تعاني العديد من القطاعات الصناعية والتجارية نتيجة الفجوة بين السعر الرسمي لصرف الدولار وسعره بالسوق السوداء، الذي يواجه حالة من عدم الاستقرار؛ إذ سجّل مستويات قياسيّة متجاوزًا حاجز الـ70 جنيهًا ليواجه بعدها هبوطًا حادًّا، ويصل إلى نحو 50 جنيهًا، ثمّ يعود ليستقرّ عند نحو 61 جنيهًا حتّى إعداد هذا التقرير.
ويعدّ قطاع الأدوية أحد أكثر القطاعات تضرّرًا وهو ما انعكس بدوره على أسواق الدواء بمصر، وخلق أزمة نواقص في بعض الأصناف والمجموعات الدوائيّة، إضافة لارتفاع أسعار العديد منها.
وخلال الأشهر الأخيرة اختفت عشرات الأصناف الدوائيّة المخصّصة لعلاج معظم الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكّريّ والقلب والمرارة والغدّة الدرقيّة والكلى واضطرابات المعدة وحمّى البحر المتوسّط، والسرطان، إلى جانب نقاط الأنف للرضّع والكبار وعدد كبير من أدوية البرد وأمراض النساء، وتتراوح نواقص الأدوية في السوق بين 30 إلى 40%، من بينها 15% أدوية ليست لها بدائل، وفق ما أفاد رئيس غرفة صناعة الدواء باتحاد الصناعات جمال الليثي، خلال مداخلة مع الإعلامية إيمان الحصري، ببرنامج “مساء DMC” المذاع عبر فضائية “DMC”، مضيفًا أن مصانع الأدوية في مصر تعمل بنسبة 90% من طاقتها الإنتاجية، وأن أسعار خامات التصنيع المستوردة زادت بنسبة 90%.
النقص الكبير في الأدوية، وصل صداه إلى مجلس النوّاب، ودفع عضو مجلس النوّاب المهندس عبد السلام خضراوي، للتقدّم بطلب إحاطة موجّه إلى خالد عبد الغفّار -وزير الصحّة والسكّان-، لإيجاد حلول عاجلة من خلال توفير بدائل للأدوية غير المتوفّرة في السوق وخاصّة المستوردة، بينما أكّد رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي، رصد نقص بعض الأدوية، وأنّه من المطلوب فورًا زيادة الاحتياطيّات من هذه الأدوية وغيرها، لتحقيق هدف استدامة الخدمات الصحّيّة، على هامش اجتماع المجلس، بحسب بيان صادر عنه.
وطالب البنك المركزي، البنوك بإجراء حصر فوري لحجم طلبات الاستيراد المعلقة للأدوية والمستلزمات الطبية -خاصة المحتجزة في الموانئ- ومنحها الأولوية في عمليات التدبير.
مخاطر الشحن البحري
لا ينفي رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجاريّة علي عوف، وجود نواقص في بعض الأصناف الدوائيّة، لكون صناعة الأدوية تعتمد على موادّ خام تستورد من مصانع بالخارج وفقًا لمواصفات معيّنة، ثمّ تشحن وتمرّ بالجمارك ثمّ التحليل والتصنيع، كاشفًا عن كون شركات الأدوية تلجأ إلى الشحن البحريّ باعتباره أقلّ تكلفة من الطيران، لكنّ الاضطرابات في مضيق باب المندب وهجوم الحوثيّين على بعض السفن ضمن تداعيات عدوان الاحتلال الإسرائيليّ على غزّة، جعل سفن الشحن التابعة للهند والصين، اللّتين تستورد مصر منهما موادّ خام لصناعة الدواء، تلجأن إلى طريق رأس الرجاء الصالح؛ فأصبحت رحلة وصولها للموانئ المصريّة تستغرق نحو ثلاثة أشهر وبتكلفة أعلى من الشحن الجوّيّ الّذي أصبح الحلّ الوحيد المتاح أمام الشركات؛ لكونه أسرع في زمن الوصول، وهي مضطرّة لتحمّل تكلفته العالية، والّتي ستنعكس على أسعار الدواء الّتي يرى أنّها غير عادلة، ويجب أن ترتفع لنحو 100% بسبب ارتفاع الدولار وتكاليف الإنتاج من موادّ خامّ، ويغطّي البنك المركزيّ الدولار اللازم لاستيرادها، بجانب مستلزمات الإنتاج الخاصّة بالتعبئة والتغليف المتأثّرة بأسعار السوق السوداء.
ولجأت 55 سفينة على الأقل إلى طريق رأس الرجاء الصالح حول قارة أفريقيا لتفادي المرور عبر البحر الأحمر، منذ 19 نوفمبر الماضي، بعد تزايد هجمات جماعة الحوثي في اليمن على السفن المتجهة إلى فلسطين المحتلة، وارتفعت حركة الملاحة عبر رأس الرجاء الصالح الواقع جنوب غرب دولة جنوب إفريقيا، بنسبة 67% خلال الشهر الماضي، مقارنة مع الشهر السابق له. |
يضيف “عوف” في حديثه مع “زاوية ثالثة” أنّ بعض المصانع المصريّة تعاني نقصًا في بعض الموادّ الخامّ بنسب متفاوتة كلّا حسب معدّل استهلاكه وسحبه وإمكانيّاته ومعدّلات بيعه، وتشتري بعضها أحيانًا تلك الموادّ، ثمّ يتّضح كونها غير مطابقة للمواصفات؛ ممّا يعطّل تصنيع الدواء، كما أدّت أزمة ماليّة كبيرة عاناها أحد أكبر موزّعي الدواء، إلى تعثّر بعض المصانع وعجزها عن شراء مستلزمات الإنتاج لنقص السيولة الماليّة لديها.
ويعترف المسؤول بوجود نقص ببعض الأدوية المستوردة في مصر، لكنّه يؤكّد أنّ لها بدائل محلّيّة أوفر سعرًا، مستشهدًا بالأزمة الّتي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ منذ ستّة أشهر، بسبب شكاوى المواطنين من نقص بعض أدوية الغدّة الدرقيّة وخاصّة “التروكسين”، مبيّنًا أنّه مع توضيح شعبة الأدوية لوجود بدائل أخرى محلّيّة الصنع متوفّرة بسعر أقلّ، توقّف الأطبّاء عن وصفه للمرضى، واستبدلوه بالبدائل المتوفّرة؛ فاختفت الأزمة، أمّا بالنسبة لأزمة نقص دواء “كولشيسين” المستخدم في علاج حمّى البحر الأبيض المتوسّط، فقد جاءت نتيجة سوء تخطيط من الشركة المصنّعة؛ ما أدّى إلى سحب كبير على الدواء، بحسب ما أفاد.
وينتقد رئيس شعبة الأدوية بالغرفة التجاريّة قيام الأطبّاء في عياداتهم والمستشفيات الخاصّة بكتابة الأسماء التجاريّة للأدوية في الوصفة الطبّيّة، في حين يكتبون أسماء المادّة الفعّالة لها حين يصفون الدواء لمرضاهم في التأمين الصحّيّ.
ويلفت رئيس الشعبة لكون أدوية مرضى السكّريّ وضغط الدم الّتي تعاني نقصًا في أسواق الدواء المصريّ، تستورد بكمّيّات محدودة، وتكون متوفّرة لدى الشركة المصريّة لتجارة الأدوية والصيدليّات التابعة للدولة مثل: صيدليّة الإسعاف، وتصرّف بوصفة طبّيّة وبطاقة الرقم القوميّ؛ وذلك لغلق الباب أمام السوق السوداء للدواء، منعًا للاستغلال المادّيّ أو غشّ الدواء، وينطبق ذلك على مختلف الأدوية الناقصة لتكون تحت عين الدولة، وتضبط أسعارها وتقنين بيعها، مشيرًا لكون الخطّ الساخن الخاصّ بهيئة الدواء المصريّة رقم 15301، يتلقّى الاستفسارات والبلاغات الخاصّة بنواقص الأدوية.
ويرى “عوف” أن نواقص بعض الأصناف الدوائيّة جعلت مصانع الدواء المصريّة تعمل بكلّ طاقتها لتوفير البدائل للمرضى وهو ما يؤدّي إلى توطين حقيقيّ لصناعة الدواء المصريّة عوضًا عن المستوردة؛ ومن ثمّ توفير الدولار.
الحصول على الدولار بشق الأنفس
من ناحيته ينفي عضو غرفة صناعة الدواء باتّحاد الصناعات الدكتور أحمد زغلول، الرئيس التنفيذيّ لشركة مصر أوتسوكا للمستحضرات الطبّيّة-، أن تكون اضطرابات البحر الأحمر الناتجة عن هجمات الحوثيّين المرتبطة بالحرب على غزّة، هي السبب في أزمة نواقص الأدوية الحاليّة، محمّلًا إيّاها لعدم توفير البنك المركزيّ للعملة الأجنبيّة اللازمة للإفراج عن شحنات المستلزمات والموادّ الخام الخاصّة بتصنيع الأدوية، والّتي تتكدّس في الموانئ المصريّة، مؤكّدًا أنّ شركته حصلت من البنك على الدولار اللازم لاستيراد مستلزمات تصنيع بنج الأسنان، بشقّ الأنفس.
ويبيّن “زغلول” في حديثه مع “زاوية ثالثة” أنّ هناك أزمة أخرى تواجه مصانع الأدوية في مصر؛ بسبب ارتفاع أسعار خامات ومستلزمات التصنيع، من موادّ خام فعّالة، مرورًا بالورق والبلاستيك والزجاج والمعادن المستخدمة في التعبئة والتغليف، وصولًا إلى أسعار النقل وأجور العمّال، وفي الوقت نفسه تفرض هيئة الدواء على المصانع تسعيرة جبريّة للدواء وهي لم تعد متناسبة مع حجم زيادات أسعار مدخلات الإنتاج، الّتي يختلف حجمها من منتج لآخر، و”هو أمر يحتاج إلى الدراسة من هيئة الدواء كي لا تظلم المصانع من ناحية أو المستهلكين من ناحية أخرى، معتبرًا أنّ الاعتماد على وصف المادّة الفعّالة للدواء بدلًا من العلامة التجاريّة يعدّ حلًّا مؤقّتًا لن يسفر عن حلّ الأزمة بشكل جذريّ”.
ووفقًا لتقرير صادر عن هيئة الدواء المصرية، فإن مصر تمتلك 176 مصنع دواء، وتأتي أزمات قطاع الأدوية رغم إطلاق مصر لمشروع استراتيجية توطين صناعة الدواء والذي يهدف لترسيخ التصنيع المحلي للأدوية، في مارس 2021، وافتتاح مدينة الدواء المصرية في أبريل 2021 بهدف تحويل مصر إلى مركز إقليمي لتصنيع وتصدير الأدوية بالشرق الأوسط، ومن المفترض أن يتم افتتاح مدينة الخامات الدوائية والتي تضم 3 مصانع، وخلال الربع الأول من عام 2024. |
85% من مدخلاتها مستوردة
يرى عضو مجلس النقابة العامّة للصيادلة الدكتور أحمد أبو دومة، أنّه لا يمكن القول بأنّ هناك أزمة نقص أدوية إلّا إذا كان هناك نقص في الدواء والمادّة الفعّالة؛ إذ يوجد لكلّ اسم تجاريّ لدواء حوالي 10 إلى 15 صنفًا يحمل نفس المادّة الفعّالة باختلاف التركيز والشركة المصنّعة له، لكنّ تمسّك المريض أو الطبيب بالاسم التجاريّ قد يصنع جزءًا من أزمة نقص الأدوية، ومن هنا تأتي المطالبة بكتابة المادّة الفعّالة بدلًا من الاسم التجاريّ كاشفًا عن أنّ هناك نقصًا حدث في بعض الأوقات لعدد محدود من المجموعات الدوائيّة بالجملة كأدوية الغدّة الدرقيّة، لكنّ الشركات المصريّة سارعت إلى إنتاج بدائل لها، ممّا أدّى إلى حلّ الأزمة جزئيًّا، مبيّنًا أنّ السوق عمليّة متحرّكة، وقد يحدث نقص في أصناف أو مجموعات دوائيّة معيّنة في شهر ما، ثمّ ينتهي سريعًا، وينتقل النقص لمجموعات وأصناف أخرى.
ويؤكّد “أبو دومة” لـ”زاوية ثالثة” أنّ مشكلة صناعة الدواء في مصر تتمثّل في أنّ 85% من مدخلاتها تأتي من الخارج، بدءًا من موادّ فعّالة ومرورًا بالورق والكرتون والأحبار والألمونيوم، نافيًا وجود سوق سوداء للدواء المنتج محلّيًّا أو المستورد المصرّح بتداوله بمصر لوجود التسعيرة الجبريّة الّتي تحول دون التلاعب بسعره؛ باستثناء عصابات تهريب الأدوية المستوردة، الّتي غالبًا ما تكون غير صالحة للاستخدام، وتسبّب مشكلات صحّيّة، وقد يروّجون لها على مواقع التواصل الاجتماعيّ.
ويلفت عضو مجلس الصيادلة لكون بعض مصانع الدواء ترى أنّه في ظلّ ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازي، فإنّ التسعيرة الجبريّة الّتي حدّدتها هيئة الدواء غير عادلة، ولا تؤدّي إلى مكسب تجاريّ. وقد يؤدّي إلى الخسارة وهو ما أدّى إلى مراجعة الأسعار، لكنّ ذلك خلق أزمة داخل الصيدليّات بسبب وجود الصنف الدوائيّ بأكثر من سعر واضطرارها إلى البيع بالسعر المكتوب، ما دمّر اقتصاد الصيدليّات والّتي يتمثّل رأس مالها في عدد من عبوّات الدواء، ومن ثمّ باتت تواجه عجزًا ماليًّا عند شراء الأصناف نفسها بالأسعار الجديدة.
تأمين صحّيّ شامل يحلّ الأزمة
لا يرى مدير برنامج الحقّ في الصحّة بالمبادرة المصريّة للحقوق الشخصيّة الدكتور علاء غنام، أزمة نواقص الأدوية بمعزل عن الوضع الاقتصاديّ العامّ والأزمة الاقتصاديّة الّتي ألقت بظلالها على تقديم الخدمة الصحّيّة وتوفير الدواء وجعلهما تحت رحمة العرض والطلب في السوق، لعدم تحقيق التأمين الصحّيّ الشامل، الّذي يعدّ الضمان الوحيد لكبح جماح الخلل السعريّ للدواء وإيجاد آليّات للسيطرة على السوق والخروج من الأزمة الاقتصاديّة والحدّ من العلاقة بين الجنيه والدولار.
ويعد التأمين الصحي الاجتماعي الشامل نظامًا صحّيًّا إلزاميًّا تكافليّ اجتماعيًّا في مصر، يعمل وفق القانون رقم 2 لسنة 2018 الّذي ينصّ على أنّ التأمين الصحّيّ الاجتماعيّ الشامل نظام إلزاميّ، يقوم على التكافل الاجتماعيّ، وتغطّى مظلّته جميع المواطنين المشتركين في النظام، وتتحمّل الدولة أعباءه عن غير القادرين بناء على قرار يصدر من رئيس مجلس الوزراء.
وحسب تصريحه إلى “زاوية ثالثة” يرى “غنام” أنّ الأزمة تتجاوز نواقص بعض الأدوية، وتمتدّ لوجود خلل سعريّ يجعل المواطن يشتري دواء ما بسعر معيّن من صيدليّة، ثمّ يجده بسعر مختلف في صيدليّة أخرى، بشكل يشير إلى وجود فساد وتلاعب في عمليّة الإنتاج، بينما يشكو المصنّعون من ارتفاع تكاليف صناعة الدواء؛ بسبب الدولار ويرغبون في رفع أسعار الدواء على المرضى، معتبرًا أنّ الحلّ يتمثّل في أن تحمل طرفًا ثالثًا، وهو التأمين الصحّيّ، لفارق السعر عبر منظومة الشراء الموحّد لتقليل هامش ربح المصانع، إضافة إلى تعميم التأمين الصحّيّ الشامل، ولو على مستوى الهيئات الصحّيّة الأساسيّة وتوفير مظلّة رعاية صحّيّة، ورفع موازنة وزارة الصحّة، وأنّ تصرّف الأدوية من التأمين الصحّيّ بوصفة طبّيّة وفقًا للاسم العلميّ، وليس العلامة التجاريّة.