بين الكنيسة والقانون.. مسيحيات لا يحق لهن الطلاق

ترى الحقوقية ومؤسسة مركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية عزة سليمان، أن الدولة باعت المسيحيين للكنيسة التي أحكمت قبضتها بشكل كبير على حياتهم
آية ياسر

“استطعت ضم طفلي لحضانتي، لكني لم أستطع الحصول على نفقة من زوجي الذي اختفى منذ ثمانية أعوام، ولا أعرف عنه شيئًا، أشعر أن حياتي متوقفة أو انتهت كوني مسيحية لا يمكنني الطلاق وبدء حياة جديدة”.. تقول نانسي التي وصفت زوجها بأنه كان مُسيئًا لها ويعنفّها.

فقدت نانسي الأمل في إمكانية الطلاق لبدء حياة جديدة مع شريك آخر، لأن الكنيسة لا تسمح بالطلاق إلاّ لعلة الزنا؛ منذ إلغاء البابا الراحل شنودة الثالث في 2008، لأسباب الطلاق والزواج التسعة فيما يعرف بلائحة 38، ضمن تعديلات أجراها على اللائحة الخاصة بالأحوال الشخصية للأقباط الأرثوذكس، والتي كان قد أقرها المجلس المِلي في 9 مايو سنة 1938.

ووفقاً للتعديلات التي شهدتها اللائحة فقد أُلغيت المواد (52، 53، 54، 55، 56، 57) وكانت تسمح بالطلاق إذا غاب أحد الزوجين خمس سنوات متتالية، إذ لا يُعلم حياته من وفاته أو مستقره، وعند الحكم على أحد الزوجين بعقوبة الأشغال الشاقة أو السجن أو الحبس لمدة سبع سنوات فأكثر، وإذا أصيب أحد الزوجين بجنون مُطبق أو بمرضٍ مُعدٍ يخشى منه على سلامة الآخر، أو أصيب الزوج بمرض العِنّة غير قابل للشفاء، وإذا اعتدى أحد الزوجين على حياة الآخر أو اعتاد إيذاءه إيذاءً جسيمًا، أو إذا ساء سلوك أحد الزوجين وفسدت أخلاقه وانغمس في الرذيلة، أو إذا أساء أحد الزوجين معاشرة الآخر أو أخل بواجباته نحوه إخلالاً جسيمًا؛ ما أدى إلى استحكام النفور بينهما وافتراقهما ثلاث سنوات متتالية، أو حال ترهبن الزوجان أو أحدهما.

بعد تلك الواقعة عادت “نانسي” وبرفقتها رضيعها إلى منزل أهلها غاضبة؛ لتقضي به قرابة الثلاث سنوات دون أن يحاول زوجها مصالحتها، وحين عادت إلى شقة الزوجية لإحضار بعض أغراضها والأوراق الثبوتية الخاصة بابنها، تفاجئت بزوجها يتعدى عليها بالضرب مجددًا ويأخذ الطفل منها بالقوة ويطردها من الشقة، تظل محرومة من رؤية ابنها مدة ستة أشهر حتى صدر لصالحها حكمًا بضمه إلى حضانتها، لكن ثمانية أعوام مرت دون أن ينفق الزوج عليهما أو يتواصل مع كليهما، وتتمنى “نانسي” إصدار قانون يسمح لها ولغيرها من المسيحيات المعلّقات بالطلاق أو الخلع.

 

التفكير في الانتحار

باتت “مارينا” التي تعيش مع ابنها منذ عامين في بيت أهلها؛ لاستحالة العشرة بينها وبين زوجها الذي اعتاد إهانتها والتعدي عليها بالضرب، تُفكّر في الانتحار ليأسها من الطلاق وعجزها عن الحصول على شهادة تغيير المِلّة لعدم امتلاك المال لدفعه مقابل الحصول عليها.

بعدما نجحت “مارينا” في الحصول على حكم بنفقة لها ولابنها فإن محامية زوجها راحت تمطرها بإنذارات الطاعة، وأخذ زوجها يساومها بين التنازل عن متجمد النفقة والقضايا وبين الصلح، لكنها لم تعد تثق فيه بعدما استولى على أثاثها ولم يسمح لها بالحصول حتى على ثيابها، وكونه توقف عن السؤال عنها وعن طفلهما والإنفاق عليهما منذ عامين.

في حين تعاني “فيولا” من إهمال زوجها العاطفي وهَجره لها في فراش الزوجية منذ أكثر من عام؛ فلم يعد راغبًا في ممارسة العلاقة ولا يشاركها الغرفة ولا حتى الحديث، حتى أصبحا كالغريبين تحت سقف واحد، لكنهما لا يستطيعان الطلاق كونهما مسيحيان من الأرثوذوكس.

“فيولا” تقول إنها تحملت على مدار تسع سنوات من زواجها، الجفاف العاطفي للزوج وضعفه الجنسي ورفضه الذهاب لطبيب أمراض ذكورة لعلاج سرعة القذف لديه، لكنّ الأمر وصل إلى حد رفضه التام للعلاقة الزوجية، وحين عرضت على زوجها اللجوء لاستشاري علاقات زوجية أو طبيب نفسي رفض بشدة، وبسبب حرمانها العاطفي والجنسي تحدث إلى الأب في الكنيسة والذي تحدث مع الزوج لكنها لم تجد استجابة منه، فساورتها الشكوك حول خيانته لها، لكنها لم تجد دليلاً ملموسًا، وباتت تشعر بتحطم نفسيتها وأنوثتها.

 

عالقون على جدار الكنيسة

ترى الحقوقية ومؤسسة مركز المساعدة القانونية للمرأة المصرية عزة سليمان، أن الدولة باعت المسيحيين للكنيسة التي أحكمت قبضتها بشكل كبير على حياتهم، وأن أزمة طلاق المسيحيين بدأت بعدما تولى الأنبا شنودة الثالث منصب البابا خلفًا للبابا كيرلس، الذي فوّض المجلس المِليّ في ملف الأحوال الشخصية للمسيحيين من الأقباط الأرثوذكس، وكان معظمه من العلمانيين، ولكن في عهد البابا شنودة سيطر المتدينون على المجلس وأخذوا يمنعون الطلاق تدريجيًا عبر تعديلات لائحة ١٩٣٨، وتتحفظ عليها “سليمان” لكونها محافظة فيما يخص الطلاق ولا تُسعف من يريد إنهاء حياة بائسة.
لكن حتى ذلك الوقت كان باب تغيير الملة لا يزال مفتوحًا فلجأ إليها الكثيرون ليتمكنوا من الحصول على التطليق، حتى أن البعض اضطر لتغيير الديانة لأجل الطلاق ثم أرادوا العودة للمسيحية، فيما يعرف بقضية “عالقون على جدار الكنيسة”، وهو ما فتح باب للفتنة الطائفية. تضيف “سليمان” في تصريحها إلى زاوية ثالثة أن بعض الزوجات المسيحيات المُعنفات استنفذت محاولاتهن مع الكنيسة وقسم الشرطة ولم تقم أي منهما بحمايتهن من العنف، وهو ما اضطرهن للهرب والاختباء، ثم ادعت أسرهن أنهن مختطفات، مُحملّة الدولة مسؤولية تلك الحوادث؛ لأنها لا تضع قضايا المرأة والأسرة ضمن أولوياتها، معتبرة أن السماح بالزواج والطلاق المدني في مصر سيحل مشكلات طلاق المسيحيين، في ظل عدم إقرار قانون جديد للأحوال الشخصية للمسيحيين، والذي تم انتظاره لسنوات دون أن يرى النور.

وتشير المحامية الحقوقية لكون قفل باب تغيير المِلّة جعل البعض يلجأون للحصول على شهادات تغيير المِلّة من لبنان وقبرص، ونشأة مافيا لهذه الشهادات، مبينة أن  القضاء يحد من حالات طلاق المسيحيين بحجة الحفاظ على الأسرة المصرية، ولوجود اتفاق غير معلن بعدم العمل بلائحة 1938 في الأحكام القضائية، ما يؤدي لخسارة دعاوى الخلع للمسيحيات رغم تغيير المِلّة.

 وكان البابا تواضروس الثانى -بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية-، قد وصف تغيير الملة والطائفة للطلاق بأنه لعب بالانتماء الديني، ضمن تصريحات تليفزيونية حول الأحوال الشخصية للأقباط المسيحيين، في 2014، في برنامج “البابا وأسئلة الشعب”، بينما أعلن القس أندريه زكي -رئيس الطائفة الإنجيلية-، في عام 2019، أن كنيسته لا تعطي جوابات تغيير مِلّة، وكل الجوابات التي ترسل للمحكمة مزورة وتطعن عليها.

 

ترك السلطة التقديرية للقضاة

تؤكد المحامية بمؤسسة مبادرة المحاميات المصريات لحقوق المرأة هبة عادل، أن العديد من النساء المسيحيات في مصر متضررات من القيود المفروضة على العلاقة الزوجية وتضييق الكنيسة على محاولات التحرر منها، بشكل يحمل شدة وتعنُت يؤدي إلى محاولة الالتفاف على اللوائح الكنسية عبر الحصول على شهادة تغيير المِلّة. و “غالبًا ما يحصلون عليها بشكل غير قانوني نظير مبالغ باهظة؛ ما يعرضهم لخطر النصب والاحتيال والتزوير”، مشيرة إلى أن القانون ينص على أنه في حال اختلاف الطوائف يتم اللجوء للشريعة الإسلامية في التشريع، ومع ذلك يتم ترك السلطة التقديرية للقضاة، والذين عادةً يرفضون إصدار أحكام الخُلع وطلاق المسيحيين؛ لكون شهادات تغيير المِلّة تم إصدارها من خارج مصر ويصعب التأكد من صحتها، ما يجعل الطلاق شبه مستحيل.

وترى “عادل” أن الزواج والطلاق المدني قد يكون حلاً للإشكالية حتى تتحول العلاقة من إجبارية لاختيارية للحد من الكوارث المستقبلية، لا سيما أن معظم الحقوق المسلوبة من المتضررين؛ حقوق مدنية تتعلق بتوفير النفقات وحرية التطليق والزواج، مؤكدة ضرورة إقرار قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين الأقباط يقدم حلولًا جزئية للمشكلات المطروحة، الذي حال دونه الصراع الدائم بين السلطة القانونية والسلطة الكنسية التي تتخوف من تقييد حقها في توقيع العقوبة الدينية، ما يتطلب إجراء حوار جاد.

 

بحسب النشرة السنوية لإحصاءات الزواج والطلاق، الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في 2016، فقد بلغت عدد حالات طلاق المسيحيين الأرثوذكس ٣٢٤١٤ حالة بنسبة ٣,٥٪ من إجمالي عدد حالات الطلاق في مصر، بينما شهدت الطائفة الإنجيلية ٥٠٠ حالة فقط بنسبة ٠,١٪ من إجمالي الحالات، وسجلت بقية الطوائف المسيحية الأخرى ١٢٣٢ حالة بنسبة ٠,١٪.

ولا توجد إحصائيات رسمية عن عدد قضايا الطلاق الخاصة بالأقباط المنظورة لدى المحاكم المصرية، ولكن بحسب كتاب “طلاق الأقباط”، للكاتبة والصحفية المصرية كريمة كمال، الصادر عام 2006،  هناك 300 ألف من الأزواج والزوجات الأقباط لجأوا إلي المحاكم المصرية منذ عام 1971 للحصول على الطلاق .

 

ورصد مركز قضايا المرأة المصرية،  1449 قضية طلاق في القاهرة بين عامي 1999 و2004، كما رصد في محافظة الأقصر 35 قضية طلاق لأسباب مثل “النفور- الزنا- الهجر” و51 قضية اعتراض على إنذار الطاعة، كما وثّقت  في محافظة أسيوط وحدها التي يشكل الأقباط نحو 25 إلى 30% من سُكّانها، 1002 قضية طلاق بدعوى فسخ أو بطلان العقد في المحاكم، و55 قضية منها بسبب تغيير ملة أحد الزوجين، في الفترة من 1999 وحتى عام 2004.

 

الأزمة بدأها المجمع المقدس

قال الباحث إسحق إبراهيم -مسؤول ملف حرية الدين والمعتقد في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، لـ زاوية ثالثة أن مصادر التشريع للأحوال الشخصية للمسيحيين تعود إلى قوانين ابن العسال التي احتوت على أسباب متعددة للطلاق كالزنا واستحالة العشرة وضرب أحد الزوجين للآخر، حتى تم وضع لائحة 1938 والتي حددت تسعة أسباب للطلاق، لكنّ البابا شنودة لم يكن مقتنعًا  بها فحصرها لسبب الزنا وتغيير الدين وألغى الزواج الثاني للحاصلين على أحكام قضائية بالطلاق، مُبينًا أنه في قضايا الأسرة المتعلقة بالمسيحيين يتم العودة للوائح الخاصة بهم؛ إذ توجد بمصر 12 طائفة، وحال اختلاف المِلل يتم تطبيق الشريعة الإسلامية، ما فتح الباب لسوق شهادات المِلّة، لذا امتنع رؤساء الكنائس عن إصدارها، واصفًا الوضع الراهن بـ “غير الدستوري وغير الإنساني”، إذ يتعرض المسيحي الذي يكوّن أسرة لعقوبة أبدية، معتبرًا أن الدولة مسؤولة عن إتاحة بدائل للأفراد كي تُجَنِب المجتمع مشكلات جسيمة تصل لاضطرار الأزواج لقتل بعضهم البعض، أو إدعاء الزنا.

فيما يكشف الباحث بالتراث القبطى، شنودة الأمير، في حديثه معنا أن هناك كتب مثل: ديدسكاليا أو الدسقولية، وأخرى تعود للفترة من القرن الـ10 إلى الـ14 مثل قوانين البابا غبريال بن تريك وقوانين ابن العسال ، كانت تنظم حياة المسيحيين الدينية والاجتماعية في ظل عدم وجود قوانين مرتبطة بالكتاب المقدس، وأن تلك الكتابات تتطابق بشكل كبير مع لائحة 1938، وكانت قواعد ابن العسال تشمل الزنا وتغيير الدين والنشوز والسجن المؤبد والنفي، وكان يتم تعيين شخص كبير من عائلة الزوج وآخر من عائلة الزوجة وكاهن لحل الخلافات الزوجية.

 واعتبر “الأمير”  أن أزمة الطلاق في المسيحية بمصر بدأت مع تقييد المجمع المقدس عام 1979، للحالات المسموح فيها بالطلاق، والتي جاءت تعديلات اللائحة في 2008 انطلاقاً منها، داعيًا لوجود مرونة أكثر للقوانين الخاصة بالأسرة لتناسب عصر ما بعد الحداثة.

 

الشهادة مقابل تبرع للكنيسة

يعتقد المحامي بالنقض والمحكمة الدستورية العليا، باحث الدكتوراة في القانون الجنائي نبيل غبريال، أن الأزمة تنبع من تطبيق لائحة 1938 لقيام الدولة بتعديل قانون المرافعات والذي تضمن إلغاء محكمة النقض في الأحوال الشخصية، ما نتج عنه صدور أحكام متضاربة في الدرجة الأولى ومحكمة الاستئناف، مبينًا أن الخلافات الزوجية أو التعدي بالضرب من أحد الزوجين على الآخر أو وقوع ضرر على أحدهما لا تعد أسبابًا للطلاق في المسيحية، فلا طلاق لدى الكاثوليك، بينما يُعَد الزنا السبب الوحيد للطلاق عند الأرثوذكس؛ لكنّ هناك فارق كبير بين الزنا الجنائي في قانون العقوبات وبين الزنا الحكمي الوارد بتعديل 2008 الذي يتضمن الصور العارية ومحادثات “الواتساب” والمكالمات الهاتفية، التي يخون فيها أحد الزوجين، الآخر، ويحق له تسجيلها من طرف أحدهما دون إذن القضاء المختص وأن بعض الدوائر القضائية تخلط بين الزنا الجنائي الوارد في قانون العقوبات والزنا الحكمي الوارد في المادة 50 من لائحة 1938 المعدلة في 2008. 

ويشير “غبريال” في تصريح إلى زاوية ثالثة إلى وجود ما أسماه “مافيا” شهادات تغيير الملة لراغبي الطلاق من المسيحيين الأرثوذكس، مستغلين قلة الوعي بين المواطنين واتفاق الكنيسة الأرثوذكسية مع كنيسة السريان الأرثوذوكس على أن ترسل إليها الأزواج الذين لهم أولوية في الحصول على الطلاق، ليحصلوا على الشهادة مقابل سداد تبرع للكنيسة الأخرى قيمته ثمانية آلاف جنيه.

 ويفترض أنه بموجب الشهادة، يحصل الزوجان على حكم بالطلاق، ويتم وقتها اللجوء إلى قوانين الأحوال الشخصية الخاصة بالشريعة الإسلامية فتقوم الزوجة المسيحية برفع دعوى خلع، أو يرمي الزوج المسيحي يمين الطلاق على زوجته على الطريقة الإسلامية، لكن بعض الدوائر لا تقضي بالتطليق وتخالف اللائحة 38 لعدم علمهم الكافي بصحيح القانون وتطبيقاته.

 

ويعاني عدد من المسيحيات المصريات من أجل الحصول على الطلاق المدني؛ لكن المُشرّع رفض وجود طلاق مدني دون العودة للكنائس الثلاث الرئيسية في مصر، وفي العام 2021، نظم قانون الأسرة للمسيحيين مسألة الطلاق والانفصال. تم التوافق على أن يكون لكل طائفة باب ينظم مسألة الطلاق. الكنيسة الأرثوذكسية أقرت توسيع مفهوم الزنا الحكمي ليشمل المكالمات الهاتفية والمكاتبات الإلكترونية والتحريض على الدعارة وتبادل الزوجات والشذوذ. الكنيسة الإنجيلية قصرت أسباب الطلاق في تغيير الدين وعلّة الزنا فقط. أما الكنيسة الكاثوليكية فرفضت الطلاق تمامًا وأقرت الانفصال الجسدي فقط.

آية ياسر
صحافية وكاتبة وروائية مصرية حاصلة على بكالوريوس الإعلام- جامعة القاهرة.

Search