في الرابعة فجرًا تستيقظ “رؤيات” التي تسكن بقرية الشرقية إحدى قرى مركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، لـتستعد لرحلتها اليومية الشاقة التي تخوضها منذ أكثر من 36 عامًا. فـقبل بزوغ النهار، تخرج من منزلها، وتستقل مع مجموعة من نساء قريتها شاحنة نصف نقل، تنقلهم إلى إحدى القرى المجاورة حيث يعملون في جمع الخضر والفاكهة وبعض المحاصيل الزراعية الأخرى.
ساعة تقطعها السيارة (قد تزيد أو تنقص)، تقضيها “رؤيات” في مساحة صغيرة لا تقوى على التحرك كثيرًا، حيث تتكدس أكثر من 30 امرأة في حاوية شاحنة مخصصة لنقل البضائع. “على طول الطريق نتمسك ببعضنا البعض، نسقط مع كل هزة على جانبي السيارة، ثم ننهض مرة أخرى، هكذا نصل إلى المزارع”، تقول رؤيات.
يمثل القطاع الزراعي، بحسب البنك الدولي، ما يُقدّر بحوالي 19% من إجمالي مجموع العاملين في مصر لعام 2022، فيما تُشّكل النساء 45% من القوى العاملة في القطاع الزراعي، بحسب الدكتورة شريفة شريف، المدير التنفيذي للمعهد القومي للتنمية المستدامة (الذراع التدريبي لوزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية).
تشارك العمالة الزراعية من النساء بشكل كبير في المهام الكثيفة مثل الحصاد ومكافحة الآفات اليدوية وأيضًا إزالة الأعشاب الضارة، إضافة إلى ذلك، فإن 94% من الحصاد فى صعيد مصر تقوم به النساء و67% في الوجه البحري، وذلك بحسب المعهد القومى للتنمية المستدامة. |
تعمل “رؤيات” في الزراعة منذ بلوغها سن السادسة؛ لمساعدة أسرتها التي تتكون من والديها وسبعة أشقاء آخرين، حيث كان والدها يعمل أيضًا كعامل زراعي باليومية، ومنذ 20 عامًا، وبعد زواجها، أصبحت رؤيات العائل الوحيد لأسرتها التي تتكون من ستة أفراد، وذلك بعد إصابة زوجها في حادث عقب زواجهما بثلاث سنوات فقط.
من بين 25.8 مليون أسرة في مصر، 4.4 مليون أسرة، بنسبة 17% من إجمالى عدد الأسر المصرية تعولها امرأة، وفقًا لبيان الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء الصادر في اليوم العالمي للأسرة في عام 2023. |
بحسب دراسة للباحثة في دراسات النوع الاجتماعي “منى عزت” تحت عنوان “العاملات الزراعيات، حقوق ضائعة”، فإن العاملات الزراعيات في مصر تتعرضن لأنواع مختلفة من العنف والمخاطر أثناء عملهن، حيث لا تتوفر لهن وسائل نقل آمنة، فيتم نقلهنَ في عربات غير لائقة ويتعرضنَ للخطر الذي يصل في بعض الأحيان إلى الموت أثناء ذهابهنَ إلى الحقول والمزارع، وكذلك لدي عودتهنَ، وفي حالة الإصابات التي تسبب العجز أو الوفاة تفقد الأسرة بذلك أحد معيليها (الرجال- النساء) من دون الحصول على أي تعويض ملائم. كما تشير الدراسة إلى تعرض الكثير من المزارعات للتحرش وهنَ في طريقهن إلى الحقل وأثناء عودتهنَ، وكذلك لدى تواجدهنَ في الحقل.
ويكشف تقرير لمركز الأرض بعنوان “العمال الزراعيين في مصر والمستقبل المجهول” عن مقتل 79 عاملًا زراعيًا ما بين عمال وعاملات بالغين وفتيان وفتيات وإصابة 190 آخرين، بسبب حوادث طرق لسيارات ومعديات متهالكة غير صالحة للاستخدام، وحوادث أخرى ناجمة عن تسمم غذائي في إحدى المزارع أو نشوب حريق. واعتمد التقرير على بعض الدراسات والتقارير ذات الصلة بقطاع الزراعة وبعض الأخبار المنشورة بالجرائد المصرية خلال الفترة من ا يناير 2016 حتى 30 سبتمبر 2016 وكذلك على بعض قضايا وشكاوى المركز. |
أمل (45 عامًا)، عاملة زراعية من قرية الشرقية في مركز الإبراهيمية بمحافظة الشرقية، كانت شاهدة على وفاة إحدى صديقاتها بسبب المواصلات غير الآمنة، فـ أثناء ذهابهن إلى العمل بإحدى مزارع قرى محافظة الإسماعيلية منذ أكثر من عشر سنوات، تخطى سائق الشاحنة التي كانوا يستقلونها أحد الحواجز الاصطناعية بسرعة عالية، لتسقط ميرفت (الصديقة) على رأسها مباشرة، وتلقى مصرعها فى الحال، تاركة ابنتها التي أتمت عام واحد فقط قبل وفاتها بأسابيع قليلة، وثلاثة أبناء آخرين أكبرهم في الرابعة من عمره، بحسب أمل.
كانت “رؤيات” أكثر حظًا من ميرفت التي توفيت في الحال بعد سقوطها من السيارة، فقد نجت الأولى من حادثة مشابهة أثناء ذهابها للعمل في زراعة بذور الطماطم بإحدى قرى محافظة البحيرة، حينما كانت فى الثانية عشر من عمرها.
تقول رؤيات إنها أصيبت بكسر في الحوض وتعرضت لبعض الإصابات الأخرى، حينما اصطدمت السيارة (مقطورة زراعية) التي كانت تستقلها مع مجموعة من العاملات الزراعيات أثناء ذهابهن للعمل بإحدى المزارع. لتعود للعمل مرة أخرى بعد ثلاثة أشهر قضتها طريحة الفراش بمستشفى حكومي.
بحسب رؤيات، كانت السيارة تحمل على متنها أكثر 40 عاملة زراعية، أثناء وقوع الحادث المذكور.
إبراهيم محمد (36 عامًا) مقاول أنفار في قطاع الدلتا (فضّل عدم ذكر اسم قريته والقرى العامل بها)، يقول لـ زاوية ثالثة، إن عمله يبدأ بالاتفاق مع مُلاّك الأراضي، ثم تجميع العمال والعاملات وتوفير سيارة نصف نقل لنقلهم إلى مكان الأرض الزراعية المتفق عليها، ويتراوح عددهم فى المتوسط من 25 إلى 30 شخص يوميًا في السيارة واحدة، وبحسب إبراهيم، قد يزيد العدد أو ينقص وفقًا للمواسم الزراعية ومساحة الأرض التي يذهبون للعمل بها.
منى عزت -رئيس مجلس أمناء مؤسسة النون، معدة الدراسة-، تقول في حديثها مع زاوية ثالثة، إنه نظرًا لزيادة نسبة الأميّة بين العاملات الزراعيات وكذلك نشأتهن في مجتمعات شديدة التعقيد، يصبحن غير قادرات على الدفاع عن أنفسهن، غير قادرات على الإفصاح عن تعرضهن لأشكال مختلفة من العنف أثناء العمل، إضافة إلى تخوفهن من فقدان وظائفهن أو التعرض للنبذ داخل مجتمعاتهم الصغيرة.
لحماية نفسها من التنمر والتحرش اللفظى التي طالما تعرضت له منذ بداية عملها بالزراعة، ترتدى مني (اسم مستعار) نقاب (غطاء للوجه) أثناء استقلالها الشاحنة التي تنقلها من وإلى عملها يوميًا بالأراضى الزراعية التابعة لإحدى قرى محافظة الجيزة.
مع آذان الفجر، تخرج منى (19 عامًا) من منزلها، حيث تسكن بقرية جزيرة السلام بمحافظة الجيزة، لتستقل الشاحنة النصف نقل التي يوفرها المشرف الزراعي الذي تعمل لحسابه، وبعد مرور ساعة تقريبًا تصل منى، حيث تبدأ هي وزملائها العمل في حصاد المحاصيل حسب مواسمها المختلفة.
تحدثنا أمل التي تعمل منذ 30 عامًا عاملة زراعية، عن الفجوة في الأجور بينها وبين أقرانها من الرجال، حيث تحصل على 80 جنيه نظير يوم عمل (ما يعادل 1.7 دولار)، في حين يحصل زميلها الذي يقوم بنفس العمل على 130 جنيه باليوم (ما يعادل 2.8 دولار) وفقًا للسعر الرسمي لصرف الدولار، باستثناء موسم حصاد القمح الذي يبدأ في منتصف نوفمبر ويستمر حتى بداية ديسمبر من كل عام، إذا ترتفع الأجور قليلًا.
أما إبراهيم الذى يعمل كمقاول أنفار منذ خمس سنوات، يصل الأجر الذي يعطيه للعامل الزراعي إلى 150 جنيه (ما يعادل ثلاثة دولار تقريبًا) كأجر يومي، مقابل 80 جنيه للعاملة.
جاء قطاع الزراعة في المرتبة الرابعة من ثمانية قطاعات تحصل فيها الإناث على متوسط أجور أقل من الذكور، وفقًا لتقرير المنظمة الدولية للعمالة المنشور في 2020 بعنوان”اختيار القطاع والتقييم السريع للسوق في قطاع الأعمال الزراعية في مصر”. |
تقول نهى السيد -المحامية والمدير التنفيذي لمبادرة صوت لدعم حقوق المرأة-، لـ زاوية ثالثة إن المستوى التعليمي للنساء والفتيات العاملات بالزراعة، قد يكون أحد الأسباب الرئيسية للجوئهن للعمل بالزراعة، على الرغم من علمهن بافتقار حقوقهن، وأيضًا وعلى الرغم من إدراكهن الكامل لغياب الحماية القانونية والرعاية الصحية فإنهم يضطرون للعمل بمبالغ صغيرة بدلًا من عدمها.
تمييز قانوني
استثنى قانون العمل الموحد رقم 12 لسنة 2003 النساء العاملات في الزراعة البحتة من فصله المتعلق بتشغيل النساء، وبالتالي لا يعترف بهنَ ضمن نطاقه، حيث تنص المادة رقم 97 من القانون على: “يستثنى من تطبيق أحكام هذا الفصل العاملات في الزراعة البحتة”.
فيما تُرجع نهى السيد، دوافع المُشرّع في استثناء العاملات الزراعيات من أحكام القانون، إلى اعتبار أن طبيعة عمل المرأة في الريف يأتي على سبيل المساعدة التي تقدمها في الأعمال المنزلية، كشئ تكميلي لدورها في أعمال الرعاية المنزلية، أي أنها تساعد الرجل في الزراعة، ما يعتبر اجحافًا صريحًا بحق النساء الريفيات، واستغلال من الزوج أولًا ثم الوسيط القائم على استقطاب النساء للأعمال الزراعية، حيث يلجأون إلى الاستفادة من اليد العاملة النسائية، سعيًا وراء فجوة الأجور بين النساء والرجال.
تضيف “نهى”، أن هناك إشكالية حقيقة في غض بصر القانون المصرى عمدًا عن النساء العاملات بالزراعة، ما يترتب عليه حرمانهن من أية حقوق وضمانات، وبالتالي يستوجب هذا أولًا، سرد التحديات والظروف التي تواجهها النساء الزراعيات، ثم ومن أجل تحقيق ذلك “يجب أن نتشارك جميعنا في جلسات حوارية ونقاشات للدفع وراء تطبيق مبدأ المساواة بين الجنسين”.
جميع عاملات التراحيل التي التقت بهن زاوية ثالثة اتفقن على تعرضهن لأنواع مختلفة من أنواع العنف وسوء المعاملة أثناء عملهن، قد تصل في بعض الأحيان إلى حد العنف الجسدي من أرباب العمل.
ووفقًا للمعهد القومي للتنمية المستدامة، يعد قطاع الزراعة مسؤولًا عن 32.4% من العمالة غير الرسمية للنساء. |
توضح “عزت” لـ زاوية ثالثة، أن أحد الأسباب التي دفعتها للعمل على دراسة العاملات الزراعيات، هو التأكيد على أن هناك ضرورة ملحة للعمل على إلغاء التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه النساء العاملات بالزراعة، عن طريق التعاون والعمل المشترك بين جهات مختلفة كالحكومة المصرية والنقابات وأيضًا المجتمع المدني، حتى يتم الدفع من أجل تحسين أوضاع العمالة الزراعية من النساء فى مصر.
وتضيف: “لذلك قمنا بوضع توصيات تتضمن التعاون والعمل المشترك بين الحكومة والنقابات، كإعداد قاعدة بيانات خاصة بالعمالة الزراعية، نساءً ورجالًا من أجل العمل على تضمين هذه العمالة فى نظم الحماية الاجتماعية (المعاشات- الرعاية الصحية)، وأيضًا إجراء حوار مع أصحاب الشركات من المستثمرين وأصحاب المزارع من أجل تحسين ظروف العمل وشروطه وضمان تطبيق معايير العمل اللائق”.
قانون التنظيمات النقابية رقم 213 لسنة 2017 يتيح للعمالة الزراعية الحق في تأسيس نقابة، حيث تنص المادة الرابعة من القانون على أن “للعمال دون تمييز الحق في تكوين المنظمات النقابية، ولهم كذلك حرية الانضمام إليها أو الانسحاب منها، وذلك وفقا للقواعد والإجراءات المقررة في هذا القانون ولائحته التنفيذية، والنظم الأساسية لهذه المنظمات”. ومع ذلك واجهت هناء عبد الحكيم -رئيس نقابة صغار الفلاحين بالمنيا-، العديد من المعوقات أثناء رحلتها لتأسيس النقابة، كما أوضحت في حديثها إلى زاوية ثالثة.
تقول: “حينما توجهتُ إلى وزارة القوى العاملة، رفض الموظف المختص استلام الأوراق الخاصة بتأسيس النقابة، وحاول تعجيزي، على الرغم من اكتمال العدد المطلوب وهو 60 عضواً”. مضيفة أنها واجهت أيضًا رفضًا شديدًا داخل قريتها فقط لكونها امرأة تسعى لتأسيس نقابة، كما أطلق العديد من أهالي القرية بالتعاون مع العمدة حملة تشويه وتحريض ضدها وضد المشاركات في تأسيس النقابة. وأرجعت هناء الفضل في إتمام التأسيس إلى إصرار العضوات ووقوفهنّ خلفها وأيضًا مساندة المجتمع المدني لإتمام تأسيس أول نقابة لصغار الفلاحين تنطلق من صعيد مصر.
تم تأسيس النقابة في أبريل 2023، ووصل عدد أعضائها حتى الآن إلى 700 عضو، 95% منهم نساء، وتسعى النقابة إلى العمل من أجل رفع العنف الواقع على النساء العاملات بالزراعة وفي القلب منهن عاملات التراحيل، والدفاع عن حقوقهن. |
على الرغم من سعيها لتأسيس أول نقابة لصغار الفلاحين في صعيد مصر، إلا أن هناء تقول إن النقابات وحدها لا تستطيع تحسين أوضاع العمالة الزراعية في مصر، وأن هذا الأمر لن يتم بدون تعاون بين الحكومة المصرية والنقابات وأصحاب العمل والسعي من أجل وضع حلول لتحسين أوضاع العمالة الزراعية وخاصة النساء منها.
بعد يوم طويل، تعود “رؤيات” إلى منزلها، لتبدأ في تحضير الطعام لزوجها وأولادها، ثم تنظيف المنزل، وإطعام الطيور التي تقوم بتربيتها لمساعدتها على ظروف المعيشة، وفي نهاية اليوم تحاول سرقة بضعة ساعات من النوم، لتستيقظ مرة أخرى وتستعد لرحلتها اليومية الصباحية.
حاولنا الحصول على تعليق من الدكتور سيد خليفة -نقيب الزراعيين-، لكنه رفض التواصل مع منصتنا، معلقًا: “أدلي بتصريحات فقط للمواقع التابعة للهيئة الوطنية للإعلام”.