مساء السبت 12 أبريل الماضي، أعلنت أسرة الشاب محمود أسعد مقتله في قسم الخليفة بالقاهرة، بعد أسابيع قليلة من القبض عليه بواسطة رجال مباحث القسم. اتهمت الأسرة ضباط القسم بقتل محمود بعد تعذيبه، بعد أن ذهبت ورأت على جثته آثاراً للتعذيب، وقد استدعيتْ النيابة العامة للتحقيق في كيفية مقتل محمود. أيضا، في أقصى غرب الجمهورية المصرية، بمدينة مرسى مطروح، قامت قوات الشرطة باصطحاب شابين من أهالي المدينة، وهما يوسف عيد فضل السرحاني، وفرج رباش الفزاري، بعد أن سلّما نفسهما، إلى طريق السلوم وإطلاق النار عليهم وتصفيتهم خارج إطار القانون.
هنا، في هاتين الحادثتين، ليس المسألة في تعدِّي أو خرق أجهزة الأمن المواد الدستورية التي تصون الحقوق الإنسانية للمواطنين داخل مقرات التحقيق والاحتجاز، لكن، يوجد ارتباط حيال فلسفة قتل الدولة، أي رجال الأمن، لمواطنيها، بالعلاقة التاريخية التي تأسست ومرّت بتغيرات مختلفة، منذ تأسيس الدولة الحديثة في مصر، بداية عهد محمد علي (1805) وبين أجساد المصريين.
تاريخ مركّب بين السُلطة وأجساد المصريين
في مصر، ومع تأسيس الدولة الحديثة، أي بدايات حكم محمد علي (1805)، تغيّرت نظرة الدولة وفي قلبها السُلطة السياسية التي تحكم البلاد نحو المصريين وأجسادهم، فلم يعد المصري جسدًا يتفاعل مع المجتمع والفضاءات من حوله، بشكلٍ طبيعي، بل بدأت معيشته تتأسس وفق احتياج السُلطة، يعمل ويعيش ويُسجن ويُجنَّد ويموت وفقا لما تريده السُلطة. في كتابه السعي للعدالة (ص101)، يحاول المؤرخ المصري خالد فهمي، توضيح بدايات هذا النهج، مفسرًا أن إنشاء الجيش المصري «هو الذي أدى إلى تحول كبير في مفهوم السلطة، فإن ممارسة السلطة لم تعد عبارة عن عملية قيادة للموضوعات، عن طريق التهديد بالقتل، من أجل الحفاظ على السيادة، وإنما أصبحت السلطة تمارس من أجل الحفاظ على الحياة، وذلك لسبب مختلف، هو إدارة الحياة وتحسينها، وإخضاعها لرقابة دقيقة وشاملة». برأي فهمي، كان هذا السبب الرئيسي لإدخال الطب الحديث في مصر، إذ كان يواجه جنود الجيش الجُدد المنقولين من صعيد مصر إلى المركز، خطر الموت بسبب الأوبئة ومشقة الطريق، فكان الطب الحديث أداة للحفاظ على حياة هؤلاء الأجساد من الموت، والذي بدونهِم، لن يتمكّن الباشا من تكوين جيشه الحديث، وخوض هيمنته سواء داخليا أو خارجيا.
كانت هذه بداية مأسسة الممارسة الفلسفية والنظرية حيال حق الدولة “امتلاك” أجساد مواطنيها، مع شواهد أُخرى، مثل بدء تسجيل أعداد المصريين وترتيبهم وتصنيفهم، حسب احتياج الدولة فيما عُرف بـ”تعداد النفوس”، بعد ذلك وُجدت شواهد أخرى في علاقة جسد الفلاح المصري بسرايا الباشوية، مثلما يحكي خالد فهمي في مقالته عن التعذيب، عن حادثة قتل أحد عاملي (عبيد كما كان مُتعارف عليه وقتها) سرايا إلهامي باشا إثر التعذيب. في يوم ٦ نوفمبر عام ١٨٥٨، وفي سراية إلهامي باشا ابن عباس باشا وهو أخٌ خديوي مصر عهدئذٍ سعيد باشا. إذ ذات نهارٍ، وقع العقاب على أحد عاملي (عبيد) حقل السرايا، وكان اسمه سلطان العبد، فجُلد ما يزيد عن ألف جلدة بأمرٍ من ناظر الاسطبل عمر بك، وذلك بسبب تخلفه مدة يومين عن ميعاد رجوعه إلى الاسطبل. كما حُرم بعد الجلد من تناول الطعام والشراب، ما أزاد وضعه الصحي سوءا، ومات. من ثم اجتمع عشرات “العبيد” من زملائه، وهربوا من السرايا غاضبين ناحية ضبطية الأزبكية بالمحروسة (القاهرة حاليًا)، أبلغوا عمَّا حدث، وقد تم القبض على عمر بك، ومن ثم، عوقبَ بالنفي خارج مصر غير عائدًا إليها مرةً أُخرى.
لا تدلّ هذه الحكاية في عُمقها على وحشيّة ذوات السرايا على العبيد العاملين لديهم أو حتى على عدالة الضبطية والمحكمة (الدولة) في القصاص للمقتول، فَعقوبة النفي لم تكن قصاصا عادلا للضحية، مع العلم أن مَن كان يرتكب يُشتهر بالسرقة أو التشرّد أو الهروب من الجيش من عموم السكان في مصر كان يعاقب بعقوبات شديدة مثل القتل والجلد والسجن والوشم وقطع أجزاء من الجسد كاليدِ. لكنها تدل على اعتداء ناظر السرايا على حق الدولة، كسلطة سياسية لها امتلاك الأجساد وتوظيفها وإحيائها وقتلها. كذلك، تدل على تاريخية ممارسة التعذيب على أجساد المصريين من ذوي الطبقات الفقيرة، وأنه طالما كانت أجسادهم بمثابة قربان يُقدَّم إلى باشاوات الخديوية والجمهورية، فيما بعد، كي يكون مسرحا لممارسة كافة أشكال السُلطة والتحقق السياسي والطبقي.

التعذيب تحت مظلة الاستثناء
قامت الجمهورية المصرية، وتوسَّعت الدولة في إنشاء مؤسسات البيروقراطية، وفي القلب منها المؤسسات التابعة لوزراتيّ الدفاع والداخلية، كمُعسكرات قوات الأمن والأمن المركزي والجيش وأقسام ومديريات الشرطة، فضلا عن السجون المدنية والعسكرية، والتي لم تشهد زيادة مثلما شهدت في عهد الضابط الحالي، السيسي. كان التعذيب هو الممارسة الدائمة داخل تلك الفضاءات، إذ انتقل من السرايا، حيث يُعذب “العبد” أمام زملائه إلى داخل أسوار السجون وأقسام الشرطة وأقبية المخابرات والأمن الوطني، حيث يُعذَّب السجناء، واستبدلت مفردة العبيد بالسجناء، وهم بمثابة “العبيد” الحداثيين ضمن منظومة السجون المصرية، إذ يعيش السجناء في مصر حياة استعبادية بلا أدنى حقوق للكرامة الإنسانية التي ينص عليها الدستور المصري والمواثيق الدولية والإنسانية.
ما بعد يوليو 2013، أي بعدما تدخل الجيش وعزل الرئيس محمد مرسي، ومن ثم تولى السيسي السلطة كرئيس للجمهورية، تصاعدت وترسخت معه قوة وعنف الأجهزة الأمنية في مصر، بعدما كانت ضعفت وترهلت وكُسرت ماديًا ونفسيًا ورمزيًا إبان ثورة يناير، تحديدا يوم 28 يناير، جمعة الغضب، حين انسحبت واختفت من الفضاء العام أمام غضب الثوار المتزايد تجاهها. لكنها مرة أُخرى، استعادت عافيتها وعنفها. كان الهدف الأساسي لهذه الاستعادة هو سياسي بامتياز، إذ واجهت الأجهزة الأمنية حراكًا واسعا نظمه الإسلاميون المعارضون للانقلاب العسكري من اعتصامات ومظاهرات في الميادين العامة والجامعات، فاحتاج النظام السياسي، من أجل قمع هذه الحركات، إلى جهاز أمني عنيف وقوي، وهو ما قد حدث، إذ تم القضاء على كل الحراكات الاحتجاجية السلمية التي نظمها الإسلاميون بحلول عام 2017، بعدما قُتلت وأصابت الآلاف، كما استطاعت القضاء على ما تبقى من عمليات عنف ضد الدولة وأفرادها، تبنّتها حركات إسلامية مسلحة متباينة من حيث الانتماء التنظيم والأيديولوجي، واستطاعت أجهزة الأمن أيضا السيطرة وشبه القضاء عليها حتى وقتنا الحالي.
لم يكن استعادة العنف موجهًا أو مقتصرًا للذوات السياسية من المصريين فقط، بل شمل كذلك العنف المتوارث والمعهود عليه منذ بدء قيام الدولة الحديثة في مصر تجاه الطبقات الفقيرة، والشعبية كما تسمى في العرف المجتمعي، لاسيما في عهد مبارك والتي قامت على أساسه ثورة يناير. أما مع سُلطوية السيسي، فقد تكررت حوادث قتل المواطنين تحت التعذيب في أقسام الشرطة، أبرزها كانت حادثة قتل إسلام الاسترالي في حي المنيب، في سبتمبر عام 2020، والتي على إثرها خرجت مظاهرات لأهالي الحي تهتف باتهام الداخلية بقتل إسلام، إذ قام أمين شرطة ومعه قوة من رجال الداخلية بعد مشادات بينهما بجرّه إلى قسم الشرطة، ومن ثم وصل خبر وفاته إلى أهله، أو حتى تكرار حوادث قتل سائقي التكاتك على يد ضباط أو أمناء للشرطة في المحافظات المصرية المختلفة.
في مثل هذه الحالات، وغيرها، تُنكر الداخلية الاتهامات وتحاول قدر إمكانها الإفلات من التهم الموجهة إليها، ومن ثم يُنتظر بيان النيابة العامة، والذي يعتمد على إجابة الطب الشرعي في حادثة القتل على سؤال هل كانت وفاة عادية أم إثر التعذيب؟ بعد ذلك، تُتخذ الإجراءات سواء في التحقيقات أو المحاكمة، حسب ديناميات السُلطة وموازين القوى بين الأطراف، إذ كان القاتل ضابطا فهو يختلف عن أمين الشرطة، وتَحتلف أيضا حسب رتبة هذا الضابط وشبكة علاقاته، كذلك مدى تمسك أهل القتيل بالقصاص ومقاضاة القتلة، هذا يرجع أيضا إلى أي درجة طبقية هم ينتمون إليها.
لا تحاسب الدولة القاتل على جريمة قد فعلها انتصارًا للضحية، وإن كان هذا هو المشهد الملوس والمباشر، بل هي تعاقبه لأنه أخذ “حقها” في قتل هذا الجسد، لأنها ترى أنها الوحيدة، أي سُلطتها السياسية العليا، كما كانت قديما، هي التي لديها الحق في إحياء وقتل الجسد، أي توظيفه، ولا يتم هذا من أي فرد ينتمي إليها سواء كان أمينا للشرطة أو ضابطا. مثلا، لم يُحاسب الضباط الذين قتلوا المئات من معتصمي رابعة العدوية في بضعة ساعات قليلة. هنا يكمُن الفرق في أن القتل كان قرارا سُلطويا من أعلى رأس في الدولة، قائد الانقلاب، مستندًا على فرض حالة الاستثناء في البلاد. أي قتل دون أي مسؤولية جنائية تُلاحق القتلة، لكن في حالات اُخرى، فردية، كان القتل دون قرارا سلطويا سياسيا، لذا، ربما تتماهي السلطة مع إجراءات المحاسبة دون عدالة حقيقية للضحايا.
نهاية، غالبا ما جسَدت السينما المصرية واقع المجتمع، خاصة علاقة الناس بمنظومة الأمن والسجون في مصر، بما أن كثيرا من أعمال سينمائية كانت مركزيتها قائمة على علاقة المواطنين الفقراء مع منظومات السجن والقضاء في مصر. في فيلم إبراهيم الأبيض، من تأليف وإخراج عباس أبو الحسن ومروان حامد (عام 2007، أيام عهد مبارك)، جُسِّدت فلسفة حق امتلاك الدولة وحدها في القتل، من خلال الحديث الذي دار في مشهد بين الفنان عمرو واكد (عشري) في إحدى المشاهد وهو يشرح جرأة صديقه أحمد السقا (إبراهيم الأبيض) في الخناقات (المشاجرات). عندما ذكر التفاعل من الدولة بشأن الجريمة. قال “اكمـن الحكـومة تصـدر لك قفـاهـا فى أيـتُهـا حـاجه حتـى لو داخلها مشقوق نصيــن .. إلا القتـل” معنى ما قاله بالعاميّة المصرية وهو واقع مرئي ويدركه جيدا المجتمع المصري، أن الدولة تتغاضى عن أي شيء، ضرب أو “تعوير”، وأي شيء آخر يحدث للجسد خلال مشاجرات “بلطجية”، وأشقيَة الحارات، وتتعامل معه بهدوء فاتر. لكن، مع حادثة القتل تتفاعل وبقوة، لأنها ترى قتل المواطن شيئا غير عادي، ليس لأن الروح فُقدت ومات المواطن وهو شيء ثمين، بل لأن الدولة ترى أن هي التي تمتلك جسد هذا المواطن، فكيف يقتل دون علمها؟
مقالات الرأي لا تعبّر بالضرورة عن توجهات منصة “زاوية ثالثة”، وإنما تعبّر عن وجهة نظر كاتبها.