بروكسل
تصاعدت حدّة الجدل حول الشراكة الاستراتيجيّة بين الاتّحاد الأوروبّيّ ومصر، إذ وجّه أعضاء في البرلمان الأوروبّيّ انتقادات لاذعة لتجاهل الاتّحاد الأوروبّيّ لسجّلّ مصر في مجال حقوق الإنسان، مقابل توطيد التعاون في مجالات الهجرة ومكافحة الإرهاب. وتأتي هذه الانتقادات في ظلّ توقيع اتّفاقيّات جديدة تضخّ مليارات من العملة الصعبة في الاقتصاد المصريّ المتعثّر، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام الاتّحاد الأوروبّيّ بقيمه ومبادئه في علاقاته الخارجيّة.
لا شيكات على بياض للديكتاتوريّات
في مؤتمر صحفيّ عقد في البرلمان الأوروبّيّ في بروكسل الأربعاء 24 أبريل، عبّرت كارين ملكيور، منسّقة لجنة الشؤون القانونيّة بالبرلمان الأوروبّيّ، عن استيائها الشديد من تجاهل المجلس الأوروبّيّ والمفوّضيّة الأوروبّيّة لتوصيات البرلمان بشأن التعامل مع مصر، خاصّة فيما يتعلّق بملفّ حقوق الإنسان.
“عندما ندخل في شراكات مع دول أخرى، يجب ألّا نعطيها شيكًا على بياض” هكذا صرّحت ملكيور، منتقدة بشدّة ما وصفته بـ “سياسة غضّ الطرف” الّتي ينتهجها الاتّحاد الأوروبّيّ تجاه انتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وأضافت: “إذا كنّا نتعامل مع نظام استبدادي، فلا نعطيه الأموال، ونقول له افعل ما يحلو لك”.
وطالبت ملكيور بوقف تقديم المساعدات الماليّة للحكومة المصريّة، واقترحت بدلًا من ذلك توجيه الأموال إلى منظّمات الأمم المتّحدة العاملة في مصر، والّتي تتمتّع بمصداقيّة أكبر في مجال حقوق الإنسان وملفّ اللاجئين وفق تعبيرها. وأضافت: “لدينا تقرير حول كيفيّة التعامل مع شراكات الهجرة. كلّ هذا يُتَجَاهَل من قبل المجلس والمفوّضيّة. إنّهم لا يستخدمون الإجراءات التشريعيّة وإجراءات التشاور الّتي ينبغي عليهم استخدامها مع البرلمان الأوروبّيّ، لأنّهم يريدون تجاهل ما نقوله”.
تناقض صارخ
وانضمّ إلى ملكيور في انتقاداتها النائب الأوروبّيّ منير ساتوري، الّذي أشار إلى ما أسماه تناقض صارخًا في تعامل الاتّحاد الأوروبّيّ مع مصر.
“أدينت الحكومة المصريّة في قرارين داخل البرلمان الأوروبّيّ، ولكن في النهاية وُقِّع على عقد بقيمة 7 مليارات ونصف المليار يورو مع الحكومة المصريّة” هكذا استنكر ساتوري ازدواجيّة المعايير الأوروبّيّة، وطالب بوضع شروط قويّة ودقيقة تتعلّق باحترام حقوق الإنسان قبل تقديم أيّ مساعدات لمصر.
تأتي هذه الانتقادات في ظلّ استمرار ما يعتبره مدافعون عن حقوق الإنسان بالداخل والخارج قمعًا تمارسه السلطات المصريّة ضدّ المجتمع المدنيّ والنشطاء السياسيّين. فقد أثار اعتقال ناشطات وصحفيّات ومحاميات مؤخّرًا أمام مكتب الأمم المتّحدة بالقاهرة، بسبب تقدّمهنّ بعريضة حول الوضع في غزّة والسودان، غضبًا واسعًا بين الحقوقيّين، الّذين اعتبروه دليلًا جديدًا على تدهور حالة حقوق الإنسان في مصر.
وأمس، الأربعاء قرّرت نيابة أمن الدولة العليا بالقاهرة، إخلاء سبيل محتجزات، ومحتجزين اعتقلوا من محيط مقرّ مكتب الأمم المتّحدة للمرأة، بكفالات ماليّة، على ذمّة التحقيق، في القضيّة رقم 1567، لسنة 2024، بعد أن وجّهت لهم اتّهامات بالتجمهر والانضمام إلى جماعة أسّست على خلاف القانون، وفق تصريح المحامي محمود حيد لـزاوية ثالثة.
وأشار معتزّ الفجيري، المدافع الحقوقيّ وعضو اللجنة التنفيذيّة للأورومتوسطيّة للحقوق، إلى أنّ المناخ السياسيّ في مصر لا يزال يعاني تقييدات وترهيبًا شديدًا. ويؤكّد أنّ “مصر لا تزال جمهوريّة خوف، حيث يقبع آلاف النشطاء السياسيّين ومدافعي حقوق الإنسان في السجون، وتستخدم قوانين مكافحة الإرهاب بشكل تعسّفيّ لقمع المعارضة”.
حوار وطنيّ فاقد للمصداقيّة
قال الفجيري، أنّه إذا كان الهدف الطويل الأمد للشراكة الاستراتيجيّة والشاملة بين الاتّحاد الأوروبّيّ ومصر هو تحقيق “الازدهار المشترك والاستقرار والأمان”، فيجب أن توجّه تقديمها بشكل واضح وشفّاف على أساس معايير احترام حقوق الإنسان وسيادة القانون، وذلك بالتشاور مع المجتمع المدنيّ الحقيقيّ ومنظّمات حقوق الإنسان المستقلّة والمدافعين عن حقوق الإنسان. وأضاف الفجيري في تصريحات إلى زاوية ثالثة “إنّه مخيّب للآمال أنّنا نرى أنّ الموقف الرسميّ للاتّحاد الأوروبّيّ تجاه أزمة حقوق الإنسان في مصر أصبح ضعيفًا وغير متّسق منذ استئناف اجتماعات مجلس الشراكة مع مصر في يوليو 2017 وحتّى آخر اجتماع لمجلس الشراكة المعقود في يناير من هذا العام”. وأنّ السرد الأوروبّيّ “يبالغ في تأثير التنازلات المحدودة والتكتيكيّة الّتي اتّخذتها السلطات المصريّة منذ نهاية عام 2020 لتحسين صورتها الدوليّة وإدارة لجمع دعم أكبر لإنقاذ الاقتصاد المتعثّر من الانهيار”.
الفجيري عضو اللجنة التنفيذيّة للأورومتوسطيّة للحقوق، تحدّث في المؤتمر الصحفيّ بالبرلمان الأوروبّيّ، وفي خطابه كان يرى أنّ “هناك أدلّة قويّة على أنّ المناخ السياسيّ المتعلّق بحقوق الإنسان ما زال يعيش تقييدات وترهيبًا شديدًا. تستمرّ مصر في أن تكون جمهوريّة خوف”. مشيرًا إلى أنه لا يزال هناك آلاف من النشطاء السياسيّين ومدافعي حقوق الإنسان مسجونين، وأنّه لم يتوقّف الاستخدام الواضح والساخر لتدابير مكافحة الإرهاب والقوائم السوداء ضدّ النشطاء السلميّين والمحامين ومدافعي حقوق الإنسان”.
سألناه عن الحوار الوطنيّ الّذي أطلقه الرئيس السيسي في أبريل 2023 وعن مدى استجابته للحوار واستجابة الحقوقيّين لهذا الحوار، فأشار إلى أنّه عندما أعلن الرئيس تلك المبادرة رحّب بها كثيرون من النشطاء خارج مصر وداخلها، كما أعلنوا استعدادهم للمشاركة البنّاءة في الحوار الوطنيّ بشرط أن تنفّذ الحكومة سلسلة من التدابير الإصلاحيّة لبناء الثقة “. مضيفًا “تمّ تجاهل معظم هذه المطالب واستبعاد بنية الحوار الوطنيّ عن عمد الأصوات المستقلّة الرئيسيّة خارج وداخل مصر”.
تأثير البرلمان الأوروبّيّ
على الرغم من عدم امتلاك البرلمان الأوروبّيّ سلطة مباشرة على السياسة الخارجيّة للاتّحاد الأوروبّيّ، إلّا أنّه يمارس نفوذه من خلال مجموعة من الأدوات والآليّات الّتي تشكّل ضغطًا مستمرًّا على صنّاع القرار الأوروبّيّين لدفع مصر نحو احترام حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّة. ويضطلع بدور رقابيّ هامّ على أداء المفوّضيّة الأوروبّيّة والمجلس الأوروبّيّ، ويرصد سياسات الاتّحاد الأوروبّيّ، ويقدّم التوصيات إلى مجلس الاتّحاد الأوروبّيّ وهيئة العمل الخارجيّ الأوروبّيّ. ويعدّ البرلمان هو المؤسّسة الأكثر نشاطًا في مجال حقوق الإنسان والأكثر دعمًا للمجتمع المدنيّ. وتتجلّى الرقابة البرلمانيّة في إصدار قرارات وتوصيات غير ملزمة، ولكنّها تعكس موقف البرلمان من القضايا الحسّاسة مثل حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّ. كما تشكّل هذه القرارات ضغطًا معنويًّا على السلطات المصريّة، وتذكّر الاتّحاد الأوروبّيّ بالتزاماته الأخلاقيّة والقانونيّة.
كما أنّ أعضاء البرلمان الأوروبّيّ من المناصرين لحقوق الإنسان يسعون على نحو دائم إلى تشكيل رأي عامّ أوروبّيّ داعم لقيم حقوق الإنسان والديمقراطيّة في مصر، من خلال بيانات صحفيّة وتقارير تسلّط الضوء على انتهاكات حقوق الإنسان، وتوعية المواطنين الأوروبّيّين بالوضع في مصر.. إضافة إلى ذلك، يصدر البرلمان الأوروبّيّ تقريرًا سنويًّا حول حقوق الإنسان والديمقراطيّة في العالم.
أصدر البرلمان الأوروبي في أكتوبر الماضي تقريرًا، دعا فيه إلى مراجعة علاقات الاتحاد الأوروبي بمصر، في ضوء ما وصفه بـ«تقدم بسيط» في سجل حقوق الإنسان. وفي رد على بيان البرلمان الأوروبي قال مجلس النواب ، إن تقرير البرلمان الأوروبي «لا يتسم بالمصداقية أو الحيادية»، داعيًا إلى أن يركز جهوده على الشأن الأوروبي في مجال الحقوق والحريات.
مليارات الاتّحاد الأوروبّيّ
في شهر مارس الماضي، وقع الاتّحاد الأوروبّيّ اتّفاقيّات مع مصر تضمّنت حزمة تمويل ضخمة بقيمة 7.4 مليار يورو على مدى أربعة أعوام، تشمل قروضًا واستثمارات وتعاونًا في ملفّي الهجرة ومكافحة الإرهاب.
ويرى الاتّحاد الأوروبّيّ أنّ استقرار مصر أمر حيويّ لأمن واستقرار المنطقة، ويسعى من خلال هذه الاتّفاقيّات إلى تعزيز التعاون مع مصر في مواجهة تحدّيات الهجرة غير الشرعيّة ومكافحة الإرهاب.
لكنّ هذه الاتّفاقيّات أثارت انتقادات من داخل الاتّحاد الأوروبّيّ نفسه. فقد عبّرت كارين ملكيور عن قلقها من أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ يغضّ الطرف عن انتهاكات حقوق الإنسان في مصر مقابل تحقيق مصالحه الاستراتيجيّة. وأشارت إلى أنّ تقديم الدعم الماليّ لأنظمة غير ديمقراطيّة يضرّ بمصداقيّة الاتّحاد الأوروبّيّ والتزامه بقيم حقوق الإنسان.
وتعتبر مصر شريكًا استراتيجيًا هامًا للاتحاد الأوروبي في ملف الهجرة، بحسب بيان للحكومة المصرية، فإن التقديرات تشير إلى وجود 9 ملايين مقيم ولاجئ في مصر من نحو 133 دولة يمثلون 8.7 بالمئة من حجم السكان البالغ عددهم نحو 106 ملايين نسمة.
في المقابل، تقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في تقرير صدر عنها يناير الماضي، إن مصر تستضيف نحو 480 ألف لاجئ وطالب لجوء من 62 دولة في عام 2023 بزيادة 64 بالمئة عن عام 2022.
ويختلف توصيف لاجئ عن مهاجر، فوفق مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن اللاجئ هو شخص أُجبر على الفرار من وطنه بسبب الاضطهاد أو الحرب أو العنف، على عكس المهاجر الذي اختار الانتقال طواعية وليس بسبب تهديد مباشر.
تعتبر قضيّة الهجرة غير الشرعيّة إلى أوروبا أحد المحاور الرئيسيّة في هذه الشراكة. في عام 2022، شهدت أوروبا زيادة ملحوظة في أعداد المهاجرين غير الشرعيّين، حيث سجّلت وكالة الحدود الأوروبّيّة “فرونتكس” دخول 330 ألف مهاجر غير نظاميّ، بزيادة قدرها 64% مقارنة بعام 2021. وتعتبر مصر من الدول الرئيسيّة الّتي ينطلق منها المهاجرون عبر البحر المتوسّط.
يرى الاتّحاد الأوروبّيّ في هذه الشراكة فرصة لمعالجة قضيّة الهجرة من جذورها، من خلال دعم مصر في تحسين ظروف المعيشة وخلق فرص عمل للشباب، بالإضافة إلى تعزيز التعاون في مجال إدارة الحدود ومكافحة تهريب البشر.
ويواجه الاتّحاد الأوروبّيّ معضلة حقيقيّة في تعامله مع مصر. فمن ناحية، يعتبر مصر شريكًا استراتيجيًّا هامًّا في مجالات حيويّة مثل الهجرة ومكافحة الإرهاب. ومن ناحية أخرى، لا يمكن للاتّحاد الأوروبّيّ تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان المستمرّة في مصر.
ويبدو أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ يراهن على سياسة “العصا والجزرة” في تعامله مع مصر، حيث يسعى إلى تحقيق مصالحه الاستراتيجيّة، مع ممارسة ضغوط على مصر لتحسين سجلّها في مجال حقوق الإنسان.
يبقى مستقبل الشراكة بين الاتّحاد الأوروبّيّ ومصر رهينة التطوّرات في ملفّ حقوق الإنسان. ففي حال استمرار القمع وتجاهل مطالب الإصلاح، فمن المرجّح أن تتصاعد الضغوط داخل الاتّحاد الأوروبّيّ لإعادة النظر في هذه الشراكة وربطها بشكل أكبر باحترام حقوق الإنسان والحرّيّات الأساسيّة.