هل تغيّرت السعودية؟.. المسيحيون المصريون يختبرون حدود الانفتاح الديني

المسيحيون في السعودية والتحديات التي يواجهونها في ممارسة شعائرهم الدينية، والتساؤلات حول مستقبل الحرية الدينية في المملكة.
زاوية ثالثة

في عام 2007، احتجزت السلطات السعودية الطبيب المصري ممدوح الفل (مسيحي الديانة)، الذي عمل كـ إخصائي جراحة. اتهمته السعودية بحيازة كتاب مقدس والتبشير بالمسيحية في المملكة، إضافة إلى اتهامه بشرب الخمر والتحرش بالنساء. وقد أُوقف عن العمل وحكم عليه بالجلد 20 جلدة.

تحول احتجاز الطبيب المصري إلى قضية رأي عام بفضل تقارير منظمات حقوقية وأخرى متعلقة بأقباط المهجر (منظمات معنية بقضايا المسيحيين المصريين في الخارج). وواجهت الرياض ضغوطًا شديدة، لعب فيها فوزي العشماوي – سفير مصر في الرياض آنذاك-، دورًا هامًا للإفراج عن الطبيب المصري، غير أن السعودية وقتها هددت بترحيل ما يصل إلى خمسة آلاف عامل مسيحي مصري إذا ما حدثت تجمهرات احتجاجية أمام أبواب السفارات السعودية بالخارج. انتهت القضية بعودة الطبيب المصري إلى القاهرة بعد الإفراج عنه دون تنفيذ الحكم الصادر ضده.

منذ ذلك الحين، تسببت الواقعة في تخوف المسيحيين المصريين من إظهار أي طقس ديني خاصة أثناء العمل. يقول محمود خليل (اسم مستعار لمصري مقيم بالسعودية رفض الإفصاح عن هويته خوفًا من الترحيل)، في حديثه إلى زاوية ثالثة: “رافقت في محل سكني زميلًا مصريًا مسيحيًا، لكني لم أسمعه يتحدث عن الأمور الدينية نهائيًا أو يُظهر أي رمز أو طقس ديني فقط يصلي في صمت. وعلمت أن زميلًا غيره، فضّل تغيير ديانته قبل أن يأتي إلى المملكة، كي يتمكن من العمل هنا، ورغم ذلك أراه يشاهد البرامج التلفزيونية المسيحية ويُصلي”. يُشير “خليل” هنا إلى مدى القمع الديني الذي يواجهه المسيحيون واضطرارهم إلى إخفاء هويتهم وطقوسهم الدينية منعًا للملاحقة الأمنية أو الترحيل إلى خارج المملكة.

 

جذور الأزمة

رفضت السلطات السعودية حتى الماضي القريب، إقامة شعائر دينية جماعية لغير المسلمين في المملكة. في عام 2008، حاولت الفاتيكان السماح للمسيحيين الأجانب العاملين فيها، بممارسة شعائرهم الدينية عن طريق بناء كنيسة لهم، ولاقت هذه المحاولات رفضًا قاطعًا من قبل شيوخ الإسلام السعوديين، إذ أن رئيس المنتدى الإسلامي العالمي للحوار حامد الرافعي، قال إن الرياض أبلغت الفاتيكان بعدم جواز بناء كنائس داخل المملكة، إضافة إلى كبار الشيوخ والعلماء الذين رأوا أن السعودية مواطنيها مسلمين فقط؛ ما يؤدي إلى منع بناء كنائس للعمال والوافدين الذين يعودون في نهاية المطاف إلى بلدانهم.

ادّعى سفير الفاتيكان في الخليج منجد الهاشم، في العام 2008، أنّ عدد المسيحيين في المملكة ربما وصل إلى نحو أربعة ملايين مسيحي؛ لكن السلطات السعودية نفت الأمر، مؤكدة أن كل المواطنين السعوديين مسلمين، وأن غالبية العمال الوافدين من المسلمين، وربما هناك بعض من المسيحيين لكن الرقم لم يصل إلى ملايين.

ووفق تقرير لرويترز في عام 2010، فإن السعودية حوت أكبر تجمُّع مسيحي في دول مجلس التعاون الخليجي. إلا أنه يصعب تحديد التركيبة السكانية من الناحية الدينية بدقة في المملكة العربية السعودية؛ فجميع المواطنين مسلمين في نظر الدولة، ويُعتقد أن هناك مليون ونصف المليون مسيحي على الأقل يعيشون في البلاد.

وحسب تقرير مفوضية الولايات المتحدة للحريات الدینیة الدولیة (يرصد حالة الحريات الدينية في المملكة في عام 2020)، فإن السعودية موطن لنحو 35 مليون فرد، أغلبهم من أهل السنة، فيما يُمثّل المنتمين للمذهب الشيعي من السكان الأصليين نحو 10-15%، بينما لا يوجد سعودي الجنسية يحمل ديانة غير الإسلام؛ لكنّ المقيمون المغتربون يشكلون نحو 37% من عدد السكان، ومنھم ما لا يقل عن ملیوني فرد من المسیحیین والھندوس و البوذیین و السیخ وأتباع الديانات الشعبية، إضافة إلى اللادينيين.

وبالعودة إلى تاريخ السعودية وعلاقتها بالمسيحية قبل الانفتاح الثقافي؛ نجد أن ظهور الدعوات المتشددة لهدم الكنائس في منطقة شبه الجزيرة العربية بدأ في مطلع عام 2012، بعد فتوى أصدرها عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ – مفتي عام السعودية آنذاك-، إذ دعا إلى إخلاء الجزيرة العربية من كل معابد الأديان الأخرى. يأتي ذلك مناقضًا لما تبنته المملكة في عام 1990، حين رعت اتفاق “الطائف” في لبنان بين الفرقاء السياسيين من أجل الحوار وترك السلاح، ما دفع برلمانيين أوروبيين لتوجيه سؤالًا هامًا إلى وزير العدل السعودي، محمد العيسى، في عام 2013، حول السماح بإقامة دور عبادة لغير المسلمين داخل المملكة، وحصل البرلمانيون على رد بأن السعودية لن تسمح بذلك لأنها مهد مقدسات الإسلام؛ ما ترتب عليه توجيه انتقادات واسعة لحكومة الرياض بأنها لا تسمح بممارسة حرية الاعتقاد.

 

مسيحيون يعتنقون الإسلام من أجل العمل في موسم الحج

يتطلب موسم الحج في المملكة، زيادة العمال، للقدرة على خدمة الحجاج، ومن المعروف أن مواسم العمل كالحج في السعودية ترتفع فيها أجور العاملين، فكيف للعامل المسيحي أو غير المسلم أن يستفيد من هذه الزيادة داخل المملكة؟.

يجيب على هذا السؤال أيوب يونس (مسيحي مصري يعيش في الرياض- اسم مستعار)، شاهد على وقائع تغيير الديانات الصورية. يضيف: “كان المسيحيون يدخلون مكة والمدينة مستترين خلف أوراق ثبوتية غُيرت فيها الديانة بشكل صوري من المسيحية إلى الإسلام وشاهدت وقائع بنفسي”. 

يذكر “يونس” بالتحديد موسم الحج لعام 2018، إذ احتاجت فيه إحدى شركات الكهرباء العاملة في الأماكن المقدسة، الاستعانة بمهندس متخصص في وحدة الطوارئ. كان وقتها عدد المهندسين بالشركة محدود ولا يوجد مهندس مسلم يفي بالغرض. يضيف: “الشركة أرسلت مهندس فلبيني مسيحي الديانة، لم يكن هناك وقت لتغيير الديانة بشكل صوري كالمعتاد”.

يستطرد: كانت شركة “بن لادن للمقاولات” تدير مشروع توسعة الحرم والإنشاءات بداخله، وقد اعتمدت على عمال مسيحيين بنسبة 25%. لكنها عدّلت الديانة في أوراقهم كي يُسمح لهم بدخول الحرم للعمل، مؤكدًا أن تغيير أوراق الديانة كان يتم في أوراق إقامة العامل فقط، بينما تظل الديانة الأساسية كما هي بجواز السفر دون أي تغيير. 

سافر عادل عبد المسيح، (اسم مستعار، 54 عامًا، مهندس مسيحي مصري مقيم بفرنسا)، إلى السعودية عام 2005، مرسلاً من إحدى الشركات الفرنسية للعمل هناك مدة عام، لاحظ أن السعوديين يثقون في العُمّال المسيحيين المصريين والأجانب مقارنة بالعمال المسلمين الوافدين، يستشهد في حديثه معنا بواقعة مديره الفرنسي الذي يُدعى (ألين كوتر هومي)، إذ اعتنق الإسلام من أجل العمل داخل الحرم المكي وأطلق على نفسه اسم عبد الله، ثم حصل على مكافأة وقتها نحو 50 ألف ريال سعودي. يضيف: “بعد عودته إلى وطنه فرنسا عاد لممارساته القديمة؛ ما أكد أن إسلامه كان صوريًا فقط من أجل تتمة العمل”.

يسري الأمر ذاته على المسجد النبوي بالمدينة المنورة؛ إذ يُمنع دخول غير المسلمين إلى ساحة أو محيط المسجد. هذا ما يلاحظه الزائر من خلال اللوحات المرورية والإرشادية في الطرقات المؤدية للأماكن المقدسة هناك؛ لكن منذ عام تغيرت اللافتات وأزيلت عبارة للمسلمين فقط التي دونت عليها سابقًا (كان ذلك يُحدد الهوية الدينية لمن يُسمح لهم بالدخول في طريق المدينة والوصول إلى الحرم النبوي)، ووضع بدلاً منها لوحات تحمل كلمة “إلى حد الحرم” أو “حد الحرم” وهو الطريق المؤدي إلى المسجد النبوي.

أيضًا- أُزيلت اللوحات الموضوعة بالحرم المكي، ولم تصدر السلطات السعودية أية قرارات رسمية بشأن اللوحات الإرشادية الجديدة، التي حظيت باهتمام كبير من قبل السعوديين أولًا، إذ رحّبوا بها واعتبروها خطوة هامة لنشر قيم التسامح الديني.

 في الماضي كانت هذه الأماكن محظور دخولها لغير المسلمين تمامًا وكان من يريد دخولها من المسيحيين يحتاج إلى تدخل من مسؤول كبير. يقول تامر فتحي  (اسم مستعار لمهندس مصري مقيم بالسعودية) في حديثه إلى زاوية ثالثة: “صديقي البريطاني حكى لي أنه دخل الحرم دون صعوبة، لأنه كان يعمل مع مواطن سعودي يحتل منصب كبير في المملكة، وأراد أن يصنع معه معروفًا على طريقته الخاصة؛ فأدخله الحرم المكي وقت حظر دخول غير المسلمين”.

 

هيئة الأمر بالمعروف وملاحقة المسيحيين 

تسببت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملغاة في 2014، في ترحيل 12 عاملًا مسيحيًا إثيوبيًا بعد أن تم القبض عليهم في منطقة الدمام يستخدمون منزلًا لإقامة طقسًا مسيحيًا. وفي 2018، وصلت رسالة تحذير إلى الواعظ الإنجليزي جويل ريتشاردسون، بعد أن اجتمع بعدد 25 أمريكيًا مسيحيًا غرب المملكة بجبل اللوز، وهو يقرأ لهم نصوصًا من الكتاب المقدس؛ ما دفع الحكومة الأمريكية ممثلة في نينا شيا – المفوضة الأمريكية للحريات الدينية في العالم-، إلى أن تطلب إنهاء الحظر على الكنائس، والسماح ببناء كنيسة للمسيحيين يمارسون فيها شعائرهم الدينية؛ لكنها دومًا ما كانت تواجه بالرفض. 

وفي ظل حكومة دونالد ترامب – الرئيس الأمريكي السابق-، التقى مستشار الرئيس الأمريكي الديني بالأمير محمد بن سلمان، ومعه مجموعة من الإنجيليين الذين جاءوا من أجل تغيير وتحسين أوضاع المسيحيين العاملين في السعودية، على رأسهم جويل روزنبرج الإنجيلي البارز، وحسب ما صرح به لشبكة فوكس نيوز الأمريكية، فإن هذا الحدث استثنائي إذ لم يسبق للمسيحيين الإنجيليين دخول الديوان الملكي السعودي منذ ثلاثة قرون. 

 لكن هل استمر هذا الوضع أم أن هناك ثمة تغيرات طرأت على أجندة السعودية الجديدة ورؤيتها 2030؟ 

 

أول قداس مسيحي بالسعودية 

لم تعرف المملكة السعودية منذ تأسيسها إقامة صلوات جماعية غير إسلامية أو قداس لأي كنيسة من قبل، إلا أن ديسمبر من عام 2018، شهد إقامة أول قداس كنسي في الرياض، وترأّسه الأنبا مرقس – مطران الكنيسة الأرثوذكسية المصرية بمنطقة شبرا الخيمة وتوابعها.

وكان الأنبا مرقس قد حمل معه من القاهرة، اللوح المقدس للصلاة عليه، وأواني المذبح وأغراض أخرى خاصة بالقداس، وقيل إن القداس أقيم في بيت مواطن مصري مسيحي مقيم في السعودية، بينما ذكر البعض أن القداس أقيم في قاعة تم استئجارها. وقد حظي القداس المسيحي في السعودية الذي تم بالتنسيق بين الحكومة المصرية وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بتغطية إعلامية كبيرة، نظرًا لأنه كان بمثابة حلم وتحقق.

فتح القداس المسيحي المصري بالمملكة، أبواب الأمل أمام المسيحيين المقيمين بها، والراغبين في ممارسة صلواتهم دون خوف أو حذر، كما شعر عماد، المحاسب المصري الذي أجبرته الظروف الاقتصادية السيئة على السفر للعمل في السعودية، فبات شديد الحذر من ممارسة أي شعائر دينية جهرًا. يضيف في حديثه معنا: “من خلال مواقع التواصل الاجتماعي استطعت أن أكتشف منزلًا للصلاة سرًا، كان أمرًا محزنًا بالنسبة لي، لكني تأقلمت على الوضع حتى لا أخسر عملي”. 

“نعم اقترب موعد بناء أول كنيسة للمسيحيين في السعودية، لتكون خارج مكة والمدينة”، هذا وفق ما صرح به القمص عبد المسيح بسيط – راعي كنيسة العذراء المصرية في مسطرد-، خلال مداخلة هاتفية له مع إذاعة بي بي سي البريطانية، ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن لم تتخذ السعودية أي خطوات رسمية في بناء كنيسة بها، بالرغم من الاتفاق السابق على بناء كنيسة في عام 2014، خلال لقاء جمع بين السفير السعودي في مصر، أحمد قطان، وبابا الكنيسة الأرثوذكسية بالإسكندرية، تواضروس الثاني. 

تعليقًا، يشير ياسر سعد -المحامي الحقوقي-، في حديثه إلى زاوية ثالثة، إلى الاتفاقيات الدولية – لاسيما اتفاقيات العهد الدولي- الذي يحمي حرية العقيدة وحرية ممارستها، ويضيف: “دائمًا هناك إشكاليات اجتماعية متعلقة بالممارسات الخاصة بالعقيدة بالنسبة للمسيحيين، وهذا ما يفسر تقصير الدولة المصرية في حماية حقوق مواطنيها العاملين بالخارج خاصة دول الخليج”.

ويشدد “سعد” على ضرورة وضع نص قانوني ينص على عقوبة انتهاك الحق في ممارسة العقيدة وممارستها، خاصة في ظل وجود مواد ضد التمييز الديني في الدستور المصري، موضحًا أنه لم يصدر أية إجراءات في تفعيل عمل المفوضية المنصوص عليها دستوريًا لممارسة اختصاصاتها التشريعية، ولم تقدم الحكومة المصرية أي قانون بشأن عملها؛ فأصبحت مجرد نص دستوري معطل. مؤكدًا: “هناك تراجع شديد في حماية المصريين بشكل عام؛ ما يعني أن عدم حماية الأقليات وحقوقهم أمرًا متوقعًا”. 

وحتى الآن.. تطرح على تساؤلات هامة حول ما إن كانت المملكة العربية السعودية سوف تسمح للعاملين والأجانب المقيمين بها من غير المسلمين (ومنهم المسيحيون المصريون) بحرية ممارسة الشعائر الدينية المختلفة على أرضها؟ وما إذا كان الحديث المعلن منذ العام 2021 ببناء أول كنيسة بالمملكة سينفذ بالفعل أم أن الإصلاحات داخل المملكة لا تزال شكلية؟

Search