لماذا لا تغرق مصر في ديونها؟

كانت صفقة رأس الحكمة لتكون لٌغزًا كبيرًا بالفعل لولا توقيتها الواضح حدّ الصفاقة، إذ تأتي بينما تنذر حكومة الاحتلال الإسرائيليّ باجتياح رفح الّتي تكتظّ بالنازحين الفلسطينيّين جرّاء العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، ومع نوايا إسرائيليّة معلنة في أوراق رسميّة لتهجير فلسطينيّي قطاع غزّة نحو مصر لتصفية الصداع الّذي يمثّله القطاع للاحتلال الإسرائيليّ
محمود إبراهيم

 في عام ١٩٨٩ كان الدين الخارجيّ المصريّ قد بلغ نحو ٥٠ مليار دولار لتحتلّ مصر بذلك المركز الرابع بين أكثر بلدان العالم النامية من حيث حجم الدين الخارجيّ. كانت مصر قد توقّفت عمليًّا عن السداد عندما نقلت رويترز عن خبير اقتصاديّ مصريّ أنّ في كلّ مرّة يعتقد عندها المحلّلون ألّا مخرج للاقتصاد المصريّ، تحدث معجزة، وقد جاءت المعجزة بعد ذلك بأشهر قليلة بالفعل، عندما غزا صدّام حسين العراق، وشكّلت الولايات المتّحدة تحالفًا دوليًّا ضدّه ضمّ مصر في ذلك الوقت.

قبل أن تنتهي الحرب، كانت الولايات المتّحدة قد أسقطت بالفعل عن مصر دينًا عسكريًّا قدره نحو ٧ مليارات دولار، كما تنازلت دول الخليج عمّا مجموعه ٦ مليارات دولار، أمّا بعد الحرب، فقد قادت الولايات المتّحدة بنفسها مفاوضات نادي باريس الّتي شاركت فيها ١٧ دولة من كبار الدائنين حول العالم، من بينها اليابان، وقادت إلى إسقاط ٢٠ مليار دولار آخرين، ليتقلّص بذلك الدين الخارجيّ المصريّ بأكثر من ٥٠٪ دفعة واحدة، كما أعيدت جدولة المتبقّي على مدى ٢٥ عامًا. بدا ذلك في الواقع أكثر من معجزة، ووصف باحث مصريّ في بروكينجز آنذاك ما حدث بأنّ الدول الكبرى رفعت قدمها عن صدر مصر.

لا يختلف الحال اليوم في مصر كثيرًا عمّا كان عليه عام ١٩٨٩، فقد بلغ الدين الخارجيّ المصريّ ١٦٥ مليار دولار، وتحتلّ مصر موقعًا متقدّمًا بين الدول النامية من حيث حجم دينها الخارجيّ، ويبدو وضعها أكثر حساسيّة مع الارتفاع الحادّ في نسبة الدين الخارجيّ قصير الأجل إلى الاحتياطيّ الّتي شهدت ارتفاعًا حادًّا بداية من عام ٢٠٢٠، لتقترب من ١٠٠٪ أو تتجاوزها فعليًّا مقارنة ب ٣٢٪ قبل بداية الأزمة.

 لكنّ مصر تخطو على الأرجح نحو معجزة جديدة اسمها هذه المرّة صفقة رأس الحكمة، تلك الّتي ستدفع بمقتضاها دولة الإمارات العربيّة المتّحدة لمصر ٣٥ مليار دولار، منها ٢٠ مليار دولار على الأقلّ كتحويل سائل مباشر، خلال شهرين، كمقدّم ماليّ غير مبرّر وفقًا لما جرى إعلانه إلى الآن لمشروع تنمية منتجع رأس الحكمة السياحيّ الّذي قال رئيس الوزراء المصريّ إنّ حجم الاستثمارات الّتي سيجري ضخّها فيه سيصل إلى ١٥٠ مليار دولار في بلد يبلغ إجماليّ ناتجها المحلّيّ الإجماليّ ٤٥٠ مليار دولار. لا يبدو شيء من ذلك ذا صلة بالرأس أو بالحكمة.

معجزة أم اقتصاد سياسيّ؟

كانت صفقة رأس الحكمة لتكون لٌغزًا كبيرًا بالفعل لولا توقيتها الواضح حدّ الصفاقة، إذ تأتي بينما تنذر حكومة الاحتلال الإسرائيليّ باجتياح رفح الّتي تكتظّ بالنازحين الفلسطينيّين جرّاء العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزّة، ومع نوايا إسرائيليّة معلنة في أوراق رسميّة لتهجير فلسطينيّي قطاع غزّة نحو مصر لتصفية الصداع الّذي يمثّله القطاع للاحتلال الإسرائيليّ. وقبل يومين فقط من الإعلان عن الصفقة وتوقيع الاتّفاق، كانت رويترز تنقل عن مسؤول في صندوق النقد الدوليّ قوله إنّ الصندوق حريص على دعم مصر لاحتمال الضغوط الّتي قد تنشأ عن نزوح اللاجئين الفلسطينيّين إليها.

 لا علاقة إذن للأمر بالمعجزة، فالإمارات العربيّة المتّحدة لم تكتشف رأس الحكمة قبل أسبوعين، ولم تدرك مصر كم يمكن لهذا المنتجع أن يكون بهذا السحر الاقتصاديّ الخلّاب، فمنذ عامين تتوسّل مصر بيع أصولها للحكومات والشركات الخليجيّة وسط مماحكات على أسعار الشركات وسعر الصرف الّذي يجري على أساسه التقييم، في ظلّ ضغوط اقتصاديّة شديدة على الحكومة المصريّة. وعلينا لذلك أن ننظر في التوازي بين وفاء الإمارات بوعدها الملياريّ خلال شهرين وما يجري في غزّة، فلربّما يتبخّر الوعد إذا تغيّرت التطوّرات المنتظرة على الناحية الأخرى.

لكنّ الأمر برمّته كما هو واضح يتعلّق بالاقتصاد السياسيّ المصريّ، أو إن شئت العلاقة بين الخصائص الجيوسياسيّة لمصر واقتصاد الديون والمساعدات الدوليّة المرتبط بها، فالبلد العربيّ الأكبر من حيث عدد سكّانه هو أحد أربعة بلدان عربيّة فقط لديها حدود مباشرة مع إسرائيل، ما يعني أنّ الكتلة السكّانيّة لهذا البلد تمثّل التهديد الأمنيّ الأخطر على إسرائيل، وهو ما يتجلّى في معركة غزّة الجارية الّتي تكشف مدى التحوّل الاستراتيجيّ الّذي يمكن أن يطرأ على المنطقة بأكملها إذا كانت مصر تملك قوّة قادرة على كسر الحصار الّذي يفرضه الاحتلال على القطاع.

علاوة على ذلك، فإنّ أيّ تغيير سياسيّ جذريّ في مصر لن تقف أصداؤه على الأرجح عند ضفّة واحدة من ضفاف البحر الأحمر، بل ستتردّد على الضفّة الأخرى الّتي لن يرتعب حكّامها فحسب، بل سترتعب من ورائهم حكومات ومؤسّسات ماليّة على رأسها الولايات المتّحدة الأمريكيّة الّتي ترى في استقرار التدفّق غير المشروط سياسيًّا للنفط الخليجيّ شرطًا لهيمنتها السياسيّة والاقتصاديّة.

يبقى بعد ذلك أنّ ضخامة مصر السكّانيّة تمثّل في حدّ ذاتها معضلة ديمغرافيّة في السياسة الدوليّة. فرغم أنّ كثيرًا من دول شرق ووسط آسيا تمتلك تلك الكتلة السكّانيّة الهائلة، إلّا أنّ أيًّا منها لا يقع على تخوم العالم الغربيّ كما هو الحال في مصر، ومن ثمّ فإنّ أيّ فوضى في مصر ستكون انعكاساتها على الأمن والاقتصاد الأوروبّيّين أشدّ عنفًا بالتأكيد من الاضطرابات في باكستان أو بنجلاديش.

يعني ذلك أنّه سواء قامت حرب غزّة، أم لم تقم، فإنّ تعويم الاقتصاد المصريّ والسلطة السياسيّة القائمة عليه كان أمرًا واقعًا على الأرجح، وكان التفاوض حول هذا الإنقاذ جاريًا على كلّ حال سواء مع صندوق النقد الدوليّ، واجهة الولايات المتّحدة وحلفائها، أو مع الأشقّاء الخليجيّين، وكلّ ما قد أضافته الحرب في غزّة، ليس معجزة إنقاذيّة، وإنّما رفعًا من جودة الصفقة الإنقاذيّة وتخفيفًا من ضريبتها الاقتصاديّة أو السياسيّة الّتي كان على السلطة في مصر أن تدفعها مقابل هذا الإنقاذ.

أيّ تغيير سياسيّ؟

لا يعني ذلك بالتأكيد أنّ الولايات المتّحدة الأمريكيّة أو الاتّحاد الأوروبّيّ أو دول الخليج العربيّ من شأنها أن تعارض أيّ شكل من التغيير السياسيّ في مصر، وقد اتّخذت الولايات المتّحدة موقع المراقب المحايد بعد ثورة يناير في ٢٠١١، كما أبدى الاتّحاد الأوروبّيّ مرونة واستعدادًا للتعامل مع مخرجات التحوّل السياسيّ المصريّ، وحتّى الخليج العربيّ، فإنّه على الرغم من عدم إخفائه لانزعاجه من التغيير، إلّا أنّه – على الأقلّ إذا ما استثنينا الإمارات – بدا مستعدًّا لابتلاعه طالما لم يدخل معه في صدّام مباشر، أو بالتحديد طالما لم يسع إلى تصدير هذا التغيير، وهو المحدّد الأكثر حساسيّة بالنسبة للأنظمة العربيّة عمومًا، والأنظمة الخليجيّ على وجه الخصوص.

 لكنّ أيًّا من هذه الأطراف مهما كانت مناوراته السياسيّة لا يملك أن يخفي ارتياحه الشديد للتعامل مع نظام قويّ في مصر بالمعنى الأكثر واقعيّة للقوّة، أي تلك القدرة على إبقاء السكّان تحت السيطرة باستخدام الأدوات المختلفة، وعلى رأسها أجهزة العنف، لذلك فإنّ هذا النظام القويّ الّذي ترتاح إليه كافّة الأطراف من الولايات المتّحدة إلى الخليج العربيّ هو ذلك النظام النابع مباشرة من تلك الأجهزة، ولا تتجاوز الخلاف معه على الأرجح حدود مطالبته بالحصافة السياسيّة والاقتصاديّة لتجنّب انفجار سياسيّ أو التورّط في أزمات اقتصاديّة مكلّفة كالّتي نعانيها اليوم.

في المقابل، من المرجّح ألّا يتردّد أيّ من تلك الأطراف في رفض أيّ تغيير سياسيّ غير محسوب، يتجاوز الثورات الملوّنة واحتجاجات الورود إلى اضطراب اجتماعيّ واسع من شأنه أن يغيّر التركيبة الطبقيّة أو المؤسّسيّة للسلطة. ففي هذه الحالة، سيكون لدى كلّ طرف من هذه الأطراف الاستعداد الكامل لاستثمار طاقات سياسيّة واقتصاديّة هائلة في سبيل التصدّي لهذا التغيير وإعادة سلطة قادرة على كبح الجماح الاستراتيجيّ لتلك الكتلة السكّانيّة الهائلة.

هذه هي الديناميّة الفعليّة الّتي بإمكانها وصف معجزات مصر الاقتصاديّة الّتي تكرّر نفسها عبر التاريخ من انفتاح ١٩٧٤ مرورًا أزمة الديون وحرب الخليج في ١٩٨٩، وانتهاء إلى أزمة ديون ٢٠٢٢ ومعركة غزّة أو صفقة رأس الحكمة، أيّهما تريد.

 

مقالات الرأي لا تعبر بالضرورة عن زاوية ثالثة

Search