فإن نسبة الإصابة بالسكري للفئة العمرية 40-69 عاماً في فلسطين بلغت 20.8% من إجمالي الأفراد، 22.3% في الضفة الغربية و 18.3% في قطاع غزة. بينما زادت نسبة انتشاره بين الإناث عن الرجال، للفئة العمرية 40-69 عامًا بنسبة 24.3% للإناث، وللذكور كانت 17.3%.”     وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيلة

هذا الواقع يسلط الضوء على النقص الحاد في الموارد الطبية والعلاجية، مما يجعل الوصول إلى الرعاية الصحية تحديًا كبيرًا لسكان غزة، الذين وقعوا أسرى المجاعة والأوبئة. وفي قلب مدينة غزة، تعيش عُلا وليد وابنتها كِندة أحمد الوكيل (ثمان سنوات)، تعاني من مرض السكري من النوع الأول منذ كانت في الثالثة. تروي علا قصة عائلتها التي تنقلت بين مدن غزة، من خان يونس إلى الزوايدة ثم إلى رفح، هربًا من القصف الذي دمر منزلهم في 18 أكتوبر الماضي. وتشير إلى أن ابنتها تعتمد على أقلام الإنسولين من نوعي Novorapid و Lantus، بالإضافة إلى شرائح لقياس السكر، للبقاء قيد الحياة، وكانت تحصل عليه من عيادة الوكالة والإغاثة الطبية الفلسطينية، لكنّ الأوضاع المستمرة جعلت الحصول على الأدوية تحديًا كبيرًا، خاصة بعد نفاد مخزونها. وقد تضطر لاستخدام الإبر المتاحة كبديل لكنها تخشى من مخاطر عدم تحديد الجرعة الصحيحة ودخول ابنتها في غيبوبة.

تعليقًا، يقول الدكتور هشام الحفناوي -عميد المعهد القومى لأمراض السكر في مصر-، إن توفير الأنسولين لمرضى السكر في قطاع غزة أمر ضروري لا سيما بالنسبة للمرضى من النوع الأول، الذين يعتمدون عليه بشكل كامل للتحكم في مستويات السكر في الدم. مضيفًا في حديثه إلى “زاوية ثالثة” أن الأنسولين بالنسبة لهم أهم من الطعام، ولا يمكنهم العيش دونه، ويؤدي نقص الأنسولين إلى مضاعفات خطيرة، بما في ذلك غيبوبة السكر، والتي يمكن أن تكون قاتلة.

ويستكمل: مرضى السكري من النوع الثاني، يعتمدون على الأنسولين بشكل جزئي، ويمكنهم التحكم في مستويات السكر في الدم عن طريق اتباع نظام غذائي صحي وممارسة الرياضة، ولكنهم ما زالوا بحاجة إلى الأنسولين في بعض الأحيان.

فيما يلقى الدكتور موسى عابد -مدير عام الرعاية الأولية في قطاع غزة-، الضوء على الوضع الصحي المتدهور في القطاع. ووفقًا له، يعاني أكثر من 120 ألف مريض مزمن، يصنف أغلبهم من النوع الثاني من الأمراض المزمنة، ويشكل مرضى السكري نحو 30% من إجمالي الأمراض غير السارية، أي ما يقارب 30 ألف حالة، موزعين بين النوع الأول والثاني. بينما تشير منظمة الصحة العالمية إلى وجود 71 ألف مريض مصاب بالسكري في فلسطين بأكملها.  

ويشير في حديثه معنا إلى أن حوالي 90% من أدوية الأمراض المزمنة غير متوفرة في قطاع غزة، أو أن مخزونها وصل إلى الصفر، هذا يعني أن أقل من 10% من الأدوية اللازمة متوفرة للمرضى، ما يضعهم في وضع حرج ويزيد من صعوبة التحكم في أمراضهم المزمنة. مستطردًا: “المرضى يواجهون مضاعفات خطيرة، مثل قدم السكري، غيبوبة السكر، أمراض القلب، قصور الشرايين الطرفية، السكتة الدماغية، وحتى الوفاة، وقد تضررت 80% من مراكز الرعاية الأولية بسبب غارات الاحتلال”.

لم يتمكن “عابد” من تقديم أرقام دقيقة بشأن عدد الوفيات التي تسببت بها هذه الأمراض خلال فترة الحرب، نظرًا لإغلاق المستشفيات وتوقفها عن تقديم الخدمات، ووفقًا له، لم يتم تسجيل العديد من الوفيات بسبب تضرر المرافق الصحية.

 

مبادرة لتوفير الأنسولين

 

صيدلية خلال الهجوم البري © 2023 عادل حنا/ أسوشيتد برس
صيدلية خلال الهجوم البري © 2023 عادل حنا/ أسوشيتد برس

 

صبا ماجد الجعفراوي -صحفية غزيّة-، حاولت مساعدة مرضى السكري من خلال مواقع التواصل الاجتماعي لتسهيل الوصول إلى المرضى وإعلامهم بمراكز تواجد الأدوية أو تقديمها لهم. تقول: “أعمل جاهدة لمساعدة المرضى، ومع ذلك، فإن وضع الأدوية في غزة يعد صعبًا للغاية، الطلب على الأدوية كبير، والكميات المتوفرة قليلة بالنسبة للاحتياجات”.

وتضيف في حديثها إلى “زاوية ثالثة”: كان الأنسولين أهمهم وبالتعاون مع اثنتين من السيدات، قمنا بمبادرة شخصية لتقديم المساعدة، فإن الأدوية صعبة التوفر في قطاع غزة إلا عن طريق الجهات الرسمية مثل وزارة الصحة أو وكالة غوث وتشغيل اللاجئين “أونروا”. وبناء على بحثي، فإن البديل المتوفر في عيادات وكالة الأونروا ليس مناسبًا لجميع الحالات.

 وعن  العقبات التي تواجهها تقول: على الرغم من أننا قد نتوصل إلى العلاج المطلوب، إلا أنه قد يكون في منطقة بعيدة، وبسبب الحرب وقطع الطرق وصعوبة وسائل النقل، قد لا يصل العلاج إلى المرضى، إضافة إلى ذلك، أثّر قطع الاتصالات بشكل كبير، فقد تتمكن من توفير العلاج لحالة ما، ولكن بسبب انقطاع الاتصال، يتعين عليك الانتظار حتى يتم استعادة الاتصال لتتمكن من إبلاغ الحالة.

 قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها “حصار غزة يعرّض مرضى السكري للخطر”، إن عشرات الآلاف من سكان غزة الذين يعتمدون على الأنسولين لتنظيم السكري، لم يعد بإمكانهم الحصول عليه، نتيجة للحصار الذي تفرضه حكومة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع. وقد انخفض عدد الشاحنات التي تدخل غزة من 500 شاحنة يوميًا إلى الصفر على مدى شهور. في حين تدخل كل فترة عدد ضئيل من الشاحنات، بعضها يحمل مساعدات دوائية غير كافية.

وخلصت المنظمة في تقريرها أن الحصار يمنع دخول ما يكفي من الأدوية إلى غزة، ويعطل التبريد اللازم للأنسولين. واصفة الحصار بأنه عقاب جماعي للسكان المدنيين، و جريمة حرب.

 

وفي حين تدخل الحرب على غزة يومها الـ 120، لا تزال قوات الاحتلال الإسرائيلي ترتكب مزيدًا من المجازر اليومية، التي تُسقط مزيدًا من الضحايا والمصابين والمفقودين، بينما المفاوضات لا تزال جارية للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وعودة النازحين من أمام معبر رفح البري إلى منازلهم في كافة مناطق القطاع. ويبقى النازحون بين حياة معلقة أو موت وشيك في انتظار قرارات لم تعلن بعد.

 

منار بحيري
منار بحيري
صحفية مصرية

Search