قبل نحو ثلاث سنوات، وفي إحدى ليالي شهر نوفمبر، تفاجأت صابرين أحمد المقيمة مع أطفالها الثلاث، في قرية الأعقاب بمحافظة أسوان، برياح عاتية تقتلع الأخضر واليابس في طريقها. نازعة معها ألواح الصاج التي تغطي سطح منزلها المقام من أحجار الجبل؛ لتنهمر بعدها الأمطار بقسوة فوق رؤوس أسرتها وتغرق أثاث منزلهم البسيط؛ فاضطروا للهروب قبل أن تنهمر مياه السيول من فوق الجبل تجاه القرية القريبة من مخرات السيول، وتطيح بهم.
بعد مضي أشهر قليلة تمكنت الأسرة من بناء منزل حجري جديد داخل قرية الأعقاب، بمساعدات من متطوعين وجمعيات خيرية، ورغم كون البيت الجديد لم يُبنى بالقرب من مخر السيل، إلا أن سقفه المصنوع من الجريد جعله شديد الهشاشة أمام التغيرات المناخية التي تشهدها أسوان ومناطق أخرى جنوب مصر، خلال الفترة الأخيرة، لتفاجئ صابرين وأطفالها بهطول أمطار غزيرة على قريتهم، يوم الجمعة الماضي، لم يصمد أمامها السقف الهش وتسللت الأمطار إلى المنزل خلال وقت قصير، محدثة تلفيات في بعض أثاثه، لكن المأساة لم تقف عند ذلك الحد؛ إذ انهمرت السيول من أعلى الجبل تجاه قريتهم، وانقطع التيار الكهربائي وغرقت القرية في المياه وسط الظلام، بحسب ما تحكي صابرين إلى زاوية ثالثة.
تقول صابرين: “تفاجئنا بقدوم السيول في الصيف، ولحسن حظنا لم تكن بنفس القوة التي كانت عليها قبل ثلاث أعوام، الخسائر هذه السنة تلفيات في أثاث منزلنا وبعض سكان القرية بسبب المطر، وسقط سقف وجزء من جدار منزل جيران لنا بالقرية وتسبب في إصابات لاثنين من أفراد أسرتهم، ولأن قريتنا لا تمتلك نظام صرف صحي، غرقت شوارعها في مياه السيل، واحترق محول الكهرباء وانقطع التيار الكهربي قرابة 12 ساعة، وأيضًا- انقطعت مياه الشرب لساعات كانت صعبة. وأتمنى أن تجد المحافظة حلًا لحماية قريتنا من السيول”.
تلجأ الأسر الأكثر فقرًا في أسوان التي لا تجد لها مأوى، إلى تكسير الحجارة من المناطق الجبلية، التي تضم العديد من محاجر الحجر الرملي، وبناء منازل صغيرة منها بواسطة الطين أو الإسمنت، وتصنع من جريد النخل أسقفًا لا تقيهم برد الشتاء أو حرارة الصيف، وسرعان ما تدمرها الأمطار الغزيرة، وتعصف بها الرياح. أحيانًا تحظى بعض تلك الأسر بأسقف من الصاج تهديها لهم الجمعيات الخيرية.
تتوزع تلك المنازل شديدة البساطة والهشاشة بين شرق وغرب أسوان، وبعضها تم بناؤه داخل المناطق الجبلية، والبعض الآخر تم بناؤه قرب مخرات السيول أو داخل المخرات نفسها؛ ما يجعلها الأكثر عرضة للتدمير عند هطول الأمطار الغزيرة ووقوع السيول؛ إذ تهطل الأمطار بغزارة على الجبال وتندفع مدمرة المنازل في طريقها. تكرر ذلك خلال الأعوام 1996، 2010، 2021، والعام الجاري، خلال الأيام القليلة الماضية، ولا تزال مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الخيرية والمتطوعين في الإغاثة والعمل الخيري، يحاولون حصر الأضرار الناجمة عنه، بحسب ما يفيد محمد علي تبارك – منسق المجتمع المدني والمحاضر بجامعة 6 أكتوبر-، المقيم في أسوان، في حديثه إلى زاوية ثالثة.
يقول منسق المجتمع المدني بأسوان: “بسبب السيل الأخير في شرق وغرب أسوان، في مناطق الكوبانية وكيما وأبو الريش والأعقاب والسد العالي، وقعت أضرار كلية وجزئية لعدد من المنازل المبنية بالحجارة. تنوعت بين انهيار للأسقف أو انهيار بعض الجدران الحجرية أو سقوط أجزاء منها نتيجة تشبعها بالماء، وهناك العديد من الأسر الفقيرة التي اضطرت لترك منازلها والنوم في العراء؛ خوفًا من سقوط الأسقف أو الجدران المتشبعة بالمياه على رؤوسهم”.
ويكشف “تبارك” أن الجمعيات الخيرية والمتطوعين أقاموا غرفة عمليات منذ الخميس الثامن من أغسطس الجاري؛ لحصر الأضرار، وتوفير وجبات طعام ساخنة للأسر المتضررة، وجمع التبرعات والمساعدات لإصلاح الأضرار التي لحقت بالمنازل.
يأتي ذلك – حسب وصفه- في ظل غياب للمسؤولين الحكوميين والمحافظة، مشيرًا إلى أنه خلال السيول التي شهدتها أسوان في العام 2021، تعاونت حوالي 130 جمعية خيرية ومؤسسة مجتمع مدني مع مؤسسات دولية، وحصرت الأضرار وقدموا جهود الإغاثة خلال ساعات قليلة من وقوع السيل، الذي كان أقوى بكثير مما حدث هذا العام وتسبب في دمار كبير لعدد من المنازل وقرية “بنبان” بأكملها، التي تضم الآن مشروع الطاقة الشمسية، في حين لم يتحرك المسؤولون إلا بعد أيام من وقوع السيل.
ووفق محافظ أسوان، إسماعيل كمال، فقد تدفق نحو مليون و700 ألف متر مكعب من مياه الأمطار، من الأودية والمخرات الطبيعية، منها: مليون متر تم تحويلها عبر مخر سيل الكسارة، و٥٠٠ ألف عبر بحيرة وادى أبو سبيرة، و200 ألف عبر سد الأعقاب، ثم المخر الصناعى حتى وصولها لمجرى نهر النيل.
سبق أن اجتاحت السيول عددًا من المناطق الأثرية بقرية دهميت في مركز كوم أمبو بأسوان، بالجانب الغربي لنهر النيل في عام 1996، وهي: وادي الملوك، ووادي الملكات، ومعبد سيتي الأول. ودمّرت سور مقبرة “حور محب”، كما تسبب سيل مدمر واجهته أسوان في عام 2010، في تشريد أكثر من ألفي أسرة، بعد انهيار وتصدع أكثر من 1100 مسكن في عشر قرى. وفي العام 2021، تسببت السيول في هدم مقابر منطقة الشلال جنوبي مدينة أسوان، وجرفت معها جثث ورفات الموتى، ونتج عنها غرق السيارات وتساقط الأشجار، ووفاة ثلاثة مواطنين وإصابة 503 آخرين بلدغات العقارب.
أزمة سكن
توضح الناشطة الأسوانية في مجال العمل الخدمي، حفصة أمبركاب – عضو مؤسسة أسوان والاتحاد النوبي العام-، أن محافظتها تنقسم إلى مناطق جبلية مثل: غرب أسوان والشلال والكوبانية وأبو الريش، التي تتجمع بها مياه السيول، ومناطق حضرية بها بنايات سكنية، وأن الأضرار التي لحقت ببعض المنازل والشوارع نتيجة السيول هذا العام، محدودة، مقارنة مع ما حدث في العام 2021؛ إذ اقتصرت الأضرار على طريق أبو سمبل السياحي، وبعض المناطق من قرى الجوزيرة والأعقاب وأبو الريش، ولا سيما تلك الموجودة بالقرب من مخرات السيول. كاشفة عن أن قرية الجوزيرة عانت من غياب خدمات النظافة؛ ما اضطر الأهالي لإلقاء النفايات داخل مخر السيل، حتى تراكمت وتسببت في انسداد المخر. حال ذلك دون تجمع مياه الأمطار الغزيرة داخله وأدى لوصولها إلى بعض المنازل.
تضيف: “نعاني في أسوان أزمة سكن شديدة نتيجة قلة عدد الوحدات السكنية المتاحة وارتفاع أسعار بيعها وإيجارها، وهي مشكلة تفاقمت بعد تدفق أعداد كبيرة من السودانيين النازحين بسبب الحرب إلى أسوان؛ إذ تراوحت أسعار الإيجارات بين ثلاثة آلاف جنيه و15 ألف جنيه مصري شهريًا، ويبدأ سعر الشقة السكنية من مليون جنيه في مساكن الشباب، في حين لا تتخطى أجور معظم العاملين بأسوان ثلاثة آلاف جنيه شهريًا؛ ما اضطر الكثير من الشباب المقبلين على الزواج، الذين لا يجدون لأنفسهم مكان للسكن مع زوجاتهم داخل منزل العائلة، إلى تكسير حجارة الجبل وبناء منازل في الظهير الصحراوي لقراهم، وتقوم السلطات المحلية من وقت لآخر بهدم بعض تلك المنازل المخالفة للقانون، لكن يعود الأهالي لبنائها من جديد”.
وترى الناشطة الأسوانية في مجال العمل الخدمي، أن الموسم السنوي لهطول الأمطار الغزيرة لم يأت بعد، وأنه من المتوقع أن تحدث سيول أكثر قوة مما حدثت خلال الأسبوع الأول من أغسطس الجاري، لكنها تعتقد أن تلك السيول المفاجئة تعد فرصة لتنبيه السلطات المحلية للعمل على تهيئة مخرات السيول على أفضل وجه وإزالة التعديات عليها وتنظيف المخرات التي امتلأت بالنفايات، مبينة أن الطبيعة الجغرافية لمحافظة أسوان والتي تحيط بها الجبال، تجعلها عرضة للتعرض للسيول، لذا يجب الاستعداد لمواجهتها تجنبًا لوقوع خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات.
بنية تحتية متردية
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية ظهرًا حين هبت رياح عاتية على قرية الأربعين، الواقعة بمركز باريس في محافظة الوادي الجديد، مصحوبة بأمطار غزيرة، سرعان ما شكلت سيولًا أغرقت شوارع القرية التي تخلو من الصرف الصحي واندفعت بقوة إلى منازلها البسيطة المصنوعة من الطوب اللبن، المنخفضة نسبيًا عن مستوى الإسفلت بالشوارع، لتُتلف أثاث وممتلكات السكان، وتتسبب في تآكل وتهدم جدران وأسقف بعض البيوت، مما دفع كبيرة القرية لتقديم استغاثة للوحدة المحلية لإنقاذ الموقف، بحسب ما يروي الشاب محمود محمد، المقيم بقرية الأربعين، في حديثه إلى زاوية ثالثة.
يقول محمود: “أسقف المنازل عندنا مصنوعة من الجريد، تعرضت لثقوب تسربت منها الأمطار الغزيرة وبللت المفروشات والثياب وأتلفت الأثاث والمراتب وأحرقت الأجهزة. انهارت أسقف وجدران بعض المنازل أمام السيول، وتعرضت محاصيل القمح والكمون ومخزون الغلال الخاص بالأهالي للتلف، ولو كانت لدينا بلاعات ومنظومة صرف صحي لما حدثت تلك المأساة”، مبينًا أنه بعد وقت من الاستغاثة حضرت سيارات الصرف الصحي إلى القرية وقامت بسحب مياه الأمطار وألقتها بالمنطقة الجبلية، وأن المجلس المحلي بالتعاون مع الجمعيات الخيرية والهلال الأحمر قدموا لأهالي القرية مساعدات ووجبات غذائية ومراتب.
يوضح الساكن المحلي أن قريته هي منطقة عمرانية كانت ضمن مشروع مبارك القومي للخريجين، ولديها مكتب صحة ومستشفى ومدرسة؛ إلا أنها محرومة من منظومة الصرف الصحي، وتخلو من معايير واشتراطات السلامة والأمان، كما لا تزال القرية تحصل على التيار الكهربائي عبر نظام مولدات الديزل، التي تعمل من الثامنة صباحًا وحتى الرابعة مساءً، ثم من الساعة السادسة مساءً وحتى الواحدة صباحًا، وتنقطع باقي ساعات اليوم.
يضيف: تأتينا مياه الشرب فقط مدة ساعتين أو ثلاث كل يومين رغم وجود محطة تنقية مياه في القرية المجاورة لقريتنا جاهزة للتشغيل – لم يتم تشغيلها بعد-، متسائلًا عن سبب عدم تنفيذ أي من مشروعات حياة كريمة، على أرض الواقع في قريتهم، رغم كونها مدرجة ضمن المشروع منذ ثلاث سنوات، وحصول الأهالي على وعود بترميم وإعادة بناء البيوت المتهالكة للأهالي الفقراء.
ويكشف النائب أحمد العقاطي – عضو مجلس النواب عن الوادي الجديد-، في تصريحاته إلى زاوية ثالثة، أن هطول الأمطار الغزيرة ليومين على التوالي تسبب في تشققات في جدران وأسقف بعض منازل مركز باريس بالمحافظة وتحديدًا قرى الأربعين وعدن وبغداد؛ ما أدى إلى تلفيات في أثاث الأسر واحتراق بعض الأجهزة الكهربائية، نتيجة تسربات مياه الأمطار إلى داخل منازلهم، لاسيما أن أسقفها من الجريد أو الصاج، مضيفًا أن كل من المحافظ ونائبته ووفد من وزارة التضامن الاجتماعي والهلال الأحمر قدموا مساعدات ومواد إغاثية للأسر المتضررة.
ويؤكد “العقاطي” أن القرى التي وقعت بها الأضرار تخلو من الصرف الصحي وهي مدرجة بالأساس ضمن برنامج حياة كريمة، مشيرًا إلى أن المحافظة بالتعاون مع الشئون الاجتماعية تعتزم منح تعويضات للمتضررين وإعادة بناء بعض المنازل المتضررة من جديد بشكل أكثر أمانًا وبحث كيفية العمل على تشغيل منظومة الصرف الصحي لتلك القرى.
انهيار الطرق
ليست المنازل الهشة وحدها التي تضررت من السيول الأخيرة؛ إذ تسببت سيول أسوان التي انهمرت في أغسطس الجاري، في غرق مواطن يدعى علي بخيت محمد، يبلغ من العمر 42 عامًا، على طريق العلاقي شرق مدينة أسوان، وأدت مياه الأمطار لانشقاق وغرق بعض الطرق وأهمها طريق أبو سمبل السياحي، الذي تمت صيانته مؤخرًا بتكلفة بلغت 75 مليون جنيه؛ ما تسبب في أزمة مرورية، وظل المواطنون عالقون داخل السيارات لساعات وسط مياه السيول، كما يحكي أنصف نصار، الذي كان يستقل سيارة ميكروباص مع غيره من الركاب عند الكيلو 100 على طريق أبو سمبل – أسوان؛ حين غمرت مياه السيول جزء كبير من الميكروباص وتسربت إلى داخله، ليبقى الركاب عالقون لأكثر من ثلاث ساعات ونصف الساعة، منذ الساعة 8 مساءً حتى الساعة 11.30 مساءً، حتى تم إنقاذهم.
“الموقف كان فى غاية الصعوبة.. ماكينة السيارة غمرتها مياه السيول التي تأتي من الصحراء الغربية حيث الجبال والتلال، وتوقف الموتور وجرفتنا المياه حتى علقت السيارة وسط الرمال، لكن صادفتنا شاحنة كبيرة سحبت الميكروباص حتى المنطقة الجافة واستغرق ذلك حوالي ثلاث ساعات ونصف”.. يقول أنصف نصار، في حديثه إلى زاوية ثالثة.
ويبلغ عدد مخرات السيول الرئيسية بالصحراء الشرقية لمصر والتي تصب في البحر الأحمر 414 واديًا ومخر، بالصحراء الشرقية ويصب في وادي النيل 156 واديًا ومخر، وفي سيناء يوجد 114 مخر يصب في البحر المتوسط وخليج العقبة وخليج السويس، أما الساحل الشمالى فيضم 157 مخر سيول يصب في البحر المتوسط.
الأمطار المدارية
بحسب الجيولوجي مصطفى محمود إسماعيل – الخبير الإستشاري في العلوم الجيولوجية والبيئة وكبير الجيولوجيين بالهيئة المصرية العامة للمساحة الجيولوجية والمشروعات التعدينية سابقًا-، فإن السيول هي أنهار وقتية تظهر بعد هطول الأمطار الغزيرة وتترك مجاريها ظاهرة سواء علي سفوح الجبال أو في الصحراء بعد تصريف مياهها، وتكتسح كل ما تقابله في طريقها ويتزايد حجمها وسرعتها حتى تصل إلي نهر أو بحر تصب فيه، كـ السيول التي تنحدر من أعالي جبال البحر الأحمر بالصحراء الشرقية وتصب في وادي النيل.
يحذر في حديثه إلى زاوية ثالثة من خطورة الأمطار المدارية التي تسقط في شهور الصيف على جنوب مصر وشمال السودان – إذا كانت غزيرة-، لكونها تسقط على مجموعة من أخطر مناطق السيول طبوغرافيًا وبيئيًا.
ويؤكد الخبير الإستشاري في العلوم الجيولوجية والبيئة، أن السيول التي تضرب محافظات جنوب مصر خطيرة، لأن مياهها ذات قوة تدميرية هائلة، وأنها ليست ظاهرة جديدة على جنوب مصر؛ إذ تسببت في سيول عامي 1992 و 1994 وسيول مدينة رأس غارب والسيول التي دمرت مدينة قنا بصعيد مصر في شهر أبريل عام 1955، والسيول التي ضربت قنا في أبريل عام 1979، وأدت لتدمير منشآت في مرسي علم ووادي المتولي بطريق قفط – القصير والكيلو 85 على طريق قنا- سفاجا، مبينًا أن هناك مناطق معرضة لمياه السيول بدرجاتها الثلاث من حيث الخطورة وأخرى آمنة يمكن إقامة المنشآت عليها بأمان.
خبير التغيرات المناخية ورئيس هيئة الأرصاد الجوية السابق، أحمد عبد العال، يؤكد في حديثه إلى زاوية ثالثة أن التغيرات المناخية أثرت على الطقس في مصر ولا سيما بدايات الفصول؛ إذ شهدت بداية شهر يونيو المنقضي حدوث منخفض الهند الموسمي والذي كان يحدث في 22 من كل عام، وانهمرت في الأسبوع الأول من أغسطس الأمطار الغزيرة على جنوب مصر ومناطق بالبحر الأحمر مسببة سيول، في حين كان الموسم الطبيعي لسقوط تلك الأمطار خلال فصل الخريف وخاصة شهر سبتمبر، مشيرًا إلى أن مناطق شرق العوينات وأجزاء من الصحراء الغربية كانت في عصور أخرى تشهد سقوط للأمطار الغزيرة وتكونت بها بحيرات وكميات كبيرة من المياه الجوفية.
الحق في سكن آمن
يرى المحامي الحقوقي مالك عدلي ، مدير شبكة المحامين في المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية-، أن ثقافة احترام المواصفات الإنشائية للمباني، غائبة لدى المصريين؛ ما قد يتسبب في حدوث كوارث، لكنها لم تتكشف بسبب كون المناخ في مصر كان معتدلًا؛ إلا أن التغيرات المناخية المتمثلة في الحر الشديد والسيول بدأت تكشف عن الأزمة، متمنيًا عدم حدوث زلزال قوي يتسبب في سقوط كم هائل من المنازل التي لم يراعى عند بنائها احترام المواصفات الإنشائية.
يبين “عدلي” أن تلك المشكلة تعود إلى عشرات السنوات وإلى وجود عجز في الأجهزة الرقابية وفساد المحليات والسماح بمخالفات البناء كرشوة انتخابية، قبل ثورة يناير 2011، ثم غيابها لأكثر من عشر سنوات، وهي المفترض بها المراقبة على وحدة الحكم المحلي وسلامة المباني، إضافة لوجود مقاومة شديدة من المجتمع لقواعد تنظيم المباني الصادرة خلال السنوات الأخيرة وغياب الثقة بين المواطنين والقرارات الحكومية.
ويؤكد أن الحق في السكن الآمن يفترض أن تلتزم الحكومة بتوفيره؛ إذ نص دستور 2014، على أن “تكفل الدولة للمواطنين الحق في السكن الملائم والآمن والصحي؛ بما يحفظ الكرامة الإنسانية ويحقق العدالة الاجتماعية”، إلا أن قلة الموارد وسوء إدارتها يحول دون تطبيق ذلك على أرض الواقع، فتصبح السلطة في مأزق؛ فإما أن تختار إزالة المنازل غير الآمنة والمخالفة للقانون وتشرد القاطنين بها لعدم وجود بديل، أو أن تتركها على حالها، مشيرًا لكون وزارة الإسكان نفذت عددًا من المشروعات السكنية لسكان العشوائيات لكن مركزية الدولة وغياب عدالة توزيع الموارد والتمثيل السياسي المناسب لكل فئات السكان، يجعل الحكومة لا تركز مشروعاتها على صعيد مصر الذي يعاني فقرًا في التنمية، إلا أن حدوث أزمات وكوارث مثل السيول، يمكن أن يلفت أنظار السلطة لتعطي اهتمامًا لتلك المناطق المهمشة.
وتقدر بيانات النشرة السنوية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إجمالي عدد مشروعات تطوير المناطق العشوائية التابعه لصندوق التنمية الحضرية، بنحو 70 مشروع بإجمالي وحدات سكنية 89 ألف و363 وحدة بالإضافة إلى و 2448 وحدة تجارية، بإجمالي تكلفة بلغ 40 مليار و329 مليون جنيه خلال الفترة من (2010 ـ 2021)، وتوزعت الوحدات السكنية المنفذة بين محافظة القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية.
وبلغت تكلفة تطوير المناطق غير الآمنة 63 مليار جنيه، كما تم التعامل مع 357 منطقة عشوائية غير آمنة بإجمالي 246 ألف وحدة سكنية، استفاد منها 1.2 مليون شخص، بحسب بيان المركز الإعلامي لمجلس الوزراء في عام 2023، والذي أعلن وقتها أن مصر تخلو من المناطق العشوائية غير الآمنة بنهاية عام 2022.
من جانبه، يتهم النائب محمد عطية الفيومي – رئيس لجنة الإسكان بمجلس النواب-، الإدارات المحلية في المناطق المتضررة من السيول، بالتقصير، لكونها لم تتصدى لبناء البيوت بالقرب من مخرات السيول والمخالفة للقانون؛ ما يعرض حياة الأفراد القاطنين بها للخطر ويعرض ممتلكاتهم للتلف، لافتًا لكون الفقر والجهل يدفع البعض لبناء بيوتهم بشكل غير آمن، رغم كل التحذيرات الحكومية وتكرار حدوث السيول والأمطار الغزيرة في تلك المناطق.
ويعتبر “الفيومي” في حديثه معنا أن عدم وجود منظومة صرف صحي ومخرات لـ السيول في بعض المناطق من قرى صعيد مصر، مسؤولية الوحدات المحلية، مشيرًا إلى تمويل قرض البنك الدولي برنامج التنمية المحلية لصعيد مصر، داعيًا لضرورة أن يتضمن البرنامج توفير بيئة سكن آمنة للأسر الفقيرة في الصعيد، وإقامة مساكن جديدة لسكان العشوائيات.
وفق دراسة أجريت بكلية التخطيط الإقليمي والعمراني – جامعة القاهرة، فقد أسفرت الفيضانات المفاجئة/ السيول التي ضربت مصر في الفترة من 1975 إلى 2014، عن حجم خسائر بشرية هائل، ووصل إجمالي حجم الخسائر الاقتصادية السنوية المباشرة – تبعًا لتقديرات منصة المخاطر العالمية 2020- من 50 إلى 370 مليون دولار أمريكي، وقدر بعض الخبراء إجمالي الأضرار الاقتصادية الفعلية المباشرة وغير المباشرة بما يقرب من 2.1 مليار دولار أمريكي، وكانت معظم الخسائر الاقتصادية ناجمة عن سوء تقدير مخاطر الفيضانات المفاجئة/ السيول.
وسبق أن نفذت مصر 1627 عملاً صناعيًا للحماية من أخطار السيول بسعة تخزينية 350 مليون متر مكعب وبتكلفة 6.7 مليار جنيه، وفقًا لتصريحات سابقة لـ هاني سويلم – وزير الموارد المائية والري-، ورغم ذلك لا يزال الخطر قائمًا في ظل التغيرات المناخية وغياب مواصفات السلامة الإنشائية لغالبية البيوت في المناطق الأكثر فقرًا، المعرضة للسيول، التي تعاني بالأساس تردي شديد للخدمات الأساسية والبنى التحتية، واضطرار سكانها للعيش في بيوت غير آمنة، في ظل غياب التوزيع العادل للتنمية.