ينتظر كيرلس رفعت ناشد -الأستاذ المساعد بكلّيّة الهندسة جامعة المنوفيّة-، في محبسه قرار النيابة الّتي أمرت بضبطه وإحضاره على خلفيّة اتّهامات بالتشهير في حقّ الأنبا بنيامين -أسقف المنوفيّة-، وازدراء الديانة المسيحيّة، وهو ما نفّذه بتسليم نفسه إلى قسم الشرطة.
كان مجدي صبحي -المحامي الشخصيّ للمطران-، قد تقدّم ببلاغ يتّهم كيرلس بالتشهير ونشر الأخبار الكاذبة والإساءة إلى سمعة موكّله، مستغلًّا في ذلك موقع التواصل الاجتماعيّ “فيسبوك”، إلى جانب بلاغ آخر من مواطن يدعى كيرلس عماد جرجس، يتّهم فيه “ناشد” بازدراء المسيحيّة والإساءة إلى القدّيسين، فيما أضافت النيابة لتلك القائمة تهمّ مثل السبّ والقذف وانتهاك حرمة الحياة الشخصيّة للمطران والتعدّي على مبادئ الأسرة المصريّة، حسب بيان المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. وعلى إثر تلك البلاغات أحيل الكادر الجامعي إلى المحاكمة في القضية رقم 115 لسنة 2023 قسم منوف. |
تنصّل الأنبا بنيامين -حسب شهادة أسرة كيرلس- من مسؤوليته بخصوص الدعوى المرفوعة ضد المُعيد الجامعي، مؤكدًا أن محضر الشرطة لا يحمل اسمه شخصيًا، مدعيًا أن: “محاميه هو من تصرف دون علمه وبشكل منفرد”. قبل أن تتفاجأ الأسرة بعد ذلك بأن كلمات المُطران غير صادقة، وأن المحضر يحمل اسمه، وأيضًا عدد من الاتهامات الموجهة إلى ابنهم، حسب وصفهم.
ما قصة كيرلس ناشد مع كنيسة المنوفية؟
يقول باسم الجنوبي -الناشط المهتم بحقوق الأقليات والأقباط- في مقابلته مع زاوية ثالثة، إن العلاقة بين الكنيسة و” كيرلس ناشد”، بدأت منذ قدومه إلى المنوفية من أجل الالتحاق بكلية الهندسة. وقتئذٍ عُدّ “ناشد” كادرًا هامًا، حين عمل خادمًا للنشء حتى عام 2016، حين بدأت حياته المهنية، والتحق بسلك التدريس في الجامعة. كانت تلك نقطة تحول في تفكيره، حين قرر الاستقرار في محافظة المنوفية وتأسيس منزل زوجية له إلى جوار عمله. ويضيف أن “ناشد” اصطدم في ذلك الوقت بتعقيدات فرضها المطران الأنبا بنيامين على راغبي الزواج داخل الكنيسة، كمنع إقامة الأفراح بشكلها المعروف والاكتفاء بـ”أفراح كنسيّة”.
وفي 2019، أثار بيان منسوب للأنبا بنيامين، حالة واسعة من الجدل على مواقع التواصل الاجتماعي، جاء فيه منع المطران إقامة الأفراح خارج أسوار الكنيسة، مع تسديد تأمين يدفعه العريس قبيل صلاة الإكليل للتأكد من الالتزام بتعليمات المطرانية التي تمنع تشغيل الأغاني أو الرقص، سواء في ليلة الفرح أو الحِنّة التي تسبقها. وقيل حينئذ إن البيان جاء ردًا على تأسيس عدد من أبناء المحافظة صفحة على موقع “فيسبوك” بعنوان “المنوفية هتفرح“، جاءت احتجاجًا على سياسات الأنبا المتبّعة منذ عام 2003، والمعروفة بلائحة العُرس، بموجبها يُجبر العروسين على دفع مبلغ تأمين مالي يحدده الكاهن للتأكد من عدم إقامة فرح أو حنة خارج سور الكنيسة، في سابقة لم تحدُث إلا في إيبراشية المنوفية فقط دون باق إيبراشيات وكنائس مصر.
في حين خرج الأنبا بنيامين بعد اشتعال غضب مسيحيّي المنوفيّة نافيًا صدور أيّة بيانات بشأن لائحة الزواج، وأنّ الأموال المفروضة من الكنيسة تأتي فقط في حال وجود مخالفات داخل قاعة العرس من شرب خمور أو غناء ورقص. لكنّ بعضًا من المواطنين الّذين عانوا التضييق الشديد في إجراءات الزواج، رفضوا تصريحات الأنبا النافية للائحة، مؤكّدين أنّها طبّقت عليهم وذويهم، وبالفعل دفعوا أموالًا كتأمين لمنع تفكيرهم في أيّ مظاهر احتفاليّة شعبيّة مدنيّة، مضيفين “إن لم تكن هناك لائحة عرس، لم يأت الكهنة إلى الأفراح مصمّمين على إجبارنا على الترانيم بدلًا عن الأغاني، ولم تستنزفنا الكنيسة في أموال التأمين، أو التهديد بالزجّ بأبنائها إلى أقسام الشرطة في حال المخالفة”.
أسست المطرانية ما عُرف بـ”مجلس العُرس“، المتخصص في تنظيم شؤون الأعراس، ومن مهامه إقرار العقوبة المناسبة على كل عريس حال ارتكاب مخالفات، سواء أكانت العقوبة مادية عبر حرمانه من استرداد مبلغ التأمين، أو عقوبة روحية مثل الحرمان من التناول أو الصلاة وتبريك المنازل. |
بالعودة إلى “ناشد”، لم تكن مسألة التعنت في تنظيم الأعراس الوحيدة التي حثته على الانتقاد، لكنه صُدم حين حاول أحد كهنة كنيسة “مارجرجس منوف”، الاعتداء عليه بحذائه داخل مَكتبه بالكنيسة، إثر خلافات في الرأي حول نظرة “ناشد” للتوبة والاعتراف، وتحول الخلاف إلى اتهام كهنة الكنيسة له بأنه يحمل فكر “بروتستانتي” دخيل على الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
معلقًا، يشير “الجنوبي” إلى أن الاتهام بـ”البروتستانتية” أدى إلى نبذ “ناشد” مجتمعيًا داخل الكنيسة، وواجه على خلفيته مضايقات عدة؛ ما دفعه إلى اللجوء إلى “الأنبا بنيامين” مطران الأسقفية، وانتهت الجلسة بالتهدئة، لكنّه تفاجأ في اليوم التالي بمنعه من دخول الكنيسة بقرار من “الأنبا بنيامين” شخصيًا، ومحاولة الاعتداء عليه والاستيلاء على متعلقاته الشخصية. دفع ذلك “ناشد” إلى التعليق في منشور على صفحته على “فيسبوك”، معبرًا عن غضبه واحتجاجه. استمرت المضايقات حتى استدعى الأمن الإداري للكنيسة في أثناء تواجده بداخلها الشرطة، واتهم بالإرهاب ومحاولة تفجيرها، وهو ما وجدته الشرطة اتهامًا غير منطقي. ويعتبر “الجنوبي” قرار منع “ناشد” من الكنيسة غير قانوني، حيث لا يحق لأحد منع الآخر من دخول دور العبادة، بناءً على خلاف بين الطرفين، لأن ذلك يُعد انتهاكًا صريحًا للمادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان، داعيًا المهتمين جميعهم بملف الحريات لدعمه في محنته، خاصة وأن مستقبله المهني والعلمي أوشك على الضياع، متعجبًا من نفي الأنبا المتكرر لمسؤوليته عن القضية وقائلًا: “كيف لأسقف لا يسيطر على محاميه بأن يدير شؤون وأموال الكنيسة؟”.
توجّه “ناشد” إلى قسم الشرطة لتحرير محضر ضد شخصين حاولا تهديده؛ إلا أنه فوجئ بوجود أمر ضبط وإحضار على خلفية اتهامات بالتشهير بسمعة المطران وازدراء المسيحية.
يشير إسحق إبراهيم -مسؤول ملف الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية-، إلى أن ما يحدث مع “ناشد” سابقة تعتبر الأولى منذ أكثر من عِقد، حيث إن التدخل الشُرطيّ في ملف الخلافات بين الكنيسة والشعب المسيحي يعتبر من النوادر، مذكرًا بواقعة استدعاء الأنبا أرميا الشرطة، لمتظاهري الأحوال الشخصية في الكاتدرائية عام 2011، والقبض على بعضهم ثم إطلاق سراحهم مرة أخرى. |
كان عدد كبير من المسيحيّين الأقباط قد اعتصموا في يوليو 2011، عقب الثورة، أمام مقرّ المجلس الإكليركى مطالبين بعزل الأنبا بولا -المسؤول حينئذ عن ملفّ الأحوال الشخصيّة للمسيحيّين-، والسماح بالزواج المدنيّ وإعادة العمل بلائحة 38 المتضمّنة لكثير من أسباب الطلاق، لكنّ أمن الكاتدرائيّة لجأ إلى الاستعانة بالشرطة واستخدام الكلاب، لإرهاب المتظاهرين وتخويفهم.
حاولنا التواصل مع القمص موسى -المتحدّث باسم الكنيسة القبطيّة-، إلّا أنّه رفض التعليق على القضيّة، مكتفيًا بطلب التواصل مع المطرانيّة في المنوفيّة، إلّا أنّ الأنبا بنيامين مطران المنوفيّة امتنع من الردّ على هاتفه.
معاناة الأقباط داخل جدران كنيستهم
يتحدث أمجد عزت -الباحث في التاريخ القبطي-، إلى زاوية ثالثة عن تاريخ سيطرة الكهنة على الشعب المسيحي داخل الكنيسة، مؤكدًا أن هناك الآلاف من كيرلس ناشد على مر التاريخ، والذين تعرضوا لقهر وظلم داخلي؛ إلا أن الأمر أصبح أكثر وضوحًا مع عزل البابا يوساب الثاني عقب حركة يوليو 1952 وقيام الجمهورية، وحسب الباحث، فإن جماعة الأمة القبطية تبلورت نتيجة حركة الإصلاح المتوهجة خارج الكنيسة في أربعينات القرن الماضي، وبدأت بداية اجتماعية، ثم اتجهت نحو العمل السياسي، فکانت محورًا لاستقطاب البعض داخل وخارج الکنيسة لتنفيذ مآربها الخاصة. في المقابل، شعرت حكومة يوليو بالخطر، ظنًا أن في الطريق جماعة جديدة تحمل أفكارًا متقاربة للإخوان المسلمين؛ لكنها مسيحية، لذا وجّهت البطريرك لإصدار قرار بحلها، ووافقت عليه الحکومة، وعليه لجأت الجماعة لاختطاف الأنبا يوساب الثاني –بطريرک الأقباط الأرثوذکس– لحسم الخلاف داخل الکنيسة والتخلص من الفساد الذي استشرى داخلها، ما خلّف صراعات في المجتمع القبطي. قبل أن تعيده السلطة مجددا، وظل الأمر سجالًا حتى عزل المجمع المقدس والمجلس الملي البابا في نهاية المطاف، ومنذ تلك اللحظة بدأ الكهنة خطواتهم الفعلية في اختطاف الكنيسة من شعبها العلماني.
وأشار عزت، إلى أن عصر البابا شنودة الثالث يُعد عصر هيمنة كهنة الكنيسة عليها، ليس فقط ضد ما هو علماني، إلا أن المنع والتقييد قد طال رموز كهنوتية مثل الراحلين الأب متّى المسكين، والأنبا غريغوريوس -أسقف البحث العلمي-، اللذين واجها هجومًا شرسًا وعنيفًا من البابا شنودة والكنيسة لمجرد الاختلاف بينهم في الرأي، ما أدى في النهاية إلى اختفاء كل صوت معارض داخل الكنيسة، و” تحول الكاهن إلى صوت الله على الأرض، وهو ما يعتبر مكسبًا للدولة أراحت بالها من مشاكل الأقباط بسيطرة الكهنة على الشعب المسيحي داخل كنيسته، كجزء من اتفاق ضمني”.
ويضيف أن سيطرة رجال الكهنوت على الكنيسة فاق الحدود كلها، خاصة مع وجود عدد من عديمي الكفاءة العلمية والإدارية بين الأساقفة، و “تجد أن بعض المطارنة هم في الأساس من حملة الشهادات المتوسطة، الأمر الذي صنع فجوة كبيرة بين الشعب والأساقفة، وأثّر تأثيرًا كبيرًا على طبقة المثقفين داخل الكنيسة، والتي كثيرًا ما تريد مناقشة أمور هامة في الدين، لكنها تقابل بالإرهاب والنقد”.
يذكر أن محكمة جنح الاقتصادية بطنطا قد أجلّت محاكمة كيرلس رفعت ناشد إلى جلسة 23 يناير الجاري، للاطلاع، وعرض فيديو لحوار الأنبا بنيامين بقناة “مي سات” أكد خلاله أنه طلب من محاميه غلق صفحة المتهم الشخصية على موقع فيس بوك فقط، ولم يطلب منه تقديم شكوى ومقاضاته. وقد حذّرت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في بيان أخير، تعليقًا على القضية من أن “المحاكمة تأتي في سياق حالة من التربص بحرية الرأي والتعبير من قبل مؤسسات وأفراد تسعى لفرض وصايتها الدينية على المواطنين، في ظل مناخ مقيد للحريات العامة، ومدعوم من مؤسسات الدولة، التي كان عليها أن تهب مدافعة عن حق المواطن في حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية”.