خلال السنوات الأخيرة، تزايدت حالات اختفاء الفتيات القاصرات المسيحيات في مصر، خاصة في محافظات الصعيد، مما أثار قلقًا واسعًا في الأوساط المسيحية. غالبًا ما يدّعي الأهالي أن بناتهم تعرضن للاختفاء القسري، حيث يُجبرن على الزواج العرفي وتغيير ديانتهن للإسلام. في المقابل، يرى خبراء أن العوامل الاجتماعية والنفسية، مثل سوء المعاملة داخل الأسرة أو الرغبة في تحسين الوضع الاجتماعي، تلعب دورًا في هروب القاصرات. ووفقًا لهذه التحليلات، يجد بعض البالغين المسلمين فرصة لاستغلال الفتيات ماديًا وعاطفيًا، مستغلين حاجتهن للحماية، حيث ينتهي الأمر ببعضهن في زيجات عرفية أو تحت وطأة الاستغلال الجنسي، مع تغيير سريع في هويتهن بمساعدة جمعيات دعوية.
لكن الأزمة لا تقتصر على اختفاء الفتيات فحسب، بل تحولت إلى مساحة للتلاعب والاحتيال. في كثير من الحالات، يتواصل أشخاص مع أسر المختفيات، مدّعين قدرتهم على استعادتهن بفضل صلاتهم بجهات أمنية أو وسائل إعلامية، مقابل مبالغ مالية كبيرة. هذا الاستغلال يزيد من معاناة الأسر، التي تجد نفسها عرضة للتشهير والتضليل، مع تصاعد العواطف الدينية في المجتمع، مما يعقّد الجهود المبذولة للبحث عن الفتيات ويترك أضرارًا نفسية واجتماعية جسيمة، وفقًا لشهادات وثّقتها زاوية ثالثة من بعض العائلات المتضررة.
رصدت تقارير حقوقية ارتفاعًا ملحوظًا في حالات اختفاء النساء المسيحيات خلال السنوات الأخيرة، مع تزايد الاتهامات بشأن إجبارهن على تغيير الديانة. ووفقًا لتقارير موثقة، تم تسجيل 12 حالة اختفاء في عام 2015، فيما قفز عدد الحالات المزعومة إلى أكثر من 30 حالة في عام 2024، مقارنة بثماني حالات فقط في العام السابق. منظمة التضامن القبطي وثّقت العام الماضي 12 حالة اختفاء لفتيات وسيدات مسيحيات من مناطق ومحافظات مختلفة، عاد منهن عشر حالات إلى منازلهن، بينما أكدت السجلات الرسمية للأزهر الشريف وجود 396 حالة إشهار إسلام بين النساء المسيحيات، وفقًا للأرقام المتسلسلة لشهادات التحويل.
في هذا السياق، يوضح مسؤول بأحد المراكز الحقوقية بالقاهرة، طلب عدم ذكر اسمه، أن عدد الحالات غير المعلنة لاختفاء النساء المسيحيات التي تلقاها المركز خلال العام الجاري يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف حالة. وأشار المسؤول، في حديثه إلى زاوية ثالثة، إلى أن هذه الحالات تم رصدها بعد أسبوعين فقط من إعلان فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي بولاية ثالثة.
وأضاف أن العديد من هذه الحالات تشمل قاصرات، وقد أعربت أسر الفتيات عن امتنانها للأجهزة الأمنية التي ساعدت في تحديد أماكنهن وإعادتهن. ومع ذلك، أوضح أن نصف هذه الحالات استغرق البحث عنها عدة أشهر، مما يعكس تحديات لوجستية في التعامل مع هذه الظاهرة.
نوصي للقراءة: بين الكنيسة والقانون.. مسيحيات لا يحق لهن الطلاق
إشهار الإسلام والعودة للمسيحية
تروي ندا صبحي، فتاة من محافظة المنيا، في حديثها مع زاوية ثالثة، تفاصيل مغادرتها منزلها وما تبع ذلك من أحداث. توضح أن صديقًا لأحد أشقائها، بالتعاون مع عضو في الجمعية الشرعية، ساعدها على مغادرة المنزل، حيث ظهرت لاحقًا في مقطع فيديو ترتدي النقاب وتعلن إسلامها. تضيف أن الشخص الذي وفر لها مأوى في شقته بمساعدة زوجته، رغم علمهما بأنها تعاني من مرض الصرع المزمن وتحتاج إلى علاج منتظم. وتقول ندا إن الشخص عرض عليها الزواج بعد أيام من مغادرتها، مما دفعها إلى طلب المساعدة من صديق شقيقها، الذي نقلها إلى مكان آمن حتى تدخلت الشرطة وأعادتها إلى أسرتها.
من جهته، يرى أشرف حلمي، الناشط في مجال قضايا المسيحيين، أن هناك مجموعات تستهدف الفتيات القاصرات المسيحيات بطرق نفسية واجتماعية لدفعهن إلى تغيير ديانتهن. ويشير إلى أن هذه الحالات غالبًا ما تُوثق بمقاطع فيديو يظهر فيها الفتيات ينطقن الشهادتين ويرتدين الحجاب، قبل أن تعود بعضهن إلى المسيحية، مما يثير جدلًا حول طبيعة تلك الأحداث.
يضيف حلمي أن هذا النوع من القضايا يعكس تعقيدات اجتماعية تحتاج إلى تعامل شفاف ومنصف. ويؤكد أن غياب الوضوح في معالجة هذه الحالات قد يسهم في زيادة التوترات المجتمعية ويفتح المجال لتفسيرات متعددة، تؤثر سلبًا على روح المواطنة.
تواجه بعض الأسر صعوبات في تحرير بلاغات رسمية في أقسام الشرطة بشأن تغيب بناتهن القاصرات، كما حدث في حالة جيسيكا سمير، البالغة من العمر 16 عامًا، التي تغيبت في يوليو الماضي من منزلها بعزبة النخل في القاهرة. حاولت أسرتها تحرير محضر تغيب في قسم الخصوص، إلا أن الطلب قوبل بالرفض بحجة انتظار استكمال تتبع الكاميرات، وهو ما اعتبره خبراء قانونيون شكلاً من أشكال التحيز الأمني.
في حديثها مع زاوية ثالثة، تروي والدة إحدى القاصرات المسيحيات اللواتي تغيّبن عن منازلهن تجربتها في قسم شرطة الخصوص بالقاهرة. تشير إلى أن نجلتها تعرضت لضغوط نفسية بعد ارتباطها عاطفيًا بشخص تزوجها عرفيًا وأخفاها في منزل زوجته الأولى بالإسماعيلية. توضح الأم أن بعض ضباط الشرطة لجأوا إلى أساليب نفسية لإجبارها على الإدلاء بمعلومات، وحُجبت عيناها أثناء التحقيق، قبل أن تسلم الفتاة رسميًا إلى أسرتها. وتتهم الأم أحد الضباط بتمزيق عقد الزواج العرفي دون موافقة الأسرة، مما حال دون الكشف عن هوية الزوج وملاحقته قانونيًا.
من جهة أخرى، يروي قريب لإحدى القاصرات المسيحيات التي عادت إلى أسرتها بعد إشهار إسلامها، أن الفتاة كانت تعاني من اضطرابات نفسية عند عودتها بعد اختفاء دام أكثر من 15 يومًا. يشير إلى أن أسرتها وأصدقائها تجمعوا أمام قسم شرطة العامرية بالإسكندرية احتجاجًا على رفض الشرطة تحرير محضر تغيب. يُضيف أن القضية تصاعدت إلى مطرانية البحيرة التي تواصلت مع مكتب تواضروس الثاني، بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ورئاسة الجمهورية، وشيخ الأزهر، أحمد الطيب. وبعد تقديم المستندات اللازمة، أُلغي إشهار إسلامها، وعادت الفتاة إلى منزلها.
وتنص المادة (289) من قانون العقوبات على أنه “تكون عقوبة السجن لمدة تصل إلى عشر سنوات لكل من اختطف من غير تحايل ولا إكراه، طفلًا”، وتنص المادة (290) من قانون العقوبات على أن “كل من خطف بالتحايل أو الإكراه شخصًا، يعاقب بالسجن المشدد مدة لا تقل عن 10 سنوات.. فإذا كان الخطف مصحوباً بطلب فدية تكون العقوبة السجن المشدد لمدة لا تقل عن 15 سنة ولا تزيد على 20 سنة.. أما إذا كان المخطوف طفلاً أو أنثى، فتكون العقوبة السجن المؤبد.. ويحكم على فاعل جناية الخطف بالإعدام إذا اقترنت بها جناية مواقعة المخطوف أو هتك عرضه.”
نوصي للقراءة: زواج القاصرات في مصر: أطفال بلا نسب وقوانين بحاجة للتعديل
التستر على جريمة
يصرّح أحمد عبدة ماهر، المحامي بالنقض والمفكر الإسلامي، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن الزواج العرفي بالقاصرات يُعد غير قانوني وباطلًا، ويُصنف كجريمة اغتصاب وفقًا للقانون، بالنظر إلى أن القاصرات فاقدات للأهلية القانونية. ويضيف أن عقوبة هذه الجريمة تصل إلى السجن سبع سنوات. ويؤكد ماهر أن أي تصرف، مثل تمزيق مأمور الضبط لأوراق الزواج العرفي، يُعتبر محاولة للتستر على جريمة تشمل اختطاف، واستغلال، وهتك عرض لفتاة قاصر داخل قسم الشرطة.
يشير ماهر إلى أن مشكلة الاختفاء لا تقتصر على الفتيات القاصرات فحسب، بل تشمل أيضًا الشباب القصر، مستشهدًا بقضية شاب يبلغ من العمر 17 عامًا، تورط في علاقة جنسية وأُجبر على التحول للإسلام تحت تهديدات أسرة الفتاة التي كان على علاقة بها. ويرى أن هذه القضايا تؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي داخل الأسر المسيحية، مشددًا على ضرورة تطبيق القانون بشكل عادل ومنصف، بما يتماشى مع مبادئ الإسلام التي ترفض التهاون في حقوق الأقليات.
وتنص المادة 5 من القانون رقم 143 لسنة 1994 بشأن الأحوال المدنية على أنه “لا يجوز توثيق عقد زواج لمن لم يبلغ من الجنسين 18 سنة ميلادية”. كما كانت البرلمانية إيناس عبد الحليم قد تقدمت في عام 2021 بمشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، بهدف تغليظ عقوبة زواج القاصرات. وينص مشروع القانون على معاقبة كل من يدلي بأقوال غير صحيحة بغرض إثبات بلوغ أحد الزوجين السن القانونية بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات، بالإضافة إلى غرامة مالية لا تقل عن 500 ألف جنيه، سواء كان المأذون، الزوج، الشهود، أو الولي.
لم تقتصر حالات الاختفاء على القاصرات المسيحيات خلال السنوات الماضية، بل شملت أيضًا سيدات متزوجات تجاوزن السن القانونية. ومن بين هذه الحالات، قصة سيدة من مركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية، التي أعلنت تحولها إلى الإسلام وهربت في مايو الماضي برفقة ابنتها الصغيرة، بعد تعرضها للإهانة المستمرة من زوجها. قبل شهرين من اختفائها، لجأت إلى كاهن بالكنيسة، إلا أنه أعادها إلى زوجها دون إرشادها إلى أي إجراءات قانونية تضمن حقوقها. وقد هددت السيدة بالانتحار إذا تم إعادتها لزوجها، فيما بقي مصير ابنتها معلقًا وسط نزاع قضائي على الحضانة.
يعتبر المحامي الحقوقي سعيد فايز أن الإعلان عن نسب طفل من أم قاصر مسيحية إلى أب مسلم يُشكل مأزقًا اجتماعيًا وقانونيًا للعائلات المسيحية. ويوضح أن القانون، رغم حمايته للقاصرات، يواجه عقبات في التنفيذ عند اللجوء للأزهر الشريف للإفتاء في صحة عقد الزواج. ويشير إلى أن وجود شهادة الشهود على العقد قد يحول دون معاقبة الزوج، مما يدفع بعض الأسر إلى القبول بحلول مثل تمزيق أوراق الزواج، خوفًا من الفضيحة الاجتماعية. ويضيف أن إفلات المتهم من العقوبة أحيانًا يتم بناءً على رغبة الأهل لطمس التفاصيل حفاظًا على القوام الاجتماعي.
يشير فايز إلى نجاحه في الحصول على حكم قضائي بالحبس ثلاث سنوات ضد رجل يبلغ من العمر 37 عامًا، تزوج عرفيًا من قاصر مسيحية مختفية تبلغ 14 عامًا. ويقترح تعديل القوانين بحيث يُمنع تغيير ديانة أي شخص دون سن 21 عامًا، مع إجراء تقييم نفسي واجتماعي لضمان عدم وجود أي تأثير خارجي. كما يدعو إلى تشكيل لجنة مختصة تشمل عنصرًا قضائيًا وحقوقيًا وممثلًا دينيًا للنظر في إجراءات التحول الديني، مشددًا على ضرورة تحقيق المساواة في حرية العقيدة، بما يسمح للمسلمين باعتناق المسيحية كما يحدث في العكس.
ورغم نجاح بعض الإجراءات الأمنية في إعادة الفتيات القاصرات إلى أسرهن، يشير المحامي الحقوقي إلى أن الحلول الأمنية وحدها ليست كافية لوقف حالات الاختفاء والهروب، سواء للقاصرات أو للسيدات المتزوجات. ويرى أن غياب حلول جذرية للمشكلات الاجتماعية والتشريعية، مثل القيود على الطلاق والمضايقات الأسرية، يدفع النساء إلى الهروب أو الوقوع ضحية للاستغلال الجنسي أو الديني. ويؤكد أن إيجاد منظومة متكاملة تستمع إلى مشكلات هؤلاء النساء وتوفر حلولًا عملية لها، هو السبيل الوحيد لمعالجة هذه الظاهرة.