عيد المساخر.. الدين في خدمة المذبحة!

لماذا يُدان العربي لأنه “لوث” ثياب الصهيوني بدمه في أثناء اعتداء الأخير؟
محمود ليالي

 

“الأمر لم يتغير عن العصور القديمة، هي الحرب نفسها، ونحن متحدون أيضًا، وبالطبيعة نحن نقاتل لننتصر، ولذلك سوف ندخل رفح ونحقق النصر الشامل، ومثلما قضينا على هامان قديمًا، سنقضي على يحيى السنوار أيضًا، عيدًا سعيدًا لكم”! 

بنيامين نتنياهو، في تصريحات بتاريخ 24 مارس 2024، أي قبل ساعات من بدء الاحتفال بعيد “البوريم.

حسنًا؛ لا بدّ أنّ هناك عديدًا من الأسئلة تدور في ذهنك في تلك اللحظة، أسئلة من قبيل؛ من هو هذا “الهامان”؟ هل هو “هامان” موسى، أم مجرّد هامان آخر؟ وما هو عيد “البوريم”؟ وما هي نوعيّة “المساخر” الّتي يرتكبها الصهاينة في هذا العيد تحديدًا؟ ولماذا؟ ولصالح من؟ وما هو النصر الّذي حقّقه اليهود قديمًا؟ وفي أيّ فترة تاريخيّة؟ وما علاقة هذا النصر بالمذبحة الّتي يرتكبها الصهاينة في وقتنا الحاليّ، ومنذ السابع من أكتوبر؟ وما هو وجه الشبه الحقيقيّ بين شخصيّة أسطوريّة تاريخيّة مثل “هامان”، وبين يحيى السنوار، قائد حماس في غزّة؟

وحتّى نصدق القول، فكلّها أسئلة هامّة فعلًا، ولكنّها تظلّ، للأسف الشديد، منزوعة السياق، ولذلك؛ يجب أن نؤسّس لبعض الأشياء أوّلًا، كما يجب أن نفكّك الأساس العنصريّ المتوارث في الكتابات الصهيونيّة، وتفسيرات الصهاينة المختلفة، والمختلّة في كثير من الأحيان، للديانة اليهوديّة، قبل أن نفهم أسباب ارتفاع حوادث القتل والعنصريّة ضدّ الفلسطينيّين في عيد “البوريم”، أو عيد “المساخر” في رواية أخرى.

الغوييم 

في الفصل الخامس من الكتاب الشهير “شريعة السلطة”، الصادر عن مدرسة “عود يوسف حاي” الكائنة بمستوطنة “يتسهار”، بالضفة الغربية، خطَّ الحاخام يتسحاق شبيرا ما يشبه “المانيفستو” أو الطريقة المثلى لإنشاء الدولة اليهودية، حيث قال نصًا: “يجب قتل أطفال العرب” لماذا؟ لا لشيء واضح إلا” لكي نسبب الحزن لأهاليهم”، ثم أعادها مرةً أخرى في الفصل السادس حين قال: “يتوجب الانتقام من العرب باستمرار، ويجب الانتقام منهم بقسوة؛ لذلك يجب قتل الرضع”، “وأما من يُخطئ هذا الفعل -ألا وهو قتل الأطفال- أو يستهجنه فهو بكل تأكيد من معسكر الأعداء الأغيار، وبالتالي يسري عليه ما يسري على أطفال العرب”.

الغريب هنا؛ أن تلك الكلمات لم تكن محض تطرفٍ خاص برجل مختل، بل العكس هو الصحيح، حيث تتجذر تلك الفكرة في عقول الكثيرين من اليهود الصهاينة، بل ويؤمن الكثيرون منهم يقينا أن قتل أطفال “العرب”، هي عقيدة يهودية يتقرب بها اليهود للرب، حيث جاء في “سفر التثنية” “إصحاح: 1” ما يلي: “أهلكوا كل ما في المدينة -المقصود أريحا- من رجلٍ وامرأةٍ وطفلٍ وشيخٍ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف، وأحرقوا المدينة بالنار مع كل ما بها”، وهو أيضًا ما يظهر جليًا في فتاوى الحاخامات المعززة لتعاليم التوراة والتلمود؛ إذ أصدر الحاخام “مردخاي إلياهو”، كبير حاخامات الكيان الصهيوني السـابق، فتوى دينية حلل فيها إبادة الفلسطينيين بوصفه واجبٍاً دينياً، وكذلك “عوفاديا يوسف” الحاخام الأكبر السابق لليهود السفارديم، والأب الروحي لحزب “شاس” الممثل بشكل رسمي في الكنيست الإسرائيلي، حيث وصف الفلسطينيين تحت قبة البرلمان “بالحشـراتِ والصراصير، التي يجب أن تُداس بالأقدام”.

تلك الحشرات الّتي وصفها الرجل، كانت وما زالت هي الأساس القويّ الّذي تقف عليه فكرة “غوييم”، أو “الأغيار”، حيث تتبدّى النزعة المتطرّفة لدى الإسرائيليّين في التمييز الحادّ والقاطع بين اليهود كشعب مختار أو مقدّس، يحلّ فيه الإله بروحه من جهة، والشعوب الأخرى -الأغيار- الّتي تقع تلقائيًّا خارج دائرة القداسة أو البشريّة من جهة أخرى، فقد جاء في سفر أشعياء (61/5 ـ 6): “ويقف الأجانب ويرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أمّا أنتم فتدعون كهنة الربّ تسمّون خدّام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمّرون”، كما جاء في سفر ميخًا (4/12): “قومي ودوسي يا بنت صهيون لأنّي أجعل قرنك حديدًا وأظلافك أجعلها نحاسًا، فتسحقين شعوبًا كثيرين”.

إذن فاليهوديّ هو الإنسان العاقل الوحيد، كامل الأهليّة، أمّا الباقي فهم ثلّة من الأغيار المستحقّين للسحق والتدمير، وفي أفضل الأحوال سيصبحون خدمًا أو عبيدًا لبني صهيون، وقبل أن تُدهش من فظاعة الموقف، أو يخيّل لك أنّها محض أفكار قديمة بالية، جار عليها الزمن، ولم يعد لها مكان في القرن الحادي والعشرين، فيكفي فقط أن نقصّ عليك القصّة التالية:

عربي! عربي!

في تقرير بعنوان “حمزة يونس.. من بطل إسرائيل في الملاكمة إلى فدائي يقاوم احتلالها!”، يروي الكاتب والصحفي لؤي فوزي، قصة على لسان حمزة يونس، بطل فلسطين في الملاكمة، والقائد الميداني في “القوات الشعبية المقاومة في غزة” بعد ذلك، لأن الأمر أكبر من مجرد استعارة الفكرة دون النص، لذلك سننقل لكم ما قاله الكاتب نصا قبل البت فيه: 

“كانت تلك بداية احتكاك حمزة بأبناء الصهاينة في المستوطنات، ولأنهم بدوا كأي أطفال، قادته غريزته وفطرته الهادئة المسالمة إلى اتخاذ بعضهم أصدقاء، ولكن لأنهم لم يكونوا كأي أطفال، فلم تتمكن الصداقة الطفولية البريئة من شفاء النزعة العنصرية التي زرعتها فيهم الصهيونية تجاه العرب من أمثال حمزة، رغم ذلك، تمكن حمزة من التكيف مع تلك العلاقات المسمومة، لا لسبب إلا كون هؤلاء الأطفال أفضل من “المخابيل” الذين يعيثون فسادا في الشوارع كل يوم، وما إن يختلفوا مع عربي حتى يصرخوا قائلين: “عربي! عربي!”، ليتجمّع الصهاينة حوله، ويوسّعونه ركلًا وضربًا، وكان يكفيهم أن تسيل دماؤه على ملابسهم لكي تدينه الشرطة، لأنّه “لوث” ثياب الصهيونيّ بدمائه العربيّة”.

ثم استطرد مستفهمًا بعد ذلك: “لماذا يُدان العربي لأنه “لوث” ثياب الصهيوني بدمه في أثناء اعتداء الأخير؟ لأنه “غوييم”، هذه هي اللفظة العبرية التي يستخدمها الصهاينة لوصف العرب.. لا.. لحظة.. “غوييم” هو كل مَن هو غير صهيوني، حتى لو كان أميركيا أبيضَ يشجع “اليانكيز” ويأكل البرغر، ويكره المهاجرين واسمه “ديفيد”، ببساطة أكبر؛ كل من هو غير صهيوني، فهو “غوييم” يستحق القتل والتدمير.

تلك المشاهد، شاهدها حمزة بأم عينيه، وتكررت أمامه آلاف المرات في صغره وشبابه، حتى إنه أرخها بعد ذلك في كتابه “الهروب من سجن الرملة”، بعدما تأكد ألَّا أمان، أو عيشة هنية رفقة هؤلاء الصهاينة، وأن مهادنتهم أو مسالمتهم لن يجلب له السلام في المطلق، بل على العكس، فقد يغذي هذا في نفوسهم شعورا أكبر بالتفوق العرقي، ما سيجلب عليه، وعلى أهله مزيدًا من الويلات، وأما المقاومة الشرسة، فهي السبيل الوحيد لكسرهم أمام أنفسهم، ثم كسر شوكتهم التي يخدعون بها العالم، إضافة إلى جعلهم خائفين ومذعورين، وفي هذا الخوف، يكمن الخلاص من براثن احتلالهم، ومن عنصريتهم الدموية.

وهو أمر طبيعي، على اعتبار أن تلك التقاليد العنصرية، قد شكلتها بالأساس التفسيرات الحاخامية المتضاربة، تلك التي تمقت القراءة الحرفية للتوراة من جانب، وتعتبره أقدس شيء في الوجود من جانب آخر، إذ تعتبر الحاخامية النص خالدًا ولا غبار عليه، كنص مجرد، ولكن من أجل أن يصبح ذا معنى واضح للأجيال القادمة، وجب عليهم إذن شرحه وفك شفرته.

ولذلك عرضوا فهمهم الخاص لكل آية من الكتاب المقدس، ثم حاولوا جعل التوراة مصدرا حيا للإلهام، وبما أن أسفار موسى الخمسة والعديد من أسفار الأنبياء، مثل يشوع والقضاة، تعج بصور العنف المختلفة، إذن فلا ضير من إسقاطها على الأحداث الجارية في الوقت الحالي، لجعل الشعب الفلسطيني والعربي، امتدادًا طبيعيًا لأعداء اليهود في العصور الغابرة، وبالتالي يسري عليهم ما سرى على أعداء اليهود قديمًا، ولذلك؛ ترى اليهودي، الصهيوني، مستقيظًا في عمله، أو في مصنعه أو مدرسته، أو واقفًا في صلاته، وأمام مذبحة المقدس، أو واضعًا رأسه على الوسادة ليلًا، محملقًا في الفراغ، ولا يفكر إلا في شيء واحد: الانتقام.

“قرر حكماؤنا العظماء قديمًا، أنّ أفضل الأغيار في فترة الحرب “هو الميّت”؛ إذ لا يوجد مجالٌ لإصلاحهم؛ لأن خطرهم وخبثهم عظيمان، أما في شأن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين يوم واحد وسن الرشد، والذين بطبيعة الحال لا يخالفون الفرائض السبع لعدم إدراكهم لها أو سماعهم عنها، فبالإمكان قتلهم، بسبب الخطر المستقبلي الذي يشكلونه إذا سُمح لهم بالعيش وسط اليهود، ليكبروا ويصبحوا أشراراً مثل أهلهم”.

مقتطف من كتاب “شريعة الملك”.

في البدء كانت “إستير”

 لنعد إلى عيد المساخر مرّة أخرى، ولكن من هذا المنظور، لنجد أنّه يقدّم نموذجًا عقائديًّا مثاليًّا لحلّ النزاعات، لأنّ قصّته بسيطة بقدر ما هي نبويّة وسماويّة، كما أنّ شخصيّاتها وأحداثها خياليّة للغاية، أو دعنا نقول ألا أصل لها إلّا في الكتاب المقدّس، في سفر “إستير” تحديدًا، كما أنّها تعتمد على المرويّات بشكل أساسيّ، وبالتّالي فلا يمكن تتبّعها، أو إثباتها أو نفيها أو فهم دوافعها، بالطرق التاريخيّة المادّيّة المعتمدة، ما يجعلها مادّة خصبة للتأويل:

لذلك؛ بحسب ما روت لنا الأسفار: كان هناك شخص يدعى هامّان، يعمل وزيرًا في بلاط الملك الفارسيّ، ولكنّه، ولأسباب غير معلومة أيضًا، كان حاقدًا على اليهود بشكل غير مبرّر، ولذلك حاول استدرار عطف الملك الفارسيّ نحوه، لانتزاع مرسوم يوصي “بإهلاك وقتل وإبادة جميع اليهود، من الصغار والكبار والأطفال والنساء، وفي يوم واحد فقط”، وما إن علم اليهود بخطّته، حتّى أعلنوا عن “صيام التوبة”، سعيًا وراء قوّة إلهيّة تحميهم من المذبحة، ولكنّهم في نفس الوقت، سعوا أيضًا لإيجاد طريقة عمليّة أرضيّة تؤثّر في الملك، وتتحايل على مرسوم الوزير الحاقد.

وبالفعل؛ كان لهم ما أرادوا حين تدخّلت الملكة إستير، زوجة الملك الفارسيّ، وكشفت للملك أصولها اليهوديّة، وأقنعته بوقف الإبادة الجماعيّة المخطّط لها، ومع ذلك، فإنّ الفصل الأخير من الكتاب، يتحدّث عن قيام اليهود بعكس المذبحة بعد سنوات قليلة، حيث قتلوا 75 ألف شخص من الفرس، “انتقامًا” لأنفسهم من تلك المخطّطات، حتّى وإن لم تنفذ على أرض الواقع، فإنّ الخطط نفسها تدعو للانتقام، لتنتهي القصّة بانتصار يهوديّ ساحق على “هامان” وجنوده ورجاله والشعب الفارسيّ بأسره، وبكلّ من فيه، من رجال وأطفال وشيوخ ونساء، وهنا انتهت القصّة بالفعل، ولذلك يجب أن نسأل سؤالًا: هل انتهت المذبحة بانتهاء القصّة؟

المذبحة المستمرة 

باروخ غولدشتاين، طبيب ولد في الولايات المتّحدة الأميركيّة، ثمّ سافر إلى إسرائيل، ورغم أنّه أميركيّ المولد والنشأة، أي أنّه لا يعاني ممّا يعانيه نصف سكّان كوكب الأرض، إلّا أنّه سافر إلى إسرائيل، لماذا سافر إلى إسرائيل؟ لأنّها أرض ميعاده ووطنه المسلوب، ومن قال إنّها أرض ميعاده أو وطنه المسلوب؟ هي نفس التفسيرات الصهيونيّة، الّتي أقامت الحجّة على كلّ من هو غير يهوديّ، واعتبرت أنّهم مجرّد “أغيار” و”عماليق” مجرّدين من الإنسانيّة، ثمّ دعت أتباعها إلى الذبح والسلخ والدماء، ولا غير ذلك؛ إذن فالأمر مرتبط ومتّصل ببعضه، وفي سياق ممتدّ: إن كنت صهيونيًّا، فقد تسافر إلى إسرائيل يومًا ما، لماذا؟ لتقتصّ أوّلًا من “الأغيار” و”العماليق”، وثانيًا لتبنّي “مستوطنة” غير شرعيّة، تعيش فيها ما تبقّى من حياتك، في انتظار “الموعد المقدّس” لفناء البشريّة.

لقد عاش باروخ وسط هذا المجتمع؛ وتشبع بمعتقداته وتفسيراته وتأويلاته حينًا من الدهر، ثمّ شدّ همّته وسلاحه، وقام بعمليّة برأ بها ساحته أمام مجتمعه وكهنوته، حين قام في 25 فبراير 1994 بإطلاق النار العشوائيّ على المصلّين في “المسجد الإبراهيميّ” بمدينة الخليل، في أثناء أدائهم لصلاة الفجر، في منتصف شهر رمضان، ليرتقي في تلك المذبحة عشرات المسلمين، وفي أقدس أيّامهم، شهر رمضان، الّذي كان موافقًا بالصدفة البحتة، لأقدّس أيّام اليهود، عيد “البوريم”.

وبعد مقتله على يد من تبقّى من المصلّين، لم يحاكمه التاريخ الصهيونيّ مرّة واحدة، بل على العكس، حيث أصبح بطلًا قوميًّا في إسرائيل، وأقيمت الاحتفالات على شرفه، في مقبرة “كريات أربع” الّتي دفن فيها، وعلّقت صوره في الأماكن المقدّسة اليهوديّة، كما أنّ عددًا غير قليل من أتباع “اليهوديّة القوميّة”، اعتبروه شخصًا مقدّسًا، من سلالة إستير، واليهود القدامى الأشاوس، قتلة الفرس، قتلة الأطفال والنساء، والمنتقمون، وهكذا نعود إلى حيث بدأنا، لنجد أنّ الرجل استقى تلك الكراهية العميقة، من الكتابات الممجّدة لعيد “البوريم”، والمشجّعة على قتل الآلاف من أتباع هامان الفارسيّ، الّذي أصبح عربيًّا فلسطينيًّا بعد ذلك، واسمه يحيى السنوار.

وبناء على ذلك؛ لم يعد هناك أيّ اندهاش من استناد نتنياهو على تلك الأسطورة في تصريحاته، لأنّه يعلم بالضبط، ماذا يعني هذا بالنسبة لليهود، ولأنّه يعلم أنّ تكرارها على المسامع والآذان، سيؤدّي تلقائيًّا إلى المزيد من العنف والقتل، والتدمير، واقتحام المسجد الأقصى، وهدم البيوت على رؤوس أصحابها، والتلذّذ بقتل الرضّع وتعذيبهم، وأنّ في استمرار تلك المذبحة، ما يضمن له، على الأقلّ، استمرار حكومته لفترة من الزمن، وبالتالي استمرار دولته المزعومة.

محمود ليالي
كاتب وصحفي رياضي مصري، يهتم بكرة القدم كلعبة وكصناعة تفوق أهميتها ما لا يمكن اختصاره في الخطط والتكتيكات، شاعر صدر له ديوان "البقايا" عام 2023

Search