أظهرت البيانات الحديثة تراجعًا ملحوظًا في إنتاج حقل ظهر للغاز الطبيعي، حيث بلغ متوسط الإنتاج خلال الأشهر الخمسة الماضية حوالي ملياري قدم مكعبة يوميًا، وهو أدنى مستوى منذ اكتشاف الحقل في عام 2015. هذا الانخفاض يثير قلقًا متزايدًا بشأن مستقبل إمدادات الغاز الطبيعي في مصر، خاصةً في ظل الاعتماد الكبير على هذا الحقل لتلبية الاحتياجات المحلية المتزايدة.
وتسبب الانخفاض الملحوظ في كميات الغاز المكتشفة بحقل ظهر – النسبة هي الأكبر منذ تسع سنوات كاملة، إذ بلغ إنتاجه في الخمسة أشهر الأخيرة ما يقدر بـ 1.9 مليار قدم مكعبة يوميًا- في انخفاض إجمالي إنتاج مصر من الغاز الطبيعي بمؤشر يتناقص للربع السادس تواليًا، إذ فقد الحقل مؤخرًا إنتاجًا بمقدار يزيد عن ملياري متر مكعب، مقارنة بإنتاجه في نفس المدة عن عام 2023، التي بدورها كانت قد انخفضت عن الإنتاج في 2022.
أصدرت مبادرة بيانات المنظمات المشتركة “جودي” -وهي عبارة عن تعاون دولي لتحسين توافر وموثوقية البيانات عن البترول والغاز الطبيعي- بيانات أظهرت تراجعًا كبيرًا لـ إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد في عام 2023 إلى 59.285 مليار متر مكعب، وذلك مقابل إنتاج 66.96 مليار متر مكعب في 2022، بما سجل نسبة انخفاض 11.46% على أساس سنوي.
جميع الأصوات المتفائلة ذهبت إلى احتمالية تحسن الأمور فيما يخص إنتاج الغاز في مصر، مع حلول العام 2024؛ لكن تفاقمت الأوضاع بانخفاض معدل إجمالي إنتاج الغاز الطبيعي في البلاد إلى 13.429 مليار متر مكعب في الربع الأول من 2024، مقابل 15.537 مليار متر مكعب في الربع نفسه من 2023.
صفقة رأس الحكمة والديون
بالرغم من انتعاش خزينة الدولة المصرية مؤخرًا بمليارات الدولارات مقابل صفقة رأس الحكمة، وإنهاء الاتفاق مع صندوق النقد على قرض جديد، إلا أن الدولة سددت لشركات الغاز والنفط الأجنبية العاملة لديها فقط نحو 1.5 مليار دولار، وما زالت هناك مديونية ضخمة، لكن تخطط مصر لسداد 20 % من إجمالي المديونية في يونيو الجاري، وهو ما يبلغ 4.5 مليارات دولار؛ وفقًا لتصريحات المستشار محمد الحمصاني – المتحدث الرسميّ باسم رئاسة مجلس الوزراء-، في مارس الماضي، إذ قال في أعقاب اجتماع حضره رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، “إن الحكومة بدأت بالفعل في تنفيذ خطة لسداد مستحقات الشركاء الأجانب العاملين في مشروعات البترول في مصر، وذلك وفقًا لخطة منتظمة لسداد كافة المتأخرات”.
وفي تصريحات أدلى بها حمدي عبد العزيز – المتحدث باسم وزارة البترول-، أكد فيها على أن شركة “إيني” الإيطالية لم تسحب سفينة الحفر سانتوريني من أكبر حقل غاز تم اكتشافه في مصر، كما تم تداوله في وسائل الإعلام، مشيرًا إلى أن السفينة كانت تعمل في حفر بئر بمنطقة شمال شرق حابي بالبحر المتوسط وأنهت عملها وتحركت من المنطقة.
وأكد في الوقت ذاته، على أن برنامج الحفر في حقل ظهر سيتم لاحقًا في الربع الأخير من العام الحالي وفقًا لبرنامج الحفر المخطط له مع شركة إيني من خلال جهاز حفر آخر، مشيرًا إلى أن عمليات التطوير في حقل ظهر لم تتوقف، ولافتًا إلى أن تكثيف عمليات التنمية ورفع كفاءة التشغيل ما زالت جارية حتى الآن.
أسباب الانخفاض
تقول تقارير نشرتها وسائل إعلام مصرية وعالمية، إن السبب الرئيس في انخفاض إنتاج حقل ظهر يعود إلى ظاهرة طبيعية في جميع حقول الغاز مع مرور الوقت، إذ يتناقص ضغط الخزان ممّا يُؤثّر على كمية الغاز التي يمكن استخراجها، فيما ذهبت تقارير أخرى إلى وجود تسريبات مائية في حقل ظهر، ممّا قد يُفسّر جزئيًا انخفاض الإنتاج.
تواصلت زاوية ثالثة مع مصدر مُطلع بوزارة البترول المصرية -فضّل عدم ذكر اسمه-، يؤكد بدوره إن السبب الأبرز لانخفاض إنتاج الغاز في حقل ظهر، المديونية التي تفاقمت على الوزارة لصالح شركة إيني الإيطالية مطورة الحقل، وقد وصلت إلى 1.7 مليار دولار، وترفض الشركة العمل دون الحصول على مستحقاتها.
ويشير المصدر إلى أن عمليات التطوير المستهدفة في حقل ظهر متوقفة حاليًا تمامًا، إذ كان من المفترض أن تعمل الشركة الإيطالية على تصحيح أو إعادة مسار بئرين في الحقل الأضخم في مصر، كما كانت ستعمل على تطوير بئري نور 2 ونرجس؛ ولكن الشركة أوقفت العمل بسبب المستحقات المتأخرة.
ويقول المصدر إن وزير البترول الدكتور طارق الملا، بذل كل ما بوسعه من أجل إقناع الشركة لاستكمال العمل، خاصة في ظل حاجة الدولة الملحة لاستكمال العمل به من أجل إعادة الإنتاج لسابق طاقته، ولكن الشركة حصلت على 270 مليون دولار فقط من مستحقاتها ويتبقى لها حوالي 1.7 مليار دولار، حاول أيضًا الوزير إقناع الشركة العودة للعمل وتجزئة المستحقات دفعة تلو الأخرى، ولكن قوبل طلبه بالرفض.
الغاز وتخفيف أحمال الكهرباء
المهندس أحمد يوسف عمارة، خبير حفر آبار النفط والغاز الطبيعي -يعمل بدولة الكويت-، يؤكد إن دول أوروبا تبحث حاليًا عن مصادر بديلة للغاز الروسي الذي تضاءل في التدفق إلى أنابيب الغاز الأوروبية، بسبب الأحداث الأوكرانية، لذا تحولت بعض دول أوروبا إلى استيراد الغاز من مصر وبعض دول الشرق الأوسط، الأمر الذي دفع القاهرة نحو تعزيز صادراتها أيضًا من أجل توفير مصادر بديلة للنقد الأجنبي الذي تراجع كثيرًا في السنوات الماضية.
يقول”عمارة” في تصريحات إلى “زاوية ثالثة” إن الدولة كان لديها حسابات بأن معدلات الاستهلاك المحلية ستظل كما هي، بحيث تستطيع تغطية الاستهلاك المحلي وتوجه الفائض إلى دول أوروبا، ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وشهدت مصر ارتفاعات متتالية في درجات الحرارة بشكل غير مسبوق، الأمر الذي أدى لزيادة الاستهلاك المحلي، وعوضًا عن وجود فائض لـ تصديره، باتت مصر تُعاني من عجز.
ويرى المسؤول عن أحد أجهزة التنقيب عن النفط، أن هذا التأثير في الاستهلاك دفع الدولة بشكل مباشر إلى خطة تخفيف الأحمال في الكهرباء، مؤكدًا أن كافة المؤشرات تُظهر أن إنتاج مصر من الغاز تضاءل كثيرًا، مضيفًا أن الحكومة عليها تسريع وتيرة التعاون مع القطاع الخاص، وتذليل العقبات أمام الشركات الدولية؛ بما يشمل سداد المستحقات في الأوقات المتفق عليها من أجل إعادة الإنتاج إلى سابق عهده.
تراجع مصادر الطاقة والعملة الصعبة
يعرب سيد خضر – الخبير الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد ومدير مركز الغد للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية-، عن قلقه من تداعيات انخفاض إنتاج حقل ظهر للغاز الطبيعي على الاقتصاد المصري. ويحذر من أن هذا التراجع ينذر بتحديات كبيرة على عدّة مستويات، تتطلب حلولاً استباقية وسياسات اقتصادية رشيدة لمعالجتها.
يعدد “خضر” في حديثه معنا أسباب الأزمة التي ألمت بحقل ظهر، مشيرًا إلى أن الحقل كان بمثابة ركيزة أساسية للاقتصاد المصري، إذ وفّر مصدرًا هامًا للطاقة ودعمًا ماليًا بالعملة الأجنبية كبيرًا للحكومة. ومع ذلك، فإن تراجع إنتاجه يعود لانخفاض كميات الغاز المتاحة للاستخراج، مما يُعيق قدرة مصر على تلبية احتياجاتها المحلية من الطاقة.
ويرى أن ارتفاع تكاليف استخراج الغاز المتبقي، يُؤثر سلبًا على هامش الربح ويُشكل ضغطًا على الموازنة العامة، كما أن ذلك يؤدي إلى تراجع صادرات الغاز الطبيعي؛ ما يُقلل من العملات الأجنبية ويُضعف ميزان المدفوعات، كما أن نقص الغاز يُهدد الصناعات التي تعتمد عليه كمدخل رئيسي، مثل: الأسمدة، والكهرباء، والبتروكيماويات؛ ممّا يُؤدي إلى ارتفاع أسعارها وتراجع قدرتها التنافسية، ويؤثر على الصادرات والعملات الأجنبية أيضًا.
ويحذر مدير مركز الغد للدراسات الاستراتيجية والاقتصادية من أن نضوب الغاز في حقل ظهر سيؤدي إلى تقليص فرص العمل في قطاع الطاقة، خاصةً مع تراجع أنشطة الاستكشاف والإنتاج، مؤكدًا أن هذا سيؤدي حتميًا إلى زيادة الاعتماد على واردات الغاز الطبيعي المكلفة؛ ممّا يُشكل عبئًا ماليًا إضافيًا ويُهدد أمن الطاقة المصري.
يقدم الخبير الاقتصادي مجموعة حلول وخطوات استباقية لمواجهة تداعيات انخفاض إنتاج حقل ظهر، بما فيها الاستثمار في مصادر بديلة للطاقة، مثل: الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، لتقليل الاعتماد على الغاز الطبيعي، وتطبيق برامج لتعزيز كفاءة استخدام الطاقة في مختلف القطاعات، لخفض الطلب عليها، وكذا تكثيف جهود البحث عن حقول غاز جديدة لتعزيز الاحتياطيات. فيما يرى أنه لابد من تطوير شبكات النقل والتوزيع، لزيادة قدرة مصر على تصدير الغاز الفائض، وتقديم حوافز للمستثمرين لزيادة ضخ الأموال في قطاع الطاقة، خاصةً في مجال الاستكشاف والإنتاج، والتعاون مع الدول المجاورة لتبادل الطاقة وتحقيق التكامل الإقليمي في مجال الطاقة، وضرورة مواكبة التطورات التكنولوجية الحديثة حيث أن التطور في تقنيات استخراج وتخزين الغاز يقلل تكاليف الاستخراج ويزيد معدلات الإنتاج في مصر.
تأثير محدود وسيطرة خُماسية
يقول الباحث الاقتصادي والسياسي، إلهامي الميرغني، إن تأثير انخفاض إنتاج مصر من الغاز مؤخرًا يأتي في إطار سيطرة خمس دول كبرى على سوق الغاز في العالم هي الولايات المتحدة وروسيا وإيران والصين وقطر ومصر تأتي في المرتبة الثالثة عشر، لذلك تأثيرها على أسعار الغاز العالمي محدود. وبشكل عام يوجد اتجاه عالمي بانخفاض أسعار الغاز الطبيعي، مؤكدًا أن هذا النقص أثر على البلاد ودفعها للعودة إلى استيراد الغاز من تل أبيب واسالته واستخدامه وإعادة تصديره.
أما عن تأثير انخفاض إنتاج حقل ظهر على الاستثمارات الأجنبية في قطاع الطاقة في مصر، فيرى “الميرغني” أنها لن تتأثر كثيرًا، لأن مصر مليئة بمخزون كبير من الغاز الطبيعي والذي يُعد مصدر جذب لِشركات البحث والتنقيب بغض النظر عن حقل ظهر وما آل إليه، مؤكدًا أن القاهرة مُطالبة بالمزيد من الجهد في التسويق وجذب الاستثمار الأجنبي للبحث والتنقيب عن الغاز بعقود مناسبة لا تُجحف بحقوق مصر وتساعد على تحقيق المزيد من كشوف الغاز الطبيعي.
ويقول “الميرغني” في تصريحاته إلى “زاوية ثالثة” إن الغاز الطبيعي أصبح مصدر أساسي للطاقة في المواصلات العامة والسيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، لذلك فإن تحول مصر من التصدير إلى الاستيراد لابد أن ينعكس على الاقتصاد والموازنة العامة؛ لأن تكلفة تحويل الوحدات التي تعمل بالغاز إلى مصادر طاقة أخرى مكلف للغاية.
ويحذر عامر الشوبكي – مستشار الاقتصاد والطاقة الدولي-، من مخاطر سوء الإدارة وقلة الاستثمارات على أمن الطاقة في مصر، ويُدعو إلى اتباع استراتيجيات طويلة الأجل لضمان مستقبل الطاقة المستدامة في البلاد.
يكشف لـ “زاوية ثالثة” أن هناك غموض يلف أرقام احتياطات حقل ظهر، إذ تم الإعلان في عام 2017 عن احتياطي مؤكد يبلغ 30 تريليون قدم مكعب من الغاز، بينما تشير بعض التقديرات الآن إلى أن الرقم قد يكون أقل، هذا التناقض قد يُشير إلى ثغرات في التقييم أو سوء إدارة في عملية الاستخراج.
“الشوبكي” أكد أن أسباب انخفاض إنتاج حقل ظهر يعود إلى سوء الإدارة وقلة الاستثمارات من قبل شركة إيني، كاشفًا أن الشركة قد ركزت على جني الأرباح فقط على حساب الاستثمار المستدام؛ ما أدى إلى إهمال حفر آبار جديدة ضرورية لاستدامة الإنتاج، متحدثًا عن ظاهرة اختلاط الماء بالغاز في الحقل والتي يرى أنها إن صحت قد تكون ناتجة عن ضخ كميات كبيرة من الغاز أو ضغط البئر بغاز معين، لزيادة الإنتاج على المدى القصير. مشيرًا إلى أن هذه الممارسات قد تُلحق الضرر بالحقل على المدى الطويل.
ويحذر مستشار الاقتصاد والطاقة الدولي، الدولة من أن انخفاض إنتاج حقل ظهر قد يُؤثر سلبًا على أمن الطاقة في مصر، ويؤدي إلى انقطاعات في التيار الكهربائي وارتفاع أسعار الطاقة. كما قد يُؤدي إلى تأخير خطط مصر لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة، داعيًا إلى استكشاف مصادر غازية بديلة، مثل حقول أخرى مكتشفة في مصر، لتعويض انخفاض إنتاج حقل ظهر. كما أكد على ضرورة تنويع مصادر الطاقة بعيدًا عن الغاز الطبيعي وتطوير مشاريع الطاقة النووية، مثل مشروع الضبعة، لضمان أمن الطاقة على المدى الطويل.
حقل ظهر
حقل ظهر هو أكبر حقل غاز طبيعي في مصر، ويُعدّ من أهم مشروعات تنمية الغاز الطبيعي الجاري تنفيذها في البلاد، تم اكتشافه عام 2015 كان بمثابة قفزة نوعية لاقتصاد مصر، حيث وفّر مصدرًا هائلًا للطاقة وساهم في تعزيز أمنها الطاقي.
شهد حقل ظهر مراحل تطوير سريعة، يعتقد البعض أنها كانت سببًا في انخفاض إنتاجه عن الحد الطبيعي تدريجيًا من بعد العام 2022، بعدما بدأ الإنتاج يزيد تدريجيًا منذ ديسمبر 2017، عندما تم الإنتاج الأولي للحقل بطاقة 350 مليون قدم مكعب يومياً، حتى وصل إلى ملياري قدم مكعب في اليوم أغسطس 2018، عقب الانتهاء من المرحلتين الأولى والثانية، مع وضع 10 آبار على الإنتاج وتشغيل خمس وحدات تسهيلات إنتاج برية وأربعة خطوط بحرية.
وفقًا لـ بيانات وزارة البترول المصرية فإن إنتاج الحقل وصل إلى 2.7 مليار قدم مكعب في يوم بحلول أغسطس 2019، وذلك خلال المرحلة الثالثة، مع تشغيل ثلاث وحدات تسهيلات إنتاج برية وأربعة آبار جديدة و خطين بحريين، وذلك تقريبًا هو الإنتاج الأقصى للحقل، إجمالي استثمارات تنمية الحقل بلغت حوالي 15.6 مليار دولار، ممّا يُعدّ شهادة على أهمية هذا المشروع لمصر.
حاولت القاهرة تقليل الاعتماد على واردات الطاقة، إضافة إلى خلق آلاف من فرص العمل للمصريين، كما أن اكتشاف حقل ظهر شجّع على تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مصر، وعزّز من جاذبيتها ك وجهة استثمارية، حتى تحولت مصر من مستورد صاف للغاز إلى مُصدر له في أواخر 2018، وذلك بفضل النمو السريع في إمداداتها منه مدعومة باكتشاف أكبر حقل للغاز في البحر المتوسط، حيث سجلت صادرات الغاز الطبيعي من مصر مستوى قياسيا بلغ ثمانية ملايين طن في عام 2022.