العودة إلى الفُرن البلدي في قرى الصعيد مكسب اقتصادي أم خسارة بيئية؟

قرار الحكومة برفع أسعار أسطوانات الغاز أدى إلى دعوات للعودة لاستخدام الأفران البلدية والكانون، ما يثير تساؤلات حول التأثيرات البيئية والصحية لاستخدام الوقود الصلب.
Picture of عامر عبد الرحمن 

عامر عبد الرحمن 

عقب قرار رئيس الحكومة، مصطفى مدبولي، رفع سعر أُسطوانة غاز البوتاجاز إلى 150 جنيهًا، تصاعدت دعوات فردية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تحديدًا في محافظات صعيد مصر للعودة إلى استخدام “الفرن البلدي” و”الكانون”، اللذين يعتمدان على الوقود الصلب مثل. مخلفات الحيوانات والقمامة وأعواد الذرة، ورغم أن هذه الحلول قد تبدو بديلًا اقتصاديًا في ظل ارتفاع الأسعار؛ إلا أنها تحمل تداعيات بيئية وصحية خطيرة؛ فالاستخدام المتزايد للوقود الصلب يؤدي إلى تفاقم تلوث الهواء، ما يرفع معدلات الإصابة بالأمراض التنفسية ويؤثر سلبًا على جودة الحياة والبيئة، في وقت تسعى فيه السلطة لتقليل الاعتماد على المصادر الملوثة للطاقة.

صدر قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 3001 لسنة 2024 بشأن تعديل أسعار أسطوانات البوتاجاز، في 18 سبتمبر، ونص على زيادة سعر أُسطوانة الغاز السائل سعة 12.5 كيلو جرام إلى 150 جنيهًا عند تسليمها في مستودعات التوزيع للمستهلكين.

وعقب هذا القرار دعا مواطنون للعودة لاستخدام أفران القش البلدي والكانون، وهي دعوة تقليدية تتزامن مع زيادة في أسعار الغاز، إلا أنها حققت هذه المرة انتشارًا أكبر، نظرًا للضغوط الاقتصادية التي يعاني منها المواطنون بسبب ارتفاع الأسعار.

 

نوصي للقراءة: ارتفاع الأسعار يدفع المستهلكين إلى مغامرات خطيرة: بدائل رخيصة قد تُكلفهم حياتهم 

 

7 زيادات خلال 13 عامًا 

تُعتبر الزيادة الأخيرة في أسعار أسطوانات الغاز السابعة خلال 13 عامًا، بنسبة زيادة إجمالية بلغت نحو 2000%. كان العام 2012، قد شهد أول زيادة ملحوظة، إذ ارتفعت الأسعار من ثلاثة إلى خمسة جنيهات (بنسبة 100%)، وفي عام 2013، زادت الأسعار من خمسة إلى ثمانية جنيهات، أي بزيادة 60%، ثم جاء عام 2016 يشهد زيادة جديدة إذ ارتفع سعر الأسطوانة إلى نحو 15 جنيهًا، مسجلًا زيادة بنسبة 87.5%. وفي عام 2017، قفز السعر إلى 30 جنيهًا. بينما في عام 2018، شهدت الأسعار ارتفاعًا جديدًا ليصل سعر الأسطوانة إلى 50 جنيهًا، بزيادة 66.7%. وفي مارس من العام الجاري، وصل إلى 100 جنيه. 

لم تكتف الحكومة بزيادة مارس الأخيرة، لكنها شرعت في فرض زيادة جديدة، إذ أنه وبناءً على قرار مجلس الوزراء المصري رقم 3001 لسنة 2024، وبعد مراجعة الدستور والمرسوم بقانون رقم 163 لسنة 1950 المتعلق بلجنة التسعير الجبري وتحديد الأرباح وتعديلاته، وكذلك القانون رقم 20 لسنة 1976 الخاص بالهيئة المصرية العامة للبترول، تقرر رفع أسعار أسطوانات البوتاجاز.

وفقًا للقرار المشترك من مجلس الوزراء ووزارة البترول (استنادًا إلى القانون رقم 88 لسنة 2024 الذي ينظم أسعار بيع البوتاجاز، إضافة إلى قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 917 لسنة 2024 الذي يحدد الأسعار الجديدة)، ارتفعت أسعار أسطوانات البوتاجاز المنزلي والتجاري. وتم رفع سعر أسطوانة البوتاجاز المنزلي من 100 جنيه إلى 150 جنيهًا تسليم المصنع، في حين تم زيادة سعر أسطوانة البوتاجاز التجاري من 150 جنيه إلى 200 جنيه.

وتتزامن الزيادة الأخيرة مع وضع اقتصادي صعب يعاني منه الشعب المصري، وسط ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار السلع والمنتجات المختلفة؛ ما دفع مواطنين إلى الوسائل البدائية/ التقليدية التراثية في الطهي، ومن ثم عادت المهن المرتبطة بهذه الوسائل لـ الرواج مجددًا؛ ومنها مهنة تصميم الأفران البلدي، لكن في المقابل، يهدد ذلك إلى جانب ارتفاع أسعار الأسطوانات وتوصيل خطوط الغاز الطبيعي إلى المنازل، بائعي الأسطوانات. إذ أنه كلما نجحت الحكومة في توسيع مشروعات الغاز الطبيعي للمنازل، كلما انخفض عدد مستخدمي أسطوانات البوتاجاز وعدد العاملين في تلك المهنة.

من المخطط استفادة نحو 1450 قرية في مختلف محافظات الجمهورية من مشروعات توصيل الغاز الطبيعي التي ينفذها قطاع البترول منذ يناير 2021، ضمن المرحلة الأولى من مبادرة حياة كريمة لتطوير قرى الريف المصري، مستهدفة توصيل الغاز إلى القرى والنجوع الأكثر احتياجًا. وحسب رانيا المشاط – وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي-، فقد تم توصيل شبكات الغاز الطبيعي إلى نحو 481 قرية، ضمن المبادرة.

وفي أبريل 2024، أعلنت وزارة البترول عن توصيل الغاز إلى نحو 14.7 مليون وحدة سكنية منذ بدء المشروع وحتى نهاية مارس الماضي. إذ ارتفع عدد الوحدات السكنية المستفيدة من 6 ملايين في 2014 إلى 14.2 مليون وحدة في 2023، مما وفر الخدمة لأكثر من 62 مليون مواطن. أكثر من 60% من هذه الوحدات تم توصيلها بين عامي 2014 و2023، وهي الفترة التي شهدت توصيل الغاز إلى 8 ملايين وحدة بتكلفة 40 مليار جنيه، مقارنةً بـ 6 ملايين وحدة فقط تم توصيلها خلال 34 عامًا بين 1980 و2014.

 هذا التطور أسهم في توفير نحو 265 مليون أسطوانة بوتاجاز سنويًا، ما يبرز الفوائد الاقتصادية الهائلة لهذا المشروع، بحسب بيانات الحكومة. كما شمل مشروع توصيل الغاز الطبيعي للمنازل 11 محافظة. تشمل: (الجيزة، الإسكندرية، الإسماعيلية، القليوبية، المنوفية، الدقهلية، قنا، الغربية، أسوان، سوهاج، ومرسى مطروح).

 

نوصي للقراءة: تسلسل زمني لارتفاع أسعار الوقود منذ 2008.. هل غيرت ثورة يناير الأسعار؟ 

 

ارتفاع الأسعار

تشكل أزمة ارتفاع أسعار أسطوانة البوتاجاز تهديدًا للعاملين في هذا القطاع، خاصة بائعي الأسطوانات، إذ إن تراجع إقبال المواطنين على استخدام الأسطوانات يؤثر سلبًا على مبيعاتهم؛ ما يهدد مصدر رزقهم واستقرارهم.

في هذا السياق، يقول ناجي عبدالفضيل – أحد بائعي أسطوانات البوتاجاز بقرية دير الجنادلة بمحافظة أسيوط-، إنه عمل في هذا المجال هو وأبناؤه لسنوات طويلة، لكنه قرر تركه مؤخرًا، تحديدًا بعد الزيادة ما قبل الأخيرة في أسعار أسطوانات البوتاجاز، مضيفًا أنه انتقل للعمل في توزيع الخبز على المنازل، بينما يعمل أحد أبنائه في مقهى والآخر في مخبز بلدي.

يوضح أن هناك عدة عوامل دفعته لترك بيع أسطوانات البوتاجاز؛ أبرزها تراجع الإقبال على خدمة التوصيل “دليفري”، إذ بات الناس يفضلون الذهاب بأنفسهم إلى مستودعات البوتاجاز لشراء الأسطوانات بالسعر الأساسي، تجنبًا لأي تكاليف إضافية في ظل غلاء المعيشة. 

ويشير إلى أن توفر وتعدد وسائل المواصلات الخاصة، مثل. السيارات، والتروسيكلات، والدراجات النارية، أسهم في تقليل الاعتماد على بائعي الأسطوانات المتنقلين، إضافة إلى عودة البعض لاستخدام وسائل تقليدية قديمة، مثل. الحمار والعربة “البروطة”، لتبديل الأسطوانات الفارغة.

وفيما يتعلق بمستقبل بائعي أسطوانات البوتاجاز، يؤكد ناجي أن هذه المهنة مهددة بالاندثار مع مرور الوقت، نظراً للتوسع في توصيل الغاز الطبيعي إلى جميع المدن والقرى في المستقبل القريب، موضحًا أن هامش الربح في بيع أسطوانات البوتاجاز لم يعد كافيًا لتلبية احتياجات الحياة الأساسية، مثل. الطعام، والشراب، والعلاج، والتي باتت تشكل الهم الأكبر للمواطن البسيط.

 وبناءً على ذلك، ينصح بائعي أسطوانات البوتاجاز بالتفكير في إيجاد فرص عمل إضافية إلى جانب هذه المهنة، أو تغيير نشاطهم بالكامل، لأن هذه المهنة أصبحت على وشك الانتهاء.

من جانبه، يوضح علاء السيد – بائع أسطوانات البوتاجاز بقرية المشايعة بمحافظة أسيوط-، أنه يشتري الأسطوانة من مستودع البوتاجاز بسعر 155 جنيهًا، ويبيعها للمواطن بسعر 170 جنيهًا، محققًا هامش ربح بنحو 15 جنيهًا لكل أسطوانة مقابل توصيلها إلى المنزل.

يضيف أنه يواجه صعوبات كبيرة في عمله، بدءًا من الانتظار لساعات طويلة في درجات الحرارة العالية أمام مستودعات البوتاجاز لـ استبدال الأسطوانات الفارغة، مرورًا ببذل جهد بدني كبير في تفريغ التروسيكل من الأسطوانات الفارغة، وإدخالها إلى المستودع، انتهاء بتحميل الأسطوانات الممتلئة مرة أخرى.

 يشير بائع الأسطوانات، إلى أن عدم القدرة على استبدال الكمية الكاملة يؤثر سلبًا على هامش الربح، ما يُعتبر تحديًا إضافيًا له. وفي فترات الأزمات قد تواجههم صعوبات إضافية في استبدال الأسطوانات، بجانب ذلك، يضطر إلى التجول يوميًا في الشوارع والمناطق المختلفة لبيع أكبر عدد ممكن من أسطوانات البوتاجاز لتحقيق الربح المطلوب. كما يواجه خلافات مع المواطنين أحيانًا بسبب مشاكل تتعلق بتركيب الأسطوانات، نتيجة لتآكل فتحات الأسطوانة وعدم استقرارها في منظم البوتاجاز، ما يدفع الزبائن إلى استرجاعها مرة أخرى.

يعلق علاء على سؤال زاوية ثالثة حول استمراره في العمل بهذا المجال بعد ارتفاع أسعار أسطوانات الغاز. يقول إنه قرر السفر إلى الخارج وبدأ بالفعل في التواصل مع الأقارب والأصدقاء هناك لتأمين فرصة عمل مناسبة له، رغم أنه لا يفضل الغربة، مؤكدًا أنه سيظل في عمله الحالي حتى يجد فرصة عمل جديدة ويكمل إجراءات سفره، مشددًا على أنه لا يستطيع التوقف عن العمل لأنه يعول أسرة كبيرة وهو مسؤول عن توفير مستلزمات حياتهم.

 

نوصي للقراءة: تحت وطأة التضخم: كيف تخلى مصريون عن سلع أساسية لمواجهة ارتفاع الأسعار؟ 

 

العودة إلى البلدي والكانون

يقول خالد أبو عسل – عامل ومصمم أفران بلدي يقيم بقرية الغنايم بمحافظة أسيوط-، في حديثه مع زاوية ثالثة، إنه تخلى عن مهنة صناعة الأفران البلدي لأكثر من 13 عامًا، واتجه بعدها إلى تجارة الأثاث والمستلزمات المستعملة، إلا أن عودته إلى صناعة الأفران البلدي بدأت في عام 2018، عندما طلب أحد أصدقائه منه صنعه.

يوضح أن ارتفاع تكلفة أسطوانة البوتاجاز أصبح يشكل عبئًا ماليًا كبيرًا، في ظل ظروف معيشية صعبة لا تحتمل مزيدًا من الزيادات؛ لذلك قرر العودة إلى استخدام الفرن البلدي والكانون لمواجهة ارتفاع أسعار أسطوانات الغاز.

ويضيف: “الطلب على الأفران البلدي كان ضعيفًا في البداية، إذ بدأ بعض الأشخاص بالتردد على منزلي لطلب صنع أفران بلدية، ولكن مع كل زيادة جديدة في سعر أسطوانة البوتاجاز، يزداد الإقبال تدريجيًا.”

يشير إلى أنه بعد وصول سعر الأسطوانة إلى 150 جنيهًا، فوجئ بارتفاع كبير في الطلب على الأفران البلدي، ما دفعه إلى طلب كميات إضافية من المواد اللازمة لـ تصنيعه، مثل قوالب الطوب الأحمر، والحديد المستعمل، والزلط، والرمل، والإسمنت.

وفيما يتعلق بتكلفة إنشاء الفرن البلدي، يوضح خالد أن بناء الفرن يتطلب استخدام شيكارة إسمنت و25 كيلو من الحديد المستعمل، إضافة إلى طوب أحمر مطحون، ويحتاج إلى نحو 300 طوبة لإتمام بنائه بالكامل. متابعًا: “البعض يُفضّل استخدام الإسمنت والطوب الأحمر، بينما يختار آخرون الطوب الأخضر والطين. وتبلغ تكلفة الفرن الكبير نحو 850 جنيهًا، في حين تصل تكلفة الفرن الصغير إلى 550 جنيهًا”، منوهًا أن بعض المواطنين يقومون بتوفير المواد والمستلزمات بأنفسهم، ويكتفون بدفع 150 جنيهًا مقابل جهده في التصميم.

ويتوقع صانع الأفران البلدية أن تنتعش صناعتها مجددًا، وأن يزداد الإقبال عليها لفترات طويلة، خاصة مع استمرار ارتفاع أسعار أسطوانات البوتاجاز وتفاقم غلاء المعيشة. ويشير إلى أن هذه المهنة قديمة وأصبح عدد العاملين بها منخفضًا للغاية؛ فبعضهم توفي، والبعض الآخر بلغ سن الشيخوخة ولم يعد قادرًا على العمل؛ ومع ذلك، يرى أن أبناء صناع الأفران البلدي قد يكونون هم الأقدر على مواصلة هذه الحرفة، خاصة إذا تفرغوا تمامًا لتعلم وإتقان صناعتها.

وفي حديثه معنا، يؤكد عمر الكشكي – مدرس بقرية الأغانة بمركز طما بمحافظة سوهاج-، أن الشعب المصري يواجه أزمة غير مسبوقة جراء ارتفاع الأسعار، وزيادة التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للجنيه المصري، مشيرًا إلى أن أسعار أسطوانات البوتاجاز شهدت ارتفاعًا هائلًا خلال السنوات الأخيرة، وارتفعت 150 جنيهًا في المستودع العام الجاري 2024، لكنها تصل إلى إليه بسعر 180 جنيهًا، موضحًا  أن هذا الارتفاع أثر بشكل كبير على قدرة المواطنين من محدودي ومتوسطي الدخل على الشراء، خاصةً مع زيادة الاستهلاك في فصل الشتاء.

ويبين أن هذا الوضع دفع العديد من المواطنين، خصوصًا في القرى والأرياف، للبحث عن بدائل لأنبوبة البوتاجاز، مثل “القلواح”، الذي يصنع من مخلفات الذرة الشامية، و”قرص الجلّة”، الذي يُصنع من روث الحيوانات ويُترك في الشمس ليجف ويستخدم كوقود، موضحًا أن هذه البدائل تعتبر حلاً في المناطق الريفية، لكنها ليست متاحة لجميع سكان المراكز والمدن.

يضيف: “تلجأ أسرتي في كثير من الأحيان إلى الفرن البلدي لصنع الخبز عندما تكون الأسطوانة فارغة”، موضحًا إن جودة طعم الخبز على الفرن البلدي أفضل بكثير من خبز الأفران الحديثة.

يسترجع ذكريات طفولته في التسعينيات، حين كان الخبز يُصنع على الفرن البلدي مرتين أسبوعيًا، وكانوا يستخدمون “قناديل” الذرة الشامية لشوائها في الفرن، معربًا عن توقعه أن تعود تلك العادات القديمة مع زيادة الاعتماد على الأفران البلدية والكانون في ظل ارتفاع أسعار أسطوانات البوتاجاز، مشيراً إلى أنه قام بنشر تدوينات على موقع التواصل الإجتماعي “فيسبوك”، يدعو فيها المواطنين للعودة إلى استخدام الفرن البلدي والكانون كبديل لأنبوبة البوتاجاز، مؤكدًا أن هذا الخيار يوفر الوقود بدون الحاجة لشرائه، إذ تتوفر مخلفات الحيوانات والمحاصيل الزراعية بكثرة في القرى والأرياف.

“عاد أهالي الصعيد مرة أخرى لاستخدام الأفران البلدي واستخدم مخلفات الحيوانات والقمامة وأعواد الذرة كوقود، والاستغناء عن الأفران الحديدية التي تعمل بأسطوانات الغاز الطبيعي”، هكذا لخصت عزيزة ريحان  – ربة منزل، تقيم في قرية القطنة بمحافظة سوهاج-، الوضع عقب إعلان الحكومة رفع سعر الأسطوانة الواحدة إلى 150 جنيهًا.

توضح ريحان أنها تعول أسرة مكونة من ثمانية أفراد، وأن الزيادة الكبيرة في أسعار أسطوانات الغاز دفعتها إلى التوقف عن استخدام الفرن الحديدي في إعداد الخبز والطهي، والعودة إلى الفرن البلدي.

 وتضيف: “اقتصر الآن على استخدام البوتاجاز في حالات الضرورة فقط، نظرًا لصعوبة تحمل تكاليف الأسطوانات والفرن الحديدي معًا، كما طلبت من زوجي جلب أعواد الذرة لتستخدمها كوقود للفرن البلدي.”

من جهتها، تقول روحية جاد الله – ربة منزل من نفس القرية-، إنها تعد الخبز مرتين أسبوعيًا، مستهلكة أسطوانة غاز واحدة في المرتين، مؤكدة أنها أيضًا اضطرت للعودة إلى استخدام الأفران البلدية للتخفيف من أعباء ظروف المعيشة الصعبة.

وتشير إلى أن استخدام الفرن البلدية بات خيارًا مريحًا للعديد من المواطنين بفضل توفر أعواد الذرة، ومخلفات الحيوانات، والمواد التي يمكن استخدامها كوقود مثل. الأكياس البلاستيكية والزجاج، لافتة إلى أن الكثير من الأسر تعاني من صعوبة شراء أسطوانات الغاز بانتظام مع استمرار ارتفاع أسعارها.

على مدار السنوات، عانى صعيد مصر من الإهمال والتهميش، ما أدى إلى وقوع آلاف الأسر في فخ الفقر وفقدان سبل العيش الكريم، فقد واجه سكان الصعيد صعوبات في الحصول على الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والمياه النظيفة والكهرباء والغاز الطبيعي. وعلى الرغم من نجاح مبادرة “حياة كريمة” في توصيل الغاز الطبيعي إلى العديد من القرى والنجوع،  إلا أنه مازال هناك عدد كبير من القري والنجوع في طابور الانتظار، يتطلعون إلى الاستفادة من هذه الخدمة الأساسية.

أوضح تقرير صادر عن قطاع البترول أن المبادرة الرئاسية “حياة كريمة” تستهدف توصيل الغاز الطبيعي إلى 374 قرية في صعيد مصر كمرحلة أولى؛ تشمل مد الخطوط الرئيسية إلى 82 قرية، إضافة إلى تنفيذ الشبكات الداخلية والخارجية لـ 292 قرية، حتى أبريل 2024، وتم بالفعل توصيل الغاز إلى 109 قرى. وبلغ عدد الوحدات السكنية التي تم توصيل الغاز الطبيعي إليها في صعيد مصر منذ بدء النشاط أكثر من مليوني وحدة، إضافة إلى نحو 8400 منشأة تجارية و186 مصنعًا، كما تم توالغاز إلى 176 قرية في الصعيد حتى الآن، في إطار المبادرة. 

وقد أظهرت دراسة للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية أن المشروع القومي لتنمية الريف، في إطار مبادرة “حياة كريمة”، يستهدف تطوير جميع القرى المصرية التي يصل عددها إلى 4741 قرية، إضافة إلى 30888 عزبة وكفر ونجع في 26 محافظة، مع استبعاد محافظة القاهرة لعدم احتوائها على القرى. 

 

نوصي للقراءة: هل ينطفئ حلم الاكتفاء الذاتي للطاقة؟ تداعيات انخفاض إنتاج حقل ظهر على مصر 

 

التأثيرات البيئية والصحية

حول التأثيرات المحتملة لاستخدام البدائل، يقول حسام محرم – المستشار الأسبق لوزير البيئة-، إن تأثيرات استخدام الأفران البلدية والكانون تشبه إلى حد كبير تأثيرات تدخين الشيشة/ الأرجيلة في المنازل والأماكن المغلقة أو سيئة التهوية، إذ تتصاعد الأدخنة الناتجة عن هذه الوسائل، سواء كانت تدخين، شيشة، أفران بلدية، أو كانون، وتتسلل إلى البيئة الداخلية لـ تؤثر على نوعية الهواء.

 هذا التأثير لا يقتصر على المنازل الريفية فحسب؛ بل يمتد إلى المنازل الحضرية، والمكاتب، والشركات، والمحال التجارية، والمطاعم، ويؤثر بشكل تدريجي وتراكمي على جودة الهواء الداخلي، ما قد يؤدي إلى زيادة معدلات الملوثات في هذه البيئة ويؤثر سلبًا على صحة الأفراد المتواجدين فيها بشكل متكرر. بحسب ما يبينه حسام محرم في حديثه مع زاوية ثالثة.

يُعد الربو من أكثر الأمراض الصدرية شيوعًا في مصر، وتشير آخر الإحصائيات إلى أن 6.7% من السكان يعانون منه، بينما تتضاعف هذه النسبة بين الأطفال لتصل إلى حوالي 15%. وتتوقع منظمة الصحة العالمية أن يرتفع عدد المصابين بالربو عالميًا إلى 400 مليون شخص بحلول عام 2025، إذ يُقدر أن 70% من المرضى يعانون أيضًا من الحساسية، إضافة إلى أعراض أنفية متزامنة مثل الاحتقان.

وتؤثر هذه الانبعاثات على البيئة والغلاف الجوي، متسببة في تلوث الهواء وزيادة الغازات الدفيئة المسؤولة عن الاحتباس الحراري، كما أن الأدخنة تسهم في تدهور جودة الهواء، ما يؤثر على صحة الإنسان ويسهم في زيادة الأمراض التنفسية، فضلاً عن دورها في تكوين الأمطار الحمضية وتقليل وضوح الرؤية بسبب الضباب الدخاني.

وتُعتبر هذه الوسائل بديلًا عن الحرق المكشوف، الذي يُعد أكثر ضررًا من حرق الوقود داخل منظومة مُنظمة تحتوي على مداخن مصممة لمنع تسرب نواتج الاحتراق أو الأدخنة إلى البيئة الداخلية، إذ تُوجه هذه النواتج بشكل مُحكم إلى الهواء الخارجي.

يضيف مستشار وزير البيئة السابق، أن استخدام الأفران البلدية والكانون قد يكون شكلًا من أشكال التكيف المجتمعي مع التحديات الاقتصادية، مثل. ارتفاع تكلفة أسطوانة البوتاجاز وزيادة تكاليف المعيشة. في ظل هذه الظروف، يلجأ البعض إلى هذه الوسائل البدائية كحل عملي، رغم المخاطر البيئية المرتبطة بها.

ورغم من هذه التحديات، يقدم حسام محرم بعض التوصيات لتقليل التأثيرات السلبية على جودة الهواء الداخلي، ومن بينها؛ ضرورة استخدام الأفران البلدية والكانون في أماكن مفتوحة أو جيدة التهوية، لتجنب تراكم الأدخنة والملوثات، وذلك يسهم في الحد من خطر الإصابة بالأمراض التي تنجم عن التدخين السلبي، وهي نفس الأمراض التي قد تصيب الأفراد نتيجة التعرض المستمر لأدخنة هذه الوسائل التقليدية.

حلت مصر مجددًا ضمن قائمة أسوأ 10 دول عالميًا في تلوث الهواء لعام 2023، وفقًا لتقرير شركة “آي كيو إير” السويسرية، إذ جاءت مصر في المركز التاسع بعد دول مثل. بنجلاديش وباكستان والهند. أما على مستوى المدن، احتلت القاهرة المركز العاشر عالميًا. رصد التقرير مستويات تلوث الهواء في 7812 مدينة من 134 دولة، عبر 30 ألف محطة مراقبة، إذ تم قياس جسيمات “PM 2.5″، التي تُعد من أكثر ملوثات الهواء شيوعًا وخطورة على صحة الإنسان. بلغ معدل التلوث في مصر 42.4 ميكروجرام لكل متر مكعب عام 2023، مقارنة بـ 46.5 في 2022.

وتوصي منظمة الصحة العالمية بألا يتجاوز معدل تلوث الهواء بـ “PM 2.5” خمسة ميكروجرام لكل متر مكعب، وهو مستوى لم تحققه سوى سبع دول وبعض المناطق المحددة، يُسبب التعرض لهذه الجسيمات مخاطر صحية كبيرة؛ بما في ذلك نوبات القلب والربو والسكتات الدماغية، وفقاً لتحليل أجرته وكالة حماية البيئة الأمريكية.

 

نوصي للقراءة: مصر تدفن رئتيها تحت الخرسانة.. الحكومة مستمرة في قطع الأشجار

 

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية

حول الآثار الاقتصادية والاجتماعية المحتملة للعودة إلى استخدام الفرن البلدي والكانون كبديل عن أسطوانة البوتاجاز، يوضح خالد الشافعي – الخبير الاقتصادي ورئيس مركز العاصمة للدراسات والأبحاث الاقتصادية-، أن ذلك الارتفاع دفع المواطنين، خاصة في مناطق الصعيد والريف بالوجه البحري، إلى العودة لاستخدام وسائل الطهي التقليدية لتخفيف الأعباء المالية على ميزانياتهم. موضحًا أن هذه الحلول البديلة – التي تعد مؤقتة-، تعكس إبداع المواطنين في التعامل مع الزيادات السعرية؛ لضمان توفير احتياجاتهم اليومية بأقل التكاليف.

ويقول إن سكان المدن يواجهون صعوبة في العودة لاستخدام البدائل التقليدية للطهي مثل. الأفران البلدية والكانون، نظرًا لطبيعة مساكنهم الخرسانية، وخصوصاً المواطنين الذين يسكنون في وحدات إيجارية.

 ويضيف: “هذا الوضع قد يدفع البعض إلى البناء مجددًا على الأراضي الزراعية لتوفير بيئة مناسبة لهذه البدائل، إذ يمكن استخدام تلك الطرق التقليدية. يجب أن تتفهم الحكومة هذه الجوانب وتتحرك للتعامل مع هذا التحدي، لتجنب الآثار السلبية على المواطن المصري.”

ويبين رئيس مركز العاصمة أن ارتفاع أسعار أسطوانات الغاز قد يساعد في تقليص الفجوة الناتجة عن استيراد الغاز من الخارج وتقليل الاعتماد على الموارد النفطية المستوردة، لكن هذا الحل سيكون مؤقتًا حتى تتخذ الحكومة إجراءات أكثر استدامة. مشيرًا إلى أهمية استغلال المخزونات المحلية في الآبار النفطية وتكثيف عمليات البحث والاستكشاف لتلبية احتياجات البلاد من الغاز والبترول، ما يسهم في خفض النفقات والحفاظ على العملات الأجنبية.

كشف مسؤول حكومي مصري أن مصر استوردت شحنات وقود بقيمة تقدر بنحو 9.3 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من عام 2024، مقارنةً بـ 8.3 مليار دولار خلال نفس الفترة من العام الماضي، ما يعكس زيادة تصل إلى 12%. موضحًا أن الهيئة المصرية العامة للبترول تعاقدت على استيراد شحنات من المواد البترولية بقيمة 1.35 مليار دولار في أغسطس الماضي، مقابل 945 مليون دولار في الشهر نفسه من عام 2023. وحسب البيانات الرسمية، فإن استهلاك مصر من الغاز الطبيعي شهد زيادة تقدر بنحو 300 مليون قدم مكعبة يوميًا، ليصل إجمالي الاستهلاك إلى 6.1 مليار قدم مكعبة خلال شهر مايو الماضي. وقد انخفض إنتاج مصر من الغاز الطبيعي في شهر أبريل الماضي، بمقدار 710 ملايين متر مكعب على أساس سنوي، في حين ارتفع استهلاك البلاد من الغاز في مجالات توليد الكهرباء والتدفئة. ووفق بيانات حديثة صادرة عن وحدة أبحاث الطاقة ومقرها واشنطن، تراجع إنتاج الغاز الطبيعي في مصر خلال أبريل إلى 4.26 مليار متر مكعب، مقارنةً بنحو 4.97 مليار متر مكعب في نفس الشهر من العام السابق.

يتابع خالد الشافعي: “السلطة تتجه نحو تحويل الدعم من دعم عيني إلى نقدي عبر البطاقات الذكية، من المهم مراعاة كافة الجوانب، لضمان أن يكون هذا التحول قادرًا على تلبية احتياجات المواطنين بشكل كامل.” 

ويؤكد ضرورة أن يشمل ذلك عدم اضطرار المواطنين للجوء إلى بدائل أسطوانات البوتاجاز التقليدية، حتى لا يتعرضوا لمزيد من الضغوط المالية والنفسية، ما يتطلب نظرة دقيقة لضمان تحقيق الدعم لأهدافه في تخفيف العبء عن المواطنين.

وتسعى الحكومة إلى تقليل فاتورة دعم الوقود التي تثقل كاهل الموازنة العامة للدولة. إذ تلبي نحو 55-58% من احتياجات السوق المحلية من غاز البوتاجاز من خلال الاستيراد، ما يعادل نحو سبعة آلاف طن يوميًا، بينما يصل الإنتاج المحلي إلى نحو خمسة آلاف طن يوميًا. وتستهلك مصر سنويًا نحو 4.3 مليون طن من غاز البوتاجاز، إذ يتم إنتاج نصف الكمية محليًا، بينما يُستورد النصف الآخر.

بالتالي، اعتمدت القاهرة بشكل أساسي على استيراد احتياجاتها من البوتاجاز، إذ بلغت نسبة الاستيراد من إجمالي الطلب المحلي نحو 45-50% في عام 2024، وارتفعت هذه النسبة مع زيادة معدل الاستهلاك المحلي والنمو السكاني الملحوظ. وبينما تسعى الحكومة إلى محاولة توفير احتياجات المواطنين والدولة، إلا أن سخطًا يتضاعف من المواطنين بعد الارتفاعات المتتالية والسريعة في أسعار البوتاجاز، إلى جانب كافة السلع التي يحتاجها المواطن لتسيير يومه، ما اضطره إلى البحث عن وسائل تقليدية في محاولة لتخفيض النفقات، واستمرار الحياة.

عامر عبد الرحمن 
صحفي تحقيقات

Search