المراهنات الرياضية في مصر: بين حلم الثراء السريع وواقع الخسارة والديون

يلجأ بعض الشباب المصري إلى المراهنات الرياضية أملًا في الثراء السريع وتحسين أوضاعهم المعيشية في ظل ارتفاع معدلات البطالة والتضخم وتدني الأجور.
Picture of آية ياسر

آية ياسر

“قيراط حظ، ولا فدان شطارة”.. هكذا يقول المثل الشعبي، الذي آمن به “عادل عبدالرحمن” حين قرر قبل عام من الآن أن يدخل إلى عالم تطبيقات المراهنات الرياضية، يراهن على مباريات كرة القدم، آملًا أن يساعده الحظ على تحسين وضعه الاقتصادي وأحوال أسرته، في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة والتضخم المتزايد وارتفاع معدلات البطالة.

“عادل” صاحب الأعوام الـ36، المقيم بالجيزة كان يعمل بنّاءًا، قبل أن يصدر قرار وزير التنمية المحلية رقم 181 لسنة 2020 بوقف إصدار التراخيص الخاصة بإقامة أعمال البناء، وحينها وجد نفسه مضطرًا لإيجاد مورد رزق آخر تقتات منه أسرته؛ فهو يعول زوجته وثلاثة أطفال ووالديه المسنين، فأصبح عامل يومية يحمل “شكائر” الإسمنت والرمل وينقل الأثاث، لكنّ عمله الذي يجني منه أجرًا يتراوح بين 200 إلى 300 جنيه يوميًا (ما يوازي نحو 4.1 – 6.2 دولار أمريكي)، ليس منتظمًا ومرهقًا للغاية، ولا يكفي لسد احتياجات أسرته.

وتعاني الكثير من الأسر المصرية تداعيات التضخم الذي قفز إلى 35.7% في فبراير 2024، بحسب الجهاز المركزي للإحصاء، إضافة إلى خفض قيمة الجنيه المصري والذي بدأ منذ نهاية عام 2016، وتكرر في عام 2021، ثم في مارس 2024؛ حيث قفز الدولار في السوق الرسمية، ليلامس سقف 50 جنيهًا للدولار، إلى أن استقر حاليًا عند 47.9 جنيهًا مقابل دولار واحد.

وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن معدل البطالة، بلغ 6.9% في الربع الرابع من 2023، ووفقًا لبيانات القوى العاملة فقد سجل معدل البطالة مستوى 9.7% في الحضر في كلاً من الربع الأخير والربع السابق من عام 2023، وفي الريف سجل معدل البطالة مستوى 4.8% في الريف

الثراء المفاجئ الذي ظهر على صديق عادل، جعله يتساءل عن السر، يخبره صديقه بفوزه بمبلغ مالي كبير بسبب مراهنته على مباريات كرة القدم، في إحدى تطبيقات المراهنات الرياضية. هنا لاحقه الفضول بشأن التطبيق وأغراه المال ليخوض التجربة.

“أعرف أنها مقامرة، فوز أو خسارة، لذا لم أجازف بمبلغ كبير، راهنت في البداية بمبالغ صغيرة ثم أخذت في الرهان بمبالغ أكبر فأكبر”. يحكي عادل؟

يعرف الرهان الرياضي بكونه نشاط للتنبؤ بالنتائج الرياضية ووضع رهان على النتيجة؛ إذ يضع المراهنون الرياضيون رهاناتهم إما بشكل قانوني من خلال مراهن/ كتاب رياضي، أو غير قانوني من خلال مؤسسات يديرها القطاع الخاص يشار إليها باسم “وكلاء المراهنات”.

 

ديون وخسائر فادحة

لم يحقق “عادل” الثراء السريع الذي حلم به، وتسببت التطبيقات نفسها في تدمير حياة ومستقبل “حسن محمد” ذا الأعوام الـ20، الذي انتقل من المنصورة، منذ عامين للعيش في سكن طلبة في بولاق والدراسة بجامعة القاهرة.

بعد وقت قصير من التحاقه بالجامعة تعرّف “حسن” عبر زميل له على تطبيقات للمراهنة الرياضية، بدا الأمر له مغريًا. في البداية حقق ربحًا متتاليًا أغراه بالمقامرة بالمزيد؛ فأودع على التطبيق مصروفات الكتب والملخصات الدراسية ونفقاته الشهرية التي أرسلها له والده، وراهن على عدد من المباريات فاز بأغلبها، لكنه لم يكتف بذلك وأراد تحقيق ثروة تُمّكنه من تحقيق بعض من أحلامه.

وأقنع زملائه من الطلاب المغتربين الذين يشاركونه السكن لينخرطوا معه في المراهنات، وأيضًا شقيقته بمنحه مبالغ مالية كبيرة يراهن بها على أن يقتسما الأرباح، ودفعت الأرباح السهلة وإلحاح “حسن” عليها، الشقيقة الكبرى إلى بيع شقتها ومنحه قيمتها، وهنا وقعت الكارثة.

“كنت أجني مكاسب نتيجة المراهنة على النتائج الجماعية للمباريات، أو ما يُعرف بالقسائم، لكنها تبقى في النهاية مقامرة واحتمالات الخسارة موجودة وهو ما حدث معي بعد عشرة أشهر من المكاسب؛ فخسرت ما جنيته وبددت أموال شقة أختي، وخشيت إخبارها بالحقيقة فلفقت لأهلي كذبة السفر للدراسة والعمل في اليونان، للحصول على مال أقامر به”.. يقول “حسن”.

يحكي الطالب الجامعي كيف أقنع والديه ليقوما باقتراض 100 ألف جنيه من إحدى شركات التمويل في المنصورة (نحو ألفي دولار)، ويوقعان ويبصمان على إيصالات أمانة، ظنًا أنهما يؤمنان بذلك مستقبل ابنهما الذكر الوحيد وأنه سيجني المال من العمل باليونان، ويرسل لهما المال لسداد الدين، ثم يشتريان جهاز شقيقتيه وأن الوضع المالي والاجتماعي للأسرة سيتحسن.

“حصلت على المال الذي اقترضته من والداي وأوهمتهما بأني سأسافر، ثم راهنت به فخسرت مرتين متتاليتين 180 ألف جنيه (نحو ثلاثة آلاف و 754 دولار)، لم يمض وقت طويل حتى أدركت شقيقتي الأمر، وافتضحت كذبتي، لتقاطعني العائلة بأكملها، ولم أعد قادرًا على السفر لقريتي التي فُضح بها بأنني مقامر وكاذب وسرقت مال أهلي وبددته، كما خسرت أصدقائي بسبب المراهنات، وأصبحت مضطرًا للعمل نادلًا في مقهى؛ لأجني راتب شهري هزيل لأنفق على دراستي وسكني بالقاهرة”.. يضيف حسن.

لا توجد إحصائيات أو معلومات رسمية عن أعداد مستخدمي تطبيقات القمار والمراهنات الرياضية في مصر، أو حجم تداول المستخدمين المصريين للأموال من خلالها.

 

عرضة للإدمان

هناك شخصيات بطبيعتها أكثر ميلًا من غيرها لإدمان المراهنات والقمار، بحسب ما يوضح الدكتور جمال فيروز – استشاري الطب النفسي وأمراض المخ والأعصاب-، كـ الشخصيات السيكوباتية التي تتسم بالسلبية واللامبالاة وعدم الاهتمام بعواقب التصرفات ونقص المشاعر، ويميلون لإدمان المخدرات وارتكاب الجرائم، إضافة للشخصيات الحدية، مضيفًا أن غالبية من ينجرفون لإدمان تطبيقات المراهنات والمقامرة، هم من المراهقين والشباب حديثي السن الذين يعانون من اضطراب في التواصل مع الأسرة.

ويُبين “فيروز” أن التشويق الذي تسببه هذه المواقع يجعل الشخص مدمنًا عليها، لا سيما إذا كان حديث السن لديه عناد ورغبة بـ الفوز، ما يدفعه للإقتراض ثم السرقة لإشباع هذه الرغبة لديه، مشيرًا لكونه عالج مؤخرًا نحو 30 حالة لمرضى أدمنوا تلك التطبيقات، تتراوح أعمارهم بين 12 -30 عام، معظمهم من المراهقين وتطلب الأمر حجز بعضهم في مستشفى نفسي، لعزله عن الإنترنت والأجواء المشجعة على الإدمان.

ويعتبر الدكتور سعيد صادق – أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة مصر اليابان-، أن اللجوء إلى مواقع وتطبيقات المراهنات والمقامرة، يرتبط بأحلام البحث عن الثراء السريع والتي ليست بمعزل عن الثقافة العربية على مرّ التاريخ، إذ عرفت أساطير وحكايات شعبية لأبطال فقراء يحققون ثراءًا سريعًا مثل: علاء الدين والمصباح، وخاتم سليمان، لافتًا إلى أن المقامرة كانت موجودة في المجتمع المصري خلال فترة الأربعينات، لكنها كانت قاصرة على طبقة الأثرياء والأجانب، بينما تسبب الانفتاح ووجود الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي في جعل المراهنات والمقامرة الأونلاين أمرًا سهلاً، وينجرف البعض إليها نتيجة التأثر بالأصدقاء والدوائر الاجتماعية المحيطة ومحاولة مجاراة المستوى المادي لهم وقدرتهم الشرائية.

ويؤكد صادق خطورة المراهنات والمقامرة على الأسرة والمجتمع، لكونها تتسبب في مشكلات إجتماعية وأخلاقية نتيجة إدمانها، وقد تصل بصاحبها إلى حد الغرق في الديون أو ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون كالسرقة ليمارس المقامرة ويحاول تعويض خسائره .

 

مُجرّمة في القانون

الدكتور عادل عامر – الخبير القانوني ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والاقتصادية-، يؤكد أن المراهنات والقمار مجرم في القانون المصري، وبالتالي لا تحصل المواقع الإلكترونية الخاصة بها على تراخيص مصرية، لكنها رغم ذلك تحولت إلى ظاهرة في المجتمع المصري، في ظل التقليد العالمي للمراهنات الرياضية التي أصبحت جزءًا من التسويق للمباريات، وما قام بتغذيتها في مصر انتشار الفقر والبطالة في ظل الأزمة الاقتصادية، داعيًا إلى تقنين تطبيقات المراهنات عبر إجراء تعديلات على القانون الصادر في عام 1955.

يُجرم القانون المصري القمار والمراهنات حيث تقول المادة 352 من قانون العقوبات ” كل من أعد مكاناً لألعاب القمار وهيأه لدخول الناس فيه يعاقب هو وصيارف المحل المذكور بالحبس وبغرامة لا تجاوز ألف جنيه وتضبط جميع النقود والأمتعة في المحلات الجاري فيها الألعاب المذكورة ويحكم بمصادرتها.

ويرى الخبير الاقتصادي الدكتور أحمد شوقي – عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والتشريع والإحصاء-، أنه في ظل الأزمة الاقتصادية الراهنة وارتفاع معدلات التضخم، جعل الكثير من المواطنين بحاجة لجني الربح بأي وسيلة بسبب الوضع الاقتصادي، أدى لخلق ظاهرة الإقبال على مواقع المراهنات والقمار في مصر، والتي تصب في خانة الاقتصاد الخفي وتؤثر بالسلب على الاقتصاد الرسمي للدولة؛ حيث تؤدي إلى نقص الإنتاج ولا تنتج عنها قيمة مضافة تصب في خزينة الدولة، محذرًا من أن تلك المواقع بها مخاطرة كبيرة؛ حيث تنتج عنها خسائر كبيرة كما تؤدي لمكاسب كبيرة، مبينًا أن البعض يركضون أيضًا وراء العملات الرقمية لا مركزية المصدر أو التعدين وتعمل بآلية واحد لواحد، ولا توجد ثقة في التعامل بها وتحمل مخاطرة كبيرة، وتعد ملاذ رئيس لغسيل الأموال.

ويضيف: يذهب البعض لتطبيقات استثمار وتداول أمال غير مرخصة وغير موثوقة، تقع ضمن الاقتصاد غير الرسمي الذي يزيد من التضخم، ويقوم بعضها بالاحتيال على المواطنين، لافتًا لكون البعض يقترضون من شركات التمويل ليقوموا بالمراهنة أو تداول الأموال عبر الإنترنت، ثم يخسرونها ويعجزون عن سدادها، مما يخلق مشكلة الديون المتعثرة في محفظة التمويلات والتي حين ترتفع نسبتها تؤدي لإفلاس الشركات المالية غير المصرفية، ويضر بالناتج المحلي.

وفي الوقت الذي لا يزال فيه العديد من الشباب في مصر مهووسون بـ المراهنات الرياضية ويعتبرونها ملاذًا لهم في ظل الظروف الاقتصادية، فإن آخرين لا يزالون يعانون من العواقب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية الناتجة عن إدمانهم للمراهنات، وتبقى الظاهرة جديدة بالنسبة للمجتمع المصري، وتحتاج إلى تسليط الضوء عليها، وإجراء الأبحاث والإحصائيات حولها ونشر الوعي بشأن مخاطرها المحتملة، لكنها تبقى في النهاية أحد عوارض الآثار الجانبية للأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search