“تجولت بداية أكتوبر الماضي في معارض الأجهزة الكهربائية المختلفة للبحث عن الأجهزة التي أحتاجها استعداداً لزفافي، وعندما عاودت مرة أخرى للشراء في منتصف الشهر ذاته وجدت الأسعار قد ارتفعت بشكل ملحوظ. سألت مالك المعرض عن سبب الزيادة رد قائلاً: “الأسعار تشهد ارتفاعًا يوميًا، ولن تتوقف، فبادري بشراء ما قد تحتاجينه اليوم قبل الغد ” ذلك ما وصفته رحمة -عروس تستعد لتجهيز منزل الزوجية-، مضيفة أنها وجدت تفاوت ملحوظ بين المعارض وبعضها في تسعير نفس الأجهزة.
تقول رحمة إنه خلال الشهور الثلاثة الأخيرة، شهدت كافة السلع ارتفاعًا متزايدًا، في حين أن بعضها غير متوفر بالأسواق. وأعربت عن مخاوفها من استمرار رفع الأسعار خاصة أنها لم تنته من استكمال جهازها.
وتعاني مصر من أزمة ارتفاع الأسعار منذ بدء برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي قاده الرئيس عبد الفتاح السيسي في العام 2016، حيث شرعت الحكومة المصرية في تعويم العملة المحلية، واقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، ما صاحبه ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار السلع والخدمات كافة. لكن الناظر إلى الوضع منذ تفجر الصراع بين سلطة الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة يوم 7 أكتوبر الماضى، يرى تأثيرات حلّت على السوق المصري والاقتصاد جراء الحرب المجاورة. وفي الأسابيع القليلة الماضية، أشار محللون اقتصاديون إلى أن الهجمات التي أطلقها الحوثيون من اليمن ربما أيضًا تسببت في موجة ارتفاع أسعار شديدة وقاسية. |
وقد أطلق الحوثيون العديد من الهجمات لاستهداف جميع السفن الإسرائيلية أو المتجهة لفلسطين المحتلة من ناحية مضيق باب المندب المطل على اليمن وجيبوتي جنوب البحر الأحمر. ومع تصعيد هجماتهم على السفن، شكل ذلك تهديداً للملاحة الدولية، ما أظهر مشكلات أخرى على المستوى الاقتصادي؛ فتأثرت عملية مرور سفن الشحن في المنطقة، خاصة تلك المتعلقة بقناة السويس، ما أثر بدوره على البضائع وأسعارها وتكلفة الشحن و تأمينها ضد المخاطر، ونتج عن ذلك ارتفاع متفاوت في أسعار العديد من المنتجات والسلع خاصة التي يتم استيرادها من الخارج.
وسجل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، معدل تضخم سنوي لأسعار السلع بإجمالي 36.4% خلال نوفمبر الماضي، في مقابل 38.5% خلال أكتوبر 2023. وقد تأثرت مصر بالموجة العالمية لزيادة أسعار الغذاء بنسبة ارتفاع 13.7% للسلع الغذائية في أكتوبر الماضي مقارنة بنفس الشهر العام الماضي. كما شهدت الأسواق المصرية زيادة في أسعار بعض السلع الأساسية خلال الثلاثة الشهور الأخيرة للعام 2023، أبرزها الأرز ليصل إلى أكثر من 30 جنيهًا للكيلو، واقترب الفول من مستوى 40 جنيهًا، والسكر 50 جنيهاً، وفقًا لبيانات بوابة مجلس الوزراء لأسعار السلع. |
ومع استمرار تصاعد الأحداث، زادت المخاطر التي تواجه شركات التشغيل التجاري داخل البحر الأحمر والتي من المرجح أن تشهد معدلات مرتفعة من التوتر على المدى القصير والمتوسط، وفي المقابل تظل الأسعار في ارتفاع مستمر.
السلع في مهب الهجمات
قال رئيس غرفة الجيزة التجارية أسامة شاهد، في حديثه إلى “زاوية ثالثة” إن الهجمات التي تتعرض لها السفن في منطقة البحر الأحمر تسببت في ارتفاع أسعار الشحن والتأمين، إضافة إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة في مصر بشكل عام خاصة المكونات التي يتم استيرادها من الصين والتي كانت تمر عبر منطقة البحر الأحمر. مضيفاً أنه مع استمرار الهجمات التي يشنها الحوثيون، تضطر السفن إلى استخدام طريق رأس رجاء الصالح والدوران حول أفريقيا والتفريغ في البحر المتوسط، بدلا عن قناة السويس والبحر الأحمر. مشيرًا إلى أنه تم رفع أسعار الشحن من قبل الشركات التي تتعامل معها مصر في الصين ودول آسيا من 3000 دولار إلى 10,000 دولار للكونتينر الواحد، مؤكداً أن هذه الزيادة سوف تلقي بظلالها على الأسعار النهائية التي تصل للمستهلك النهائي، لاسيما مع زيادة الفترة الزمنية لرحلة السفينة ذاتها. والتي أثرت بدورها على تكاليف شحن البضائع عبر البحر الأحمر والتي ارتفعت بشكل ملحوظ.
وأضاف رئيس غرفة الجيزة التجارية أن مصر تمتلك أكبر حجم تبادل تجاري مع الصين، والبحر الأحمر يعد هو الطريق الرئيسى لهذا التبادل الذي أصبح مهددًا نتيجة الهجمات، فمن المتوقع أن ترتفع كافة السلع التي يتم استيرادها تأثرا بالأزمة الحالية -على حد وصفه-، موضحاً أن معظم مكونات الإنتاج التي تدخل في الصناعات الهندسية وصناعات الأخشاب والأدوات الصحية وأيضًا الأجهزة الكهربائية يتم استيرادها من الصين.
وتوقع أنه فى حال استمرار هذه الأوضاع أن يؤدي ذلك إلى تفاقم الأزمة التي يعاني منها السوق المصرية من عدم توافر الأجهزة الكهربائية خلال الفترة الماضية، وأيضاً ارتفاع أسعارها بشكل أكبر، مضيفاً أن شركات الشحن الكبرى والتي تسيطر على 55% من التجارة العالمية تحرص حالياً على تجنب المرور في منطقة البحر الأحمر ومنها إلى قناة السويس مما ينتج عنه خفض الإيرادات الخاصة بالقناة ومساهمتها في الدخل القومي.
وحسب البيانات الرسمية، فقد بلغ حجم التبادل التجارى بين مصر والصين 14.9 مليار دولار خلال الـ11 شهرًا الأولى من العام 2022، مقابل 14.5 مليار دولار خلال نفس الفترة من 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 2.6%، ارتفعت قيمة الصادرات المصرية للصين مسجلة 1.7 مليار دولار خلال الـ11 شهراً الأولى من عام 2022 مقابل 1.4 مليار دولار خلال نفس الفترة من عام 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 20.8%، كما بلغت قيمة الواردات المصرية من الصين بلغت 13.2 مليار دولار خلال الـ11 شهر الأولى من 2022 مقابل 13.1 مليار دولار خلال نفس الفترة من 2021 بنسبة ارتفاع قدرها 0.6%. |
وفي بيان صادر عن شعبة النقل الدولي واللوجستيات بغرفة القاهرة التجارية. توقع سكرتير عام الشعبة، عمرو السمدوني، تأثر أسعار السلع المستوردة في مصر بشكل عام حال استمرار الهجمات التي يشنها الحوثيون في اليمن والتي تستهدف السفن في البحر الأحمر. مشيرًا إلى أن تكلفة نولون الشحن- وهو قيمة أجور وعمولة شركة الشحن القائمة بأعمال تخليص الشحنة- تشكل من 50 إلى 60% من قيمة السلع، مضيفا أنه في حال استمرار التوترات، سترتفع الأسعار بلا شك خلال الفترة المقبلة. خاصة وأن الإبحار حول أفريقيا يزيد مسافة رحلة السفن بنحو 3200 ميل مقارنة بعبور قناة السويس، ويضيف نحو مليون دولار إلى تكلفة الوقود للرحلات.
ووفقا لبيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تراجع الرقم القياسي لصناعة الأجهزة الكهربائية 110.56 خــلال شهــر أكتوبر 2023 مقارنة بشهر سبتمبر 2023، حيـث بلـغ 112.51، بنسبة انخفاض قدرها 1.73%، وذلك بسبب عدم توافر المواد الأولية اللازمة للإنتاج.
وبلغ الرقم القياسي لصناعة الخشب ومنتجاته والفلين عدا الأثاث 31.77 بشهر سبتمبر 2023 مقارنة ب 33.43 خـلال شـهـر أكتوبر 2023 بنسبة انخفاض قدرها 5.23%، وذلك وفقا لاحتياجات السوق.
في نطاق المناطق الخطرة
صرحت شركات التأمين البحرية في لندن أنه تم توسيع المناطق الخطرة في البحر الأحمر بعد زيادة الهجمات على السفن التجارية، واعتبرت منطقة جنوب البحر الأحمر منطقة عالية المخاطر، وأنه يجب على السفن الإبلاغ عند مرورها في هذه المناطق ودفع رسوم إضافية للتأمين لفترة تغطية تصل إلى 7 أيام.
ونتيجة لذلك فقد ارتفعت أقساط مخاطر الحرب إلى ما يتراوح بين 0.1% و0.15% إلى 0.2% من قيمة السفينة، مقارنة مع 0.07% للفترة التي سبقت التصريح، فإن هذا لا يزال يترجم إلى عشرات الآلاف من الدولارات من الكلفة الإضافية لرحلة تستغرق مدة زمنية لا تتجاوز السبعة أيام.
من جانبه بيّن محمد خليفة -خبير التأمين الاستشاري-، أن التأمين البحري يتأثر بشكل مباشر بالتوترات والصراعات التي تتعرض لها السفن خلال الرحلة، حيث أن قيمة التأمين يتم تقديرها وفقاً لحجم الخطر الذي تتعرض له السفن، وفي ظل ارتفاع وتيرة هجمات الحوثيين على السفن في منطقة البحر الأحمر أدى ذلك إلى ارتفاع أسعار التغطيات التأمينية البحرية سواء على السفن أو السلع التي يتم نقلها وأيضاً أسعار الشحن ذاتها.
وأوضح خليفة خلال حديثه إلى “زاوية ثالثة” أن التهديدات التي تتعرض لها السفن في هذه المنطقة تم تصنيفها على أنها هجمات إرهابية وذلك يعد أخطر أنواع التأمين، مما أدى إلى رفع أسعار الخدمات التأمينية. مضيفاً أن أسعار التأمين على السفن التي تلجأ إلى طريق رأس رجاء الصالح شهدت ارتفاعا في الأسعار أيضا مع زيادة مدة الرحلة التي تزيد معها الأخطار التي يمكن أن تتعرض لها. مؤكداً أن كل هذه التغيرات تلقي بظلالها علي السعر النهائي والذي يتحمله المستهلك.
وتوقع خبير التأمين الاستشاري أن الأوضاع الراهنة يمكن أن تؤثر على إتفاقيات إعادة التأمين التى من المفترض أنه يتم تجديدها خلال الفترة الحالية بإضافة بعض من الشروط أو زيادة أسعار بعض من أخطار التأمين البحري من قبل شركات الإعادة في الأسواق الأوروبية والإنجليزية.
ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد تراجع العجز في الميزان التجاري بنسبة 38.5% خلال شهر نوفمبر الماضي ليسجل 2.15 مليار دولار 2021. وأشار إلى انخفاض قيمة الصادرات بنسبة 17.8% خلال نوفمبر الماضي مسجلة 3.79 مليار دولار. وقد تراجعت قيمة الواردات بنسبة 26.8% خلال نوفمبر الماضي، لتسجل 5.94 مليار دولار.
الشحن التجاري ضحية
وفي سياق متصل قال الدكتور صلاح الدين فهمي -أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر-، أن تعرض أي سفينة في منطقة البحر الأحمر لهجوم يؤثر بشكل مباشر على حركة التجارة في المنطقة بأكملها، لاسيما مصر والتي تستفيد من هذا الممر المائي بشكل مضاعف سواء من خلال التبادل التجاري مع الدول الأخرى أو عبور السفن في قناة السويس والتى تحقق إيرادات للدخل القومي . ويتوقع زيادة أسعار السلع المختلفة خاصة التي يتم استيرادها خلال الفترة القادمة بسبب هذه الهجمات والتي تسببت في رفع أسعار الشحن والنقل والتأمين ايضاً.
وأضاف أن الشحن التجاري في منطقة البحر الأحمر ضحية للصراعات السياسية الملتهبة التى تمر بها المنطقة في العديد من الدول المختلفة. خاصة مع التحرك العسكري من قبل الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة هذه الهجمات التى باتت تهدد الملاحة الدولية.
وقد أعلنت أربعة شركات شحن عالمية، تحويل رحلاتها بشكل مؤقت من قناة السويس إلى طريق رأس الرجاء الصالح، وتُمثل الشركات الأربع نسبة 53.3% من إجمالي حركة الشحن البحري عالميًا، إذ تمتلك شركة MSC السويسرية نسبة 19.3% من إجمالي حركة الشحن البحري، و ميرسك الدنماركية نسبة 15%، و CMA CGM” الفرنسية نسبة 12%، وهاباج لويد الألمانية نسبة 7%، وفقًا لبيانات Statista المتخصص في الإحصائيات.
قبل إعلان تلك الشركات تعليق الحركة من قناة السويس، حولت 55 سفينة طريق عبورها لرأس الرجاء الصالح منذ 19 نوفمبر الماضي وحتى 17 ديسمبر، ولكن مر عبر القناة 2128 سفينة أخرى، بحسب رئيس هيئة قناة السويس الفريق أسامة ربيع . ويبلغ متوسط عبور السفن في قناة السويس ما بين 50 إلى 60 سفينة يوميًا بمتوسط سنوي حوالي 19 ألف سفينة، وفقًا للتقرير الشهري الصادر عن حركة الحاويات البحرية.
وفي ظل أزمة تصاعد التهديدات الأمنية في منطقة باب المندب فإن ذلك سيؤثر على كافة الدول المطلة على البحر الأحمر، فتلك التهديدات جعلت الأمر أصعب لاستخدام طريق الشحن الحيوي المختصر. مما دفع الكثير من شركات الشحن العالمية لتحويل مسار شحناتهم لطريق رأس الرجاء الصالح، والذي يضيف مسافة كبيرة لرحلة سفينة الشحن، وبالتالي يزيد مدة الرحلة (ربما لأسابيع) ويرفع التكلفة التى تلقى بظلالها على الأسعار بشكل مباشر.