الدعاية أو البروباجندا، تٌعرّف على أنّها التلاعب بتدفّق المعلومات وخداع المُتلقّين، ونشر المعلومات المُضلّلة. وفي معناها الأكثر تعميمًا، تُشير البروباجندا إلى نشر أو ترويج أفكار معيّنة لها أهدافها، وتعني “الانتشار” أو “البذور” في اللغة اللاتينيّة.
وفي الأدبيّات ابتكر إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي نموذج الدعاية، ليتعمّقا في شرح أساليب استخدام النخبة الحاكمة (سياسيًا واقتصاديًا) لوسائل الإعلام الجماهيريّة، سعيًا “لإنتاج الموافقة العامّة” على القرارات السياسيّة أو الاقتصاديّة الصعبة، وحتّى تلك القرارات الحمقاء التي لا يمكن قبولها في ظروف عاديّة، إذ أنّ الدعاية هي محاولة للسيطرة على الرأي العامّ من خلال سيطرة النخبة على وسائل الإعلام، والّتي في النهاية ستنجح مؤقتًا في إخضاع الجماهير لما تسمعه بشكل متكرر.
تُريد الآلة الإعلامية الخاضعة للسلطة أو رجال الأعمال أو حتى رجال الدين؛ أن تقيد الحريات الفردية والاختيارات الشخصية، إذ تتحكم الرسالة أو مرسلها في أغلب القنوات في مضمون المعلومات الموجهة.
في كتابهما “الدعاية والإقناع” يعرف جارث جويت وفيكتوريا أودونيل البروباجندا على أنها فن يتطلب قدرة استثنائية وفهمًا عميقًا لطبيعة وأخلاق مجموعات مختلفة من الناس. واستخدمت الأنظمة الفاشية الدعايا الشمولية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية. لذلك، غالبًا ما تحتوي الدعاية على الخداع والانتقائية الاستراتيجية، وحجب المعلوماتـ والنداءات العاطفية واللعب على مشاعر المجتمع، كما أنها في حاجة إلى المبالغة والبلاغة والقدرة على تضخيم ما هو صغير والتقليل من شأن ما هو عظيم أو جلل.
لا تؤثّر الدعاية على عامّة الناس فحسب، بل تؤثّر أيضًا على المثقّفين ووسائل الإعلام، وتقلّل من وعيهم؛ وفقًا لنعوم تشومسكي، فإنّ وسائل الإعلام والمثقّفين والجمهور قادرون على الحفاظ على نبرة أخلاقيّة عالية ومحقّة في الوقت ذاته مع البقاء غير مدركين للواقع؛ هذا يدلّ على استراتيجيّة دعاية ناجحة للغاية.
تستخدم كلمات مثل الأكاذيب والتشويه والخداع والتلاعب والسيطرة على العقل والحرب النفسيّة وغسيل الدماغ بشكل شائع كمرادفات ومعاني للدعاية. وفي مصر على وجه الخصوص، تحوّلت أغلب وسائل الإعلام إلى دعاية تملكها الدولة، أو يملكها رجال الإعلام، فرق كبير وشاسع بين الدعاية وبين الصحافة والإعلام. الإعلام يجب أن يخبر الحقائق مجرّدة، والدعاية قد تسوق لك منتجًا على أنّه الحلّ لأن تعيش بشكل أبديّ، وهذا هو الأسلوب الّذي تتّخذه الآلة الدعائيّة في حملاتها التسويقيّة المدفوعة ضدّ الصحفيّين المستقلّين أو منظّمات حقوق الإنسان والسياسيّين المعارضين، فمحاولات التشويه الجماعيّة المنظّمة هي دعاية لا صحافة ولا إعلام، وهي دعاية ناجحة في كثير من الأحيان، وأدّت إلى اتّهامات بالتخابر لصالح العدوّ.
يعرف الكاتب جون كورنر العديد من مكونات الدعاية الرئيسية وهي ما أطلق عليها مفاتيح الدعاية أو البروباجندا:
الكذب: أحد مكوّنات الدعاية هو الإنشاء المتعمّد ونشر الأكاذيب. وفي حالة مصر، استخدم الجنرالات حملات تشويه قدّمت كلّ ما هو متعلّق بثورة يناير كعملاء للفوضى. وانتشرت نظريّات المؤامرة المتعمّدة لغسل أدمغة الناس وإشباع مناقشات السياسات العامّة بالمعلومات الكاذبة والأخبار الزائفة والأكاذيب الصارخة.
حجب المعلومات: هو الركيزة الثانية للدعاية الّتي حدّدها كورنر لمكوّنات الدعايا. يتزامن حجب المعلومات مع حالة مصر، إذ حجبت السلطات المصريّة 606 مواقع إلكترونيّة، بما في ذلك 16 موقعًا إلكترونيًّا تتعلّق بقضايا حقوق الإنسان (مسار 2021). يؤكّد حجب مواقع منظّمات حقوق الإنسان ما قاله لي جمال عيد في احدى لقاءاتي الصحفية به، أنّ الهدف من هذه الدعاية هو إرباك تقاريرنا عن الحقائق الّتي تثبت انتهاكات النظام لجميع فئات الشعب. علاوة على ذلك، استغلّ النظام الاستبداديّ المصريّ الشعبويّة الدينيّة والقوميّة لتجاهل حقائق القمع وحرمان حرّيّة تدفّق المعلومات.
الانتقائيّة الاستراتيجيّة: ما يعني حذف المعلومات ذات الصلة الّتي تتعارض مع الموقف الخاصّ بمن يتحكّم في الدعاية. وقد ينطوي ذلك أيضًا على دمج موادّ ذات صلة مشكوك فيها تدعم الأفكار الّتي تُطْرَح. وفقًا لمنظّمات حقوقيّة خمسة أجريت معها مقابلات في أثناء إعدادي رسالة الماجستير عن تأثير البروباجندا على العمل الحقوقيّ في مصر، لا يسمح للمدافعين المصريّين عن حقوق الإنسان بالظهور في وسائل الإعلام المصريّة، وهو ما يعني انتقائيّة استراتيجيّة مخطّطة ومحكمة.
المبالغة: أحد أهمّ مكوّنات الدعاية هو المبالغة؛ ما يشكّل “تحريفًا” متعمّدًا لجدوى ما يتمّ عرضة، وهذا بالطبع ما يحدث في مصر في قضايا تتعلّق بالإعلان عن مشاريع قوميّة كقناة السويس الثانية أو التفريعة الثانية وغير من مشاريع الطرق والكباري والعاصمة الإدارة.
في كتابهما “الاقتصاد السياسيّ لوسائل الإعلام” يحلّل كلّ من إدوارد هيرمان ونعوم تشومسكي نموذج الدعاية والمنظور الأداتيّ لكيفيّة استخدام النخبة المتحكّمة في وسائل الإعلام الجماهيريّة من أجل إنتاج الموافقة العامّة هناك عدّة عوامل تبقي بعض المعلومات بعيدة عن الناس منها:
الملكيّة: الشركات العملاقة الّتي تدير وسائل الإعلام وتتحكّم في الأخبار.
المعلنين: الأموال للمعلنين الّذين يؤثّرون في سياسة وسائل الإعلام.
مصادر المعلومات: الّتي تعتمد على المسؤولين الحكوميّين كمصدر رئيسيّ للمعلومة.
وجميعها في النهاية تؤدّي إلى ما أطلقا عليه “الهيمنة” وهي السيطرة على وسائل الإعلام. وفي حالة مصر، يمكن القول إنّ النظام العسكريّ والنخبة الاقتصاديّة يمارسون الهيمنة من خلال سيطرتهم على وسائل الإعلام والدعاية. ويقوم الصحفيّون المستقلون الّذي يحاولون الخروج من الصفّ القوميّ أو العقائدي: بمقاومة تلك الهيمنة في ظروف صعبة وقاسية، في مواجهة السجن والاختفاء والتغريب والتشويه وقطع الأرزاق والاختفاءات القسريّة.
يأتي اليوم العالميّ لحرّيّة الصحافة هذا العام ومصر تحتلّ المركز 170 من 180 دولية وفق التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2024، الصادر عن مراسلون بلا حدود، ممّا يطرح تساؤلات عن مدى شجاعة هؤلاء المستمرّين في العمل الصحفيّ المستقلّ وسط هذه البيئة غير المشجّعة. فبينما ينصّ الدستور المصريّ على ضمان حرّيّة الرأي والتعبير، تشير التقارير الحقوقيّة ووقائع الرصد إلى استمرار نمط من الانتهاكات الّتي تستهدف تكميم الأفواه وتقييد حرّيّة الصحافة.
إنّ معاداة الصحافة وقمعها والسيطرة عليها ينبع في الأساس في كلّ البيئات المعادية للديمقراطيّة والأنظمة الفاسدة، تتجلّى خطورة الصحافة غير الدعائيّة، في أنّها تضع الفسدة والقتلة في خطر، خطر على الثروات الّتي قد يكونوا نهبوها من شعوب فقيرة، أو خطر كشف انتهاكات لا يدركها العالم ما يؤدّي إلى محاكمات تنتهي بالسجن.
لقد سخفت الآلة الدعائيّة مهامّ الإعلام والصحافة إنّ توجيه الشتائم والتخوين والسباب والاتّهام من دون سند؛ كلّها أساليب دعائيّة، يظنّها كثيرون صحافة،وما هي كذلك. نجحت تلك الآلة الدعائيّة في ترسيخ الربط بينهما (الدعاية والصحافة) ما يعني ربط النفاق بالنضال الصحفي؛ لكنّ الواقع أنّ الصحافة مهنة وجودها لا يقلّ أهمّيّة من وجود هيئات قضائيّة عادلة أو عسكريّة قويّة تحمي الحدود، هناك العديد من الصحفيّين الشجعان الّذين كشفوا الفساد، وقادوا إلى محاكمة الفاسدين حول العالم؛ في الولايات المتّحدة كشف الصحفيّان بوب وودوارد وكارل بيرنشتاين من صحيفة واشنطن بوست فضيحة ووترجيت عام 1972، الّتي أدّت في النهاية إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. وكشف الاتّحاد الدوليّ للصحفيّين الاستقصائيّين عن ملايين الوثائق المسرّبة من شركة موساك فونسيكا للخدمات القانونيّة، ممّا كشف عن شبكة عالميّة من التهرّب الضريبيّ وغسيل الأموال تورّط فيها العديد من الشخصيّات البارزة. وأوراق Pandora الّتي كشفت ملايين الوثائق المسربة الّتي لنعلم أنّ هناك ثروات سرّيّة وأصولًا مخفيّة لزعماء وشخصيّات عامّة، بما في ذلك شخصيّات من العالم العربيّ ومصر. وفي جنوب أفريقيا كشفت الصحافة عن شبكة من الفساد تورّط فيها الرئيس السابق جاكوب زوما وشركاؤه. وفي أوروبا فضيحة LuxLeaks: إذا كشفت مجموعة من الصحفيّين الاستقصائيّين عن مئات الاتّفاقيّات الضريبيّة السرّيّة بين شركات متعدّدة الجنسيّات ودوقيّة لوكسمبورج، ممّا سمح للشركات بالتهرّب من دفع مليارات الدولارات من الضرائب.
وأزعم أنّ في مصر عددًا من القضايا الّتي نناضل كصحفيّين لكشفها، لكن كشفها محاط دائمًا بالمخاطر، ما بين التهديدات والمضايقات والاعتقالات وحتّى القتل، وأزعم أيضًا أنّ لهذا وجد موقعنا “زاوية ثالثة”. ورغم هذه المخاطر، يواصل الصحفيّون المصريّون لعب دور حاسم وضروري، ويواجه هيمنة إعلاميّة بدأت منذ سنوات عدّة.
إذا ترك الصحفيّون الساحة للدعاية الإعلاميّة، ستكون العواقب وخيمة على المجتمع المصريّ، وستتحوّل البلاد إلى مسوخ جماعيّة تعيش على استقبال المعلومات المضلّلة كلّ يوم عبر مضخّمات الصوت الإعلاميّة. سيشكّل الرأي العامّ بناء على اجتماع في مكتب أمنيّ، وسيصبح من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال، وسيشعر المجتمع بالعزلة والتهميش؛ نظرًا لعدم تمكّنه من الوصول إلى حقائق تخصّه، ممّا يضعف المشاركة السياسيّة والثقة بإجراءات سياسة مستقبليّة، كما سيصبح من الصعب إيجاد أرضيّة مشتركة للحوار والتفاهم بين، إذ أنّ إعلامًا بصوت واحد، لا يؤدّي إلّا إلى نشر الكراهية والاستقطاب وعدم قبول الآخر. كما سيصبح الوطن حسابًا بنكياً مفتوحًا غير محدود السحب لمجموعة من الفسدة، لا يجدون من يراقبهم ولا يكشف فسادهم.
إنّ وجود صحفيين مستقلين يستحقّ دعمًا شعبيًّا، حتّى لو لم يكن علنيًّا، يحدث هذا بالالتفات إلى أعمالهنّ الجادّة الّتي تؤدي دورًا حيويًّا ومهمًّا في، وتتضاعف هذه الأهمّيّة نظرًا للتحدّيات والقيود الّتي يواجهها الصحفيّون. ففي اليوم العالميّ لحرّيّة الصحافة، أحيي كلّ زميل صحفيّ ما زال يقاوم التحكّم بالسرديّة، ويقاوم توجيه الرأي العامّ.
:مصادر
Corner, J. (2007). Mediated politics, promotional culture and the idea of propaganda’. Media, Culture & Society, 29(4), 669-677.
Herman, E. S., & Chomsky, N. (2010). Manufacturing consent: The political economy of the mass media. Random House.
Jowett, G. S., & O’donnell, V. (2014). Propaganda & persuasion. Sage publications.
Lock, I., & Ludolph, R. (2020). Organizational propaganda on the Internet: A systematic review. Public Relations Inquiry, 9(1), 103-127.
Mhiripiri, N. A., & Ureke, O. (2018). Theoretical paradoxes of representation and the problems of media representations of Zimbabwe in crisis. Critical Arts, 32(5-6), 87-103.
Mullen, A., & Klaehn, J. (2010). The Herman–Chomsky propaganda model: A critical approach to analysing mass media behaviour. Sociology Compass, 4(4), 215-229.
Taylor, M., & Kent, M. L. (2014). Dialogic engagement: Clarifying foundational concepts. Journal of public relations research, 26(5), 384-398.
Ziada, A. G. (2022). The Impact of State Propaganda on Egyptian Human Rights Organisations: Objectives of Propaganda, Egyptian Media Alternatives, and Organisations’ Reaction. Département de Science politique, ULB University.