في الحادي عشر من نوفمبر 2019، وبينما كانت أسماء* المحامية الحقوقية العائدة من تدريب قانوني تلقّته في نيويورك، تقف في مطار فرانكفورت انتظارًا لطائرتها المتجهة إلى القاهرة، فتحت هاتفها لتجد سيلًا من الرسائل من أهلها وأصدقائها، ينهونها عن العودة إلى مصر: “زارك الأمن… واسمك أُدرج في قضية”.
كانت أسماء قد غادرت مصر في مطلع أكتوبر من العام نفسه في رحلة بدت روتينية، تنوي خلالها العودة سريعًا بعد انتهاء تدريبها. لكنّ رسائل التحذير تلك قلبت مسار حياتها. لم تكن أمامها وجهة محددة، ولم يكن في يدها سوى حقيبة السفر وجواز المرور، بينما بدا الوطن قد أغلق أبوابه فجأة.
منذ ذلك اليوم، وعلى مدى عامين، قضت أسماء أيامها على أريكة في سكن مستأجر بتونس، تحاول استيعاب واقع النفي القسري، وتسترجع اللحظة التي تحوّلت فيها من محامية تنشط في الدفاع عن معتقلين سياسيين منذ عام 2013، إلى مُلاحَقة أمنية تُحظر عودتها من دون تحقيق أو محاكمة.
لم يُفاجئ أسماء كثيرًا تحولها من محامية مدافعة إلى متهمة في يوم وليلة؛ “كنت أتوقع ذلك منذ 2013″، كما تقول لـ”زاوية ثالثة”. لكن ما لم يكن سهلًا استيعابه هو الانتقال المفاجئ من الوقوف على باب الطائرة استعدادًا للعودة إلى مصر، إلى البحث في المطار ذاته عن دولة يمكن أن تستقبلها. خلال خمس ساعات متواصلة من الاتصالات، حاول الأصدقاء إقناعها بعدم العودة، بينما كانت هي تبحث عن أمر أبسط: “كنت فقط أريد مقابلة إنسان أعرفه ويطمئنني”.
وقع اختيارها على تونس، حيث أصدقاء عمل، ولإمكانية استقدام والدتها لاحقًا. لكن العوائق لم تكن أقل حدة، فدخول المصريين إلى تونس يتطلب فيزا تُستخرج من السفارة التونسية في القاهرة، ما جعل اختيار تونس شبه مستحيل في ذلك الوقت. بعد ست ساعات أخرى من المحاولات، تمكن أصدقاؤها من تأمين فيزا عند الوصول، وحجزوا لها مقعدًا على طائرة تابعة للخطوط الألمانية، تغادر بعد ساعة ونصف.
رغم ذلك، لم تكن العقبات قد انتهت. قضت أسماء أكثر من ساعة تحاول إقناع موظفي شركة الطيران بمنحها بطاقة صعود الطائرة، وسط رفض قاطع بدعوى عدم امتلاكها تأشيرة رسمية. تقول: “عنصروا علي بكل الطرق، انهرت تمامًا، ولم يتبقَ سوى نصف ساعة على إقلاع الطائرة. وجدت نفسي أهددهم بطلب اللجوء في ألمانيا إذا لم يسمحوا لي بالصعود”.
كان التهديد نقطة التحول. بمجرد نطقها بكلمة “اللجوء”، ظهرت موظفة تونسية خاطبتها بالعربية، واعتذرت عن التأخير. بعد 12 ساعة من الانتظار والضغط العصبي، غادرت أسماء مطار فرانكفورت باتجاه تونس، تاركة خلفها عملًا حقوقيًا بدأته منذ سنوات في مصر، لتبدأ حياة جديدة من الصفر في بلد لا تعرفه.
بخروجها من مصر، تنضم أسماء إلى ما يمكن تسميته بـ”محاميّ المنفى”، وهم مجموعة من المحامين الحقوقيين المصريين الذين غادروا البلاد مضطرين، بعد أن تحوّلوا من مدافعين عن المعتقلين إلى مطلوبين في قضايا أمنية. تُقدّر أسماء عددهم بـ”25 محاميًا حقوقيًا يعيشون الآن خارج مصر”، وتصف هذا الرقم بأنه “كبير جدًا؛ كنا بين 60 إلى 70 محاميًا نلتقي يوميًا في النيابات. خرج منا 25، أي حوالي 40% من المحامين الحقوقيين في الخارج”.
وتضيف أن هذا الرقم لا يشمل من لم يُتح له الخروج: “كثيرون أُلقي القبض عليهم قبل أن يعرفوا أنهم متهمون، وآخرون اختاروا التراجع عن العمل السياسي بعد أن وصلتهم رسائل أمنية مباشرة تُلوّح بإدراج أسمائهم في محاضر التحريات”.
وتعرض محامون لتضيقات وصلت حد القبض عليهم وإدراجهم إلى جانب موكليهم في نفس القضايا التي يتولون الدفاع فيها، كما حدث مع المحامي الحقوقي محمد الباقر الذي قُبض عليه في 2019، أثناء حضوره في نيابة أمن الدولة العليا، للدفاع عن موكله المبرمج علاء عبد الفتاح.
وادرج الباقر في نفس قضية عبد الفتاح، وحُكم عليه في ديسمبر 2021 بالسجن لمدة أربعة سنوات، ثم خرج بعفو رئاسي 2023، إلا أنه لا يزال مدرجًا على قوائم الإرهاب وممنوع من السفر، حسب تقرير حقوقي مشترك تقدمت به 12 منظمة حقوقية إلى الأمم المتحدة، قبيل مناقشة مصر لملفها الحقوقي في 28 يناير الماضي.
ولا يوجد إحصاء دقيق بعدد المحامين المقبوض عليهم الآن. وقدّر المحامي عزت غنيم، مدير منظمة التنسيقية المصرية للحقوق والحريات، في 2017، المحامين المحبوسين على ذمة قضايا والمحكوم عليهم بـ١٣٤ محاميًا، قبل أن يقبض عليه هو شخصيُا في 2018 ويحكم عليه في 2023 بالسجن المشدد 15 سنة في محاكمة أثارت انتقادات حقوقية.
بدورها قدرت حملة “أطلقوا سراحهم” للدفاع عن المحامين المحبوسين منذ 2013، في مؤتمرها التأسيسي في 2015، المحامين المقبوض عليهم بحوالي 300 محاميًا.

2019.. بداية الهجمة
يعطي علي* المحامي الحقوقي الذي خرج منتصف 2023 بشنطة ظهر بمجرد معرفته بإدراجه في قضية، وتنقل من لبنان إلى سلطنة عُمان قبل أن يستقر في تونس، بُعدًا أوسع لمسألة استهداف الحقوقيين عمومًا ومن بينهم المحامين.
ويقول “كنا مرحلة من مراحل استهداف السلطات لكل من يزعجها. الوضع بدأ باستهداف الإسلاميين ومحاميهم بعد 2013، ثم السياسيين والأحزاب، ثم عامة الشعب وكل من يكتب كلمة نقد، وأخيرًا الحقوقيين والمحامين باعتبارهم أخر حلقة في المنظومة”. ويؤكد “كان المحامون الحقوقيون يتهكمون فيما بينهم، ويسألون متى سيأتي دورنا”.
على ما يبدو أن الدور جاء في 2019، حسب تقديرات علي* وأسماء*، وتُعيد الأخيرة السبب إلى المهمة التي قام بها المحامون في أعقاب القبض على مئات المواطنين على خلفية تظاهرات 20 سبتمبر 2019. وتفيد “المحامون خاضوا ملاحم في نيابة أمن الدولة العليا، للحضور مع المتهمين، وتسهيل تواصلهم مع أهلهم، وإدخال احتياجاتهم”، متابعة “حضرنا في 10 أيام مع أكثر من 2000 متهم بخلاف من أخلى سبيله، شاهدنا ضرب وتعذيب، المحامي كان في الواجهة يدافع ويوثق وينشر، كانت تزورني الكوابيس من شدة ما عايشناه بالنيابة”.
وتشير إلى أن حملة استهداف المحامين بدأت بـ”القبض على ماهينور المصري والباقر من النيابة ثم عمرو إمام. في أقل من أسبوعين كان في خمس قضايا للمحامين، ثم قبضوا على إسلام سلامة وأُدراج اسمي في قضية شملت حقوقيين آخرين”.
تؤكد أسماء أن الهجمة تسببت في خروج محامين “ومن كان في الخارج لم يعود، مقدرة عدد المحامين الذين بدأوا شتاتهم منذ 2019 حتى الأن بـ”15 محاميًا”.
بدوره يؤرخ علي* لهذه الفترة بتغير لاحظه في التعامل مع المحامين حال القبض عليهم، قائلًا “قبل 2019 كان أقصى مدة يمكن أن يقضيها محامي في الحبس 6 أشهر، ربما تزيد بعض الشئ لو كان محامي محسوب على تنظيم”. ويرصد “الأمر تغيير بعد 2019 من كان يدخل لا يخرج، حتى لو تجاوز الحد الأقصى للحبس الاحتياطي، بات الأمر أشبه بالثقب الأسود”.
منذ 2017، يتردد محامو المجتمع المدني على نيابة أمن الدولة العليا بالتجمع الخامس نهار كل يوم. يعود علي* إلى هذا التاريخ، ويوضح “قبل 2017 كنا كل يوم أمام نيابة ومحكمة مختلفة، إلى أن تقرر في 2017 تركيز القضايا السياسية في مكان واحد هو نيابة أمن الدولة العليا، ايًا كان خطورة القضية والمتهم”. ويشرح “كانت نيابة أمن الدولة تختص قبل ذلك بقضايا الإرهاب الكبرى”، مشيرًا إلى أن هذا التحول جعلها تنظر “كل القضايا بما فيها من كتب كلمة على فيسبوك”.
ويفسر هذا التحول بـ”رغبة الأمن الوطني في مراقبة كل القضايا السياسية”، متابعًا “قبل 2017 كان الأمن الوطني يجد صعوبة في التنسيق مع كل القضاة والمحاكم، فكانت تخرج قرارات إخلاء سبيل من بعض النيابات ليست على أهوائهم”.
يتابع “لتسهيل التنسيق وإحكام السيطرة فضلوا المركزية؛ بحيث تنحصر القضايا السياسية داخل نيابة يثقوا فيها وعلى تواصل معها، هي نيابة أمن الدولة العليا”.
وارتفع عدد القضايا المحالة إلى نيابة أمن الدولة العليا ثلاث أضعاف بحلول 2018 مقارنة بعام 2013، إذ أُحيل في 2013، 529 قضية، فيما ارتفع العدد إلى 1739 قضية في 2018، حسب تقرير “حالة الاستثناء الدائمة: انتهاكات نيابة أمن الدولة العليا” الصادر عن منظمة العفو الدولية، في نوفمبر 2019.
لم يتضرر المتهمون فقط من هذا التحول، إذ لحق كذلك الضرر بالمحامين. ويفسر علي* “تسبب حصر تعاملنا على نيابة أمن الدولة العليا، في سهولة تصنيف الأمن الوطني لنا، والتركيز علينا، وزيادة المضايقات”.
تصنيف وتجريد
تواصلنا مع خمسة محامين ترددوا على نيابة أمن الدولة العليا، منهم واحد مازال يمارس عمله داخل مصر، جميعهم اتفقوا على أن مجرد الدخول إلى النيابة “مهمة ثقيلة”.
يروي محمد*، محامي اضطر للخروج من مصر قبل عام ونصف بعد إدراجه في قضية “النيابة هي مبنى من أربع طوابق فوق الأرضي. لها أبواب منفذة على محكمة القاهرة الجديدة، ولكن جميعها مغلق باستثناء بوابة صغيرة يجلس عليها أمين شرطة نظامي”.
أول ما يمر عليه المحامي في دخوله إلى المبنى، حسب محمد “غرفة صغيرة يجلس بها أمين شرطة خلف مكتب يدون كل نملة داخلة أو خارجة”. يطلب الشرطي “بطاقات تعريف المحامين ويسجل البيانات ورقم القيد ويسأل عن سبب التواجد”. إلى جواره يوجد “فرد من الأمن الوطني دوره منع المحامين من الصعود إلى مكاتب وكلاء النيابة، واستلام المأموريات من قطاعات الأمن الوطني على مستوى الجمهورية، ومنع التواصل بين المحامي والمتهمين”.
داخل غرفة بالدور الأرضي يتجمع المحامين، “من يرغب في الصعود لأي إجراء يبلغ أولًا أمين الشرطة الذي يسأله على الغرض من الصعود، ويبلغ أولًا الشخص الذي سيصعد له ليأذن له أو لا”.
لا يعني ذلك أن كل محامي يقصد النيابة سيدخل، يقول “هذه التضيقات تنطبق على من يُسمح له بالصعود، هناك محامين يقصدون النيابة ولا يسمح لهم بالأساس”.
أما من يدخلون “فيتجردون من هواتفهم المحمولة والورق الأبيض ولا يسمح إلا بعدد قلم واحد لتجنب منح قلمًا لمتهم “.
ويربط فاروق، محامي حقوقي ترك مصر قبل أكثر من خمس سنوات إلى أمريكا، بين بدايات فرض إجراءات التجريد على المحامين وواقعة محاولة اغتيال المستشار تامر الفرجانى، المحامى العام الأول لنيابات أمن الدولة، في 2015، من خلال زرع عبوة ناسفة أسفل سيارته من قبل اثنين ادعيا إنهما محاميان. ويوضح “استغلوا الواقعة وفرضوا تشديدات على دخول المحامين، وعندما رفض المحامون الإجراءات كان الرد المعترض لا يدخل”.
يشرح كيف مثّل الدخول إلى نيابة أمن الدولة العليا بدون هاتف ضغطًا على المحامي”هو منفصل عن العالم الخارجي، لو حصل معه أي تجاوز لن يسمع به أحد”، نتيجة لذلك “فرض المحامون قيود على أنفسهم من الخوف”.
يضيف عليه علي* بأن التحقيقات تمتد لساعات طويلة “المحامي الذي يحضر تحقيق ليس من حقه الخروج إلا بعد انتهاء التحقيق، أحيانًا أدخل الظهر أخرج الفجر، كل هذا الوقت بدون هاتف أو تواصل مع أي شخص في الخارج”.
حضور التحقيقات
التردد على النيابة بشكل يومي، والالتزام بدرجة ما من الخطوط الموضوعة للمحامين ضمن لمحمد وعليّ وفاروق تجاوز عقبة الدخول، إذ “بعد ستة أشهر من التردد على المكان بات وجهي معروف لضابط الأمن الوطني”، يقول محمد.
ويوضح “ترددت على النيابة منذ 2017، عملت من وقتها مع مؤسسة حقوقية لتقديم الدعم القانوني وتوثيق الانتهاكات. كانت المؤسسة تحافظ على أمننا بنشر أخبار الجلسات مع تجنب كشف هويتنا، فلم أصنف في البداية من قبل الأمن الوطني كمحامي مؤسسات”، حسب توصيفه.
ويتابع “العمل في نيابة أمن الدولة غير أي نيابة، في بداية عملي نصحني الزملاء القدامى بالابتعاد عن حضور التحقيقات والاكتفاء بحضور جلسات تجديدات الحبس حتى لا أضر نفسي”.
لم يستجب محمد للنصيحة “عندما أعرف بإجراء تحقيق كنت أطلب إدخال الكارنية. وهو إجراء متعارف عليه لطلب الأذن بحضور التحقيق”، إلا أن الرد كان بالرفض “عندما نحتاجك سنخبرك”.
على الرغم من عدم قانونية الرد، حسب محمد، إلا أنه لم يُفضّل الدخول في “صدامات خاسرة”، مفسرًا “المتهم غير موكل رسمي لي وربما يُضغط عليه ليرفض حضوري معه”.
استمرت محاولات محمد لحضور التحقيقات ومعها استمر الرفض، مؤكدًا “لم أحضر في أول ستة أشهر من عملي إلا تحقيقين أو ثلاثة”.
عدم السماح للمحامي بحضور التحقيق ليس التضييق الوحيد، فالعمل داخل النيابة صُمم حسب محمد للحيلولة دون رؤية المحامين للمتهمين الجدد أثناء دخولهم للتحقيق “استحالة أن تتزامن تجديدات الحبس مع التحقيقات، بعد انتهاء التجديدات يأتي ضابط الأمن الوطني ليطلب منا النزول بحجة انتهاء التجديدات”. يضيف عليه علي* “التحقيقات تتم بشكل سري” ولتجاوز ذلك “يوصي المحامي زملائه بتبليغه حال صادفوا اسم موكل له في تحقيق”.
ويشير إلى أن هذا الإجراء “يحدث في هدوء حتى لا يُستفز ضابط الأمن الوطني”، منوهًا إلى واقعة “قال فيها زميل على بوابة النيابة إنه صاعد لحضور تحقيق مع موكل له، وعندما سُأل عن من أخبره بالتحقيق ذكر اسمي”. ويؤكد “مُنعت من دخول النيابة 10 أيام، بذل فيهم زملاء وساطات لدى ضابط الأمن الوطني للتجاوز عن ما اعتبره تخطي للخطوط الحمراء”.
هذا لا يعني أن المحامين ممنوعين تمامًا من حضور التحقيقات؛ يوضح محمد “هو يحتاج إلى منح شرعية إجرائية للتحقيقات، لابد من دخول محامي شرط أن يكون معروف لهم”، لهذا يؤكد محمد وعليّ حضورهما التحقيقات بـ”سلاسة” بعد ثبوت التزامهما بـ”عدم النشر أو التواصل مع الإعلام”. ويلفت عليّ “في بعض المرات كان يُسمح لي بالحضور مع تشديدات ضابط الأمن الوطني علي بعدم تبليغ أحد حتى لو أهل المتهم”.
نوع مختلف من التضيق تعرضت له أسماء بحكم نوعها كأنثى. وتروي “لا توجد سيدة واحدة تعمل في نيابة أمن الدولة وكنت من المحاميات القليلات اللاتي يترددن على النيابة، لهذا تركزت المضايقات على كوني ست”. وتعدد “كنت أتعرض لتفتيش حقير يضع فيه الموظف يده في جيوبي ثم يعتذر، وأحيانًا كان يطلب مني وكيل النيابة الخروج من غرفة التحقيق بحجة “معاينة جسد المتهم ولا يصح أن أحضر المعاينة، أو ينصحني موظف بالعودة إلى المنزل وعدم حضور التحقيقات بحجة تأخر الوقت”.
تهديدات
يختلف المحامون في تعاطيهم مع الخطوط الحمراء المرسومة لهم، بعضهم يتجاوزها بالنشر وتداول المعلومات مثل أسماء التي اختارت الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي فيتداول كثيرون منشوراتها، وآخر يتعامل بحذر مع الإعلام مثل محمد وثالث شديد الحذر يتجنب التعامل مع الإعلام ولا يظهر في تجمع للمحامين، حتى إن زملائه لم يعرفوا طريق بيته، حسب عليّ لزاوية ثالثة.
كل ذلك لم يمنع أن يكون مصير الثلاثة واحدًا، وهو الإدراج على ذمة قضايا والخروج القسري من مصر. قبل هذه المرحلة، يتعرض المحامي لتهديدات مباشر، حسب محمد وعلي وفاروق.
ويروي الأخير “في مرة منعوا صعود المحامين لدور معين. حاولت أنا الصعود، فجاء ورائي موظف، وصورني، وقال لي هذه الغلطة الثالثة لك”. غاب فاروق عن النيابة بعد هذه الجملة “أسبوعين للتأكد من تفويت ما اعتبره الموظف غلطة”.
موظف أخرى جاء لمحمد برسالة مفادها “قلل من حضور التحقيقات، بعدما أُخذت عليّ الملاحظات بسبب نوعية القضايا التي أحضر فيها”.
أما أسماء فتقول “وجودك في نيابة أمن الدولة العليا يعرضك يوميًا للتهديدات”، وتدلل “كلما تُفتح قضية جديدة كان يأتي ضابط الأمن الوطني ليخبرني بأن اسمي في القضية. كان يتعمد ترهيبي”.
عليّ بدوره تعرض لتجربة توقيف في المطار في 2021 “ويقول “حقق معي ضابط أمن وطني في المطار وشعرت بأنني لن أخرج. مسحت بيانات الهاتف، واستعددت لتجربة السجن، إلا أن الضابط جاء بعد ستة ساعات وسمح لي بالعودة إلى المنزل”. ويقول شعرت بعدها بأن “المشهد يضيق، والخروج بات قريب”.

المنفى.. نجاة خاسرة
حين تنظر أسماء خلفها لا يمكنها منع نفسها من التفكير في الخسارة. صحيح إنها نجت من الحبس، وبنت بدلًا من ذلك أسرة أنجبت فيها طفلتين، إلا إن كل ذلك لم يمنعها من الأسف على لحظة خروجها “خرجت في عز عزي، كنت عاشقة للمحاماة وأعطيها كل وقتي، كنت على وشك فتح مكتبي الخاص، إلا أن كل ذلك انتهى”.
تعمل أسماء منذ خروجها باحثة حقوقية إلى جانب عملها مديرة الوحدة القانونية بإحدى المنظمات، لكن قلبها مازال معلقًا بالمحاكم، وتقول “العمل على الأرض مختلف، أحب أن أكون في الواجهة. عن نفسي مازالت أعرف نفسي كمحامية، واعتبر العمل البحثي محاماة نظرية”.
تمتن أسماء للصدفة التي منحتها النجاة، إلا إن النجاة لم تمنع عنها “تحديات المنفى”، وتشرح “تونس صعبة على الأجانب؛ بيروقراطية في منح الإقامات، وفرص عمل قليلة تشترط معرفة الفرنسية”، هذا إلى جانب “التضييق على المجتمع المدني في تونس بعد قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021″. وهي قرارات أطاح فيها سعيد بحركة النهضة صاحبة الأغلبية في البرلمان، وتتبع ذلك تعقب للمعارضين من تيارات مختلفة.
لهذا اكتفت أسماء بالعمل مع المؤسسة التي كانت تتعاون معها قبل خروجها، مع توسيع دورها إلى البحث والمراجعة والتدقيق والتنسيق. وتفسر “مجبرة على ذلك للحصول على مرتب يغطي احتياجاتي”، مؤكدة “الماديات تحدي صعب لمحامي المنفى؛ نحصل على مرتبات من المنظمات المصرية تكاد لا تغطي السكن بعد حساب فرق العملات”. ولتعويض ذلك تستعين بمنح من منظمات حقوقية في الخارج.
وتشير إلى فقد المحامي الحقوقي ميزته بمجرد الخروج “أنت محامي. لا يمكنك العمل عن بُعد، والمانحون يفضلون الاستثمار في المحامين الموجودين على الأرض”، مفسرة “هم أقل تكلفة وأكثر فاعلية”، لهذا “أنت كمحامي في المنفى مطالب أن تعمل على نفسك حتى تخلق لنفسك مكان”.
تتعدد المسارات التي يسير فيها المحامي الحقوقي عند خروجه، حسب أسماء “إما البحث القانوني والدراسة وتعلم لغة مع التشبيك مع كيانات حقوقية في الخارج إلى جانب عمله مع المنظمات الحقوقية المصرية، أو اللجوء السياسي وأحيانًا يضطر لترك عمله الحقوقي والعمل في الفنادق”.
لم تخرج خيارات فاروق عن ذلك، إذ جمع بين عمله الحقوقي مع المنظمة التي كان يتعاون معها قبل خروجه والعمل في المطاعم لتغطية احتياجات أسرته. رغم ذلك يصف تجربته بـ”متيسرة” لخروجه بصحبة زوجته التي كانت على وشك وضع صغيرها “كنا عونا لبعض”.
منتصف 2019، توالت المواقف على فاروق بصورة أشعرته أن “المشهد أوشك على الانغلاق”. كانت وقتها زوجته في نهاية حملها، وصادف أثناء عمله واقعة لسيدة كانت قد وضعت طفلها حديثًا، ومضطرة للحضور إلى قسم الشرطة كل يومين ضمن تدابير احترازية لإخلاء سبيلها.
خشي فاروق على زوجته من نفس المصير”خاصة أننا كنا مستهدفين”، فقرر إنه لا يريد لزوجته أن تلد في مصر، وضع خطة لرحلة سفر إلى أمريكا، تستمر ثلاث أو أربعة أشهر للولادة ثم العودة، لكنهم لم يعودا “أثناء وجودي بالخارج قُبض على ماهينور والباقر في قضية كبيرة فيها أكثر من محامي، أدركت أنني لو أفلت هذه المرة سيأتي دوري قريبًا”.
بخروجه ينهي فاروق تجربة عمل سياسية وحقوقية بدأها منذ كان في الجامعة في 2007، ليبدأ من جديد في مجتمع يمتلئ بآلاف الفارين من بلدانهم من مختلف الجنسيات.
ويعتبر فاروق أن هذا هو التحدي الأصعب للمحامين الهاربين من مصر، مبينًا “يعتقد البعض أن العالم مفروش ورود للمضطهدين من مصر، ما نكتشفه أن مضطهدين كثيرون هربوا من بلدانهم، وبعضهم مر بظروف أشد قسوة”.
لهذا اعتمد فاروق تمامًا على نفسه، واصل عمله الحقوقي مع مؤسسات محلية “لشعوره بالمسئولية الأخلاقية تجاه الوضع في مصر”، إلى جانب العمل في المطاعم “كنت محتاج لدخل بعملة الدولة التي أعيش فيها”.
استمرت هذه الفترة حوالي عام، حتى انهى أوراق الإقامة وتراخيص العمل، ثم بدأ في 2020 التعاون مع مؤسسات حقوقية أمريكية مهتمة بالأوضاع في الشرق الأوسط.
ينشغل فاروق تمامًا بسؤال الجدوى، لذلك يقيس أهمية ما يقوم به اليوم بما كان يفعله قبل 2019 “عندما كنت محاميًا أحضر تحقيقًا مع متهمًا أو أدخل سندوتشًا لموكل، كان عملًا أكثر تأثيرًا ومباشرة رغم أننا كنا نفعله ونحن خائفين”.
لا يستغرق فاروق في حديث الخسارة، فيؤكد اكتسابه “نظرة أوسع بالعمل على الشرق الأوسط”، فضلًاعن تخلصه من الفزع الذي كان يعيشه في مصر. ويوضح “أخر عامين قبل خروجي، فقدت القدرة على النوم الهادئ، كنت متأهب للقبض علي، لدرجة أن أي صوت لفرامل تحت منزلي كان يوقظني من نومي”.
ويعبر عن وضعه حاليًا “أدركت معنى عبارة مشاكل عالم أول، انتقلت من الخوف من السجن إلى مشاكل الدخل، هذا أمر جيد على مستوى العيش والنفسية”.
وفيما يحتار فاروق الذي يعيش في أمريكا منذ خمس سنوات، في الحكم على تجربته، يعتبر عليّ الذي خرج قبل عام ونصف فقط، ويعيش في تونس وسط تضييق السلطات التونسية على المجتمع المدني أن تجربته خاسرة تمامًا.
ويعبر عليّ عن “خيبة أمل” في المنظمات الحقوقية المحلية، بعدما كان يتوقع دعمها له فور خروجه بمعاونته على الاستقرار في دولة أوروبية أو دفعه في برنامج يؤمن له دخل جيد. ويؤكد “ما وجدته أنك في الخارج تقف وحدك بإمكانياتك الشخصية”، مفسرًا بذلك “اضطرار بعض الحقوقيين للعودة إلى مصر رغم تهديهم”.
ويسير عليّ حاليًا في مسارات متعددة من تعلم مهارات البحث، والإنجليزية والفرنسية وبدء دراسة الماجستير، إلا أن كل ذلك لم يغنيه عن ” متعة العمل على الأرض، كان عملًا مرهقًا لكنه يستحق”.
محامو الداخل: من صمود فردي إلى عبء يومي
في الوقت الذي دفع فيه عشرات المحامين الحقوقيين ثمن عملهم بالخروج القسري من البلاد، خلّف هذا الغياب فراغًا ثقيلًا على من بقي، كما يروي كريم*، المحامي الذي لم ينقطع عن الحضور اليومي إلى نيابة أمن الدولة العليا منذ عام 2012، ويواصل الدفاع في القضايا السياسية رغم ما يصفه بـ”قلة القيمة التي نتعرض لها”.
يُقدّر كريم عدد المحامين الذين غادروا المجال أو البلاد منذ 2012 بنحو 30 زميلًا، وهو ما يشكل – وفق تقديره – “ثلث عددنا وقتها”. انعكست هذه الخسارة على قدرة المحامين المتبقين على تلبية احتياجات الدفاع، خاصة في ظل الأعداد الكبيرة التي تُعرض يوميًا على النيابة وجلسات تجديد الحبس. ويضيف: “نقضي في نيابة أمن الدولة ما لا يقل عن ست أو سبع ساعات يوميًا، أكثر من ثلث اليوم”.
من جهتها، ترى أسماء*، التي تنسق عمل فريق قانوني داخل إحدى المنظمات الحقوقية، أن الأزمة لا تقتصر على الضغط العددي، بل تمتد إلى غياب أجيال جديدة من المحامين خلال السنوات الأربع الأخيرة، ما جعل عدد المحامين الحقوقيين في الداخل لا يتجاوز بضع عشرات يتناوبون بين المنظمات، ويتساقطون واحدًا تلو الآخر تحت وطأة الاستنزاف.
وتقول أسماء: “خروج المحامي من مصر خسارة مزدوجة؛ فهم غالبًا يعملون بدافع أخلاقي، ومن دونهم تفرغ الساحة لمحامين يستغلون ذوي المعتقلين”.
رغم كل ذلك، يصر كريم على البقاء: “ندرك أن دورنا لم يعد دفاعيًا كما كان؛ فقرارات إخلاء السبيل لم تعد تأتي نتيجة لمرافعة، بل من قوائم العفو. لكن وجودنا ضروري لتخفيف الانتهاكات عن المتهمين، وحمايتهم من النصب”.
وعن احتمال اضطراره للخروج لاحقًا، يُجيب بثقة: “لا أرى نفسي إلا بجوار المتهمين”.
وهو الشعور ذاته الذي يتشاركه مع زملائه في الخارج، مثل أسماء وعليّ ومحمد وفاروق، ممن يُعرفون أنفسهم – رغم المنافي – بأنهم ما زالوا “محامون على الأرض”، إلا أن الفارق الجوهري، أن كريم اختار البقاء رغم المخاطر، فيما فُرض على الآخرين البحث عن حياة جديدة توازن بين استقرار شخصي ومسؤولية أخلاقية لم يتخلوا عنها تجاه بلدهم.
*الأسماء مستعارة بناء على رغبة المصار