أُغلق خطّ إنتاج السكّر من القصب بمصنع أبو قرقاص في محافظة المنيا بصعيد مصر، لأوّل مرّة منذ أكثر من 150 عامًا من العمل، بعدما قرّرت شركة السكّر والصناعات التكامليّة المصريّة، المالكة للمصنع، توريد محصول القصب المتعاقد عليه مع مزارعي المنيا إلى مصنع سُكّر جرجًا بمحافظة سوهاج، بسبب قلّة القصب المُورّد هذا العام، إذ بلغ نحو 10 آلاف طنّ فقط. وبحسب تصريحات رئيس مجلس إدارة مصانع السكر اللواء عصام البديوي، فإن الكمية المُورَّدة لا تكفي لتشغيل المصنع خمسة أيام.
وتشهد مصر مؤخرًا أزمة في توفير ودعم السلع الأساسيّة، كالقمح والأرزّ والسكّر، ما نتج عنه ارتفاع في أسعار هذه السلع بشكل غير مسبوق خلال الأشهر الأخيرة؛ إذ وصل سعر كيلو السكّر إلى 50 جنيهًا بعد أن كان سعره لا يتجاوز 10 جنيهات، بما يعادل 1.6 دولار أمريكيّ، فيما وصل سعر الدولار في السوق السوداء نحو 60 جنيهًا.
ومصنع أبو قرقاص الحاصل على علامة الأيزو، أحد أقدم مصانع السكّر في الشرق الأوسط، إذ شُيّد عام 1869، ويتنوّع إنتاج المصنع بين سُكّر أبيض من القصب، وسُكّر أبيض من البنجر، ومولاس، ومصبّعات لبّ البنجر العلف المُصنّع، وكذلك الكحول النقيّ، والكحول المحوّل، والخميرة الجافّة. ويقع المصنع في محافظة المنيا وهو واحد من ثمانية مصانع في جنوب مصر، تحت إدارة شركة السكر والصناعات التكاملية.
الحكومة تلجأ إلى الاستيراد بدلًا عن المحلي
قال مصدر بمصنع أبو قرقاص لموقع زاوية ثالثة فضّل عدم ذكر اسمه، إنّه في الوقت الّذي ترفض فيه الوزارة توريد القصب من المزارعين بسعر عادل؛ ما تسبّب في غلق خطّ إنتاج مصنع أبو قرقاص، تلجأ الحكومة إلى زيادة كمّيّة الاستيراد من السكّر في ظلّ وجود أزمة العملة الّتي تعانيها الدولة. مُتوقّعًا تراجع إنتاج مصر من السكّر؛ ما سيؤثّر في مصانع قصب السكّر الحكوميّة بشكل سلبيّ. ويزيد ارتفاع سعر السكّر.
وسجّلت صادرات مصر من السكّر خلال النصف الأوّل من العام الْمُنْقَضِي نحو 185 مليون دولار، بزيادة 21.7 % عن الفترة ذاتها من 2022، بنموّ 33 مليون دولار، حسب هيئة الرقابة على الصادرات والواردات.
مُهاب أبو زين -مُزارع من محافظة المنيا- يرى أنّ الأزمة تكمن في نقل تبعيّة شركة السكّر من قطاع الأعمال إلى وزارة التموين، يقول: “منذ هذا الوقت يحدّد سعر طنّ القصب من قبل الوزارة طبقًا لسعر السكّر في التموين”.
ويرى “أبو زين” في حديثه مع زاوية ثالثة، أنه من المُفترض أن يُحَدَّد سعر التوريد طبقا لأسعار السكر في السوق الحر، وبخاصة أن السكر غير مُدعّم في السوق الحر، ففي الوقت الذي تصرّ فيه الوزارة على توريد القصب من المزارعين بسعر السكر المُدعّم؛ لا يُدْعَم السكر للمواطن في السوق. وأضاف: “حينما كنا تابعين لقطاع الأعمال، كان يُحَدَّد سعر القصب وفقًا للسعر الحر، وبعد ذلك يُدْعَم السكر”.
واستطرد قائلًا: “إذا تمّ تسعير توريد القصب وفقًا لسعر السُكّر في السوق الحرّ، أي بنحو 27 جنيهًا، يكون سعر الطنّ 2700 جنيه، لكنّ الدولة تريد توريد طنّ القصب بسعر 1500 جنيه؛ ما يعني خسارة كبيرة للمزارع، وبخاصّة أنّ قصب السكّر دورته الزراعيّة عام، إضافة إلى تراجع الإنتاج؛ بسبب ضعف السلالة”سي 54 /9″ والّتي نعمل بها منذ 60 سنة، ولا تهتمّ الدولة بتطويرها، ما أدّى إلى تراجع الإنتاج من 60 طنًّا إلى 30 طنّ للفدّان الواحد”.
وأشار إلى أنّ سعر توريد فدّان القصب للحكومة 45 ألف جنيه هو سعر غير عادل، ما يجعل المُزارع يفكّر في أمر من اثنين؛ إمّا أن يَتخلّى عن زراعة القصب بزراعة نوع آخر دورته الزراعيّة أقلّ مثل القمح دورته ستّة أشهر فقط، أو أن يلجأ إلى بيع المحصول في السوق المناسب وهي العصارات الّتي تُنتج العسل الأسود، وتشتري فدّان القصب بأسعار تتراوح ما بين 85 إلى 100 ألف جنيه للفدان، وهو ضعف السعر الذي تعرضه الحكومة، والذي لا يزيد عن 45 ألفًا.
وأوضح “أبو زين” أنّه في الوقت الّذي ترفض فيه الحكومة توريد قصب السكّر بسعر عادل للمزارعين، ستضطرّ إلى الاستيراد لسدّ عجز السوق، في وقت تعاني فيه البلاد من نقص في العملة الصعبة. مشيرًا إلى أنّ طنّ السكّر في الاستيراد 633 دولارًا -الدولار 60 جنيهًا في السوق السوداء، بما يعادل تقريبًا أكثر من 36 ألف-، إضافة إلى أنّ سكّر الاستيراد يحتاج إلى تكريره لتنقية الشوائب قبل طرحه في الأسواق؛ ما يعني تكلفة إضافيّة. مشيرًا إلى أن توقّف صناعة السكّر من القصب معناه توقّف 22 صناعة أخرى مشتقّة منه مثل؛ الكحول، والخشب حبيبي، ودبس السُكّر، والفازلين الطبّيّ، والروائح العطريّة الّتي تصدر للخارج؛ ما يشكّل عبء إضافيًّا على الدولة وميزانيّتها.
وتقدم حسانين توفيق، عضو مجلس الشيوخ بمحافظة المنيا، بطلب مناقشة عامة بجلسات المجلس لوزير التموين ووزير الزراعة، لاستيضاح سياسة الحكومة بشأن الآليات العادلة لتسعير المحاصيل الزراعية خاصة الاستراتيجيّة، منها كقصب السكر. ووصف توقف مصنع أبو قرقاص بـ”الكارثة” وبأنها لن تكون الأخيرة، في ظل افتقاد الدولة لسياسات زراعية تُراعي فيها مصلحة المزارعين بالدرجة الأولى.
حاول موقع زاوية ثالثة الحصول على ردّ من قيادات مصنع “أبو قرقاص”، لكنّهم رفضوا التعقيب. معلّقين: “هناك تشديد أمنيّ بعدم تحدّثنا مع الصحافة، وأحيلت المسألة برمّتها للشركة القابضة”.
تجار العوادي ومصنع قنا الإماراتي
يتشكك مُزارع من محافظة الأقصر فضّل عدم ذكر اسمه، في سبب الأزمة ورفض الحكومة لرفع سعر التوريد، ويرى أن الأمر هو تواطؤ حكومي يهدف إلى خسارة مصانع السكر تمهيدًا إلى الخصخصة، كما حدث مع مصانع أخرى. وأخبرنا أن عزوف المزارعين عن زراعة القصب، سيُعزّز من تدمر الصناعة وعودة مافيا وحيتان الاستيراد للتحكم في السوق؛ وبالتالي في سعر السكر.
وأظهر ازدهار تجار العوادي بشكل ظاهر هذا العام؛ هم وسطاء يعرضون على المزارعين شراء فدان القصب بضعف السعر الذي عرضته الحكومة، هؤلاء الوسطاء يقومون ببيع القصب مرة أخرى إلى شركات استثمارية دخلت مجال صناعة السكر في مصر، وزاحمت الشركات الحكومية التي كانت مسيطرة بشكل كامل على السوق.
وفي عام 2018، وقّعت الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية المصرية (حكومية)، وشركة القناة للسكر التابعة لمجموعة الغرير الإماراتية، اتفاقية لبدء مشروع استثماري متكامل يتضمن استصلاح وزراعة محصول بنجر السكر.
شركة القناة للسكّر هي شركة مصريّة تابعة لمجموعة الغرير الإماراتيّة، وتعمل في مجال إنتاج وصناعة السكّر. تأسّست الشركة سنة 2018 في مصر، كشراكة بين مستثمرين إماراتيّين وشركة الأهليّ كابيتال المملوكة للبنك الأهليّ المصريّ، وبرأس مال حوالي 5.4 مليار جنيه مصريّ. يقع المقرّ الرئيسيّ للشركة بمدينة القاهرة، ومصنعها بمدينة ملوي بمحافظة المنيا في صعيد مصر، ويعتبر مصنعها أكبر مصنع لإنتاج السكّر في العالم على مساحة 240 فدّانًا وبطاقة إنتاجيّة تصل إلى 900 ألف طنّ إلى مليون طنّ سكّر سنويًّا، بما يعادل 35% من حجم إنتاج السكّر في مصر. وأعلنت الحكومة المصريّة العام الماضي، بدء تشغيل خطوط الشركة بالفعل، والّتي باتت تصدر 80% من إنتاجها إلى الدول الخليجيّة ودول شرق أفريقيا.
الحكومة هي المصدر الأساسي للأزمة
“الحكومة المصرية هي المتحكم والمحتكر ما يعني أن سياساتها هي العامل الأساسي في أزمة السكر، فالسياسات الاقتصادية يدفع ثمنها المستهلكين والمزارعين وعمال مصنع أبوقرقاص والمصانع المعتمدة على مصنع أبو قرقاص”. يقول الخبير الاقتصادي ونائب رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي إلهامي الميرغني.
وأضاف في تصريحه إلى زاوية ثالثة أن مصر في قلب الاستعدادات لحرب أكتوبر، وفي عام 1972 كانت تُحقّق 118% اكتفاءً ذاتيًا من السكر، وهو ما تحول بعد ذلك إلى فجوة وصلت 55.4% سنة 1980 وهي كارثة كبرى، وتواكب مع ذلك الهجوم على قصب السكر أحد أقدم المحاصيل في مصر، والذي تملك فيه مصر خبرة صناعية تزيد على 155 سنة وخطوط سكك حديدية في محافظات الصعيد المنتجة للقصب.
ووفق تعبيره بدأت المؤامرة حين قالت الحكومة إنّ قصب السكّر يستهلك مياهًا كثيرة، ويمكث في الأرض فترة طويلة، وأنه يُفضّل وقف زراعته؛ والتوجّه للبنجر. ويضيف الميرغني أن “القصب يزرع بتقاوي مصريّة بالكامل، وتعتمد عليه 20 صناعة مكمّلة ونسبة استخراج السكّر منه أعلى بكثير من سكّر البنجر”. وإن “المشكلة أنّ البنجر يزرع بتقاوي مستوردة أيّ معتمدين على الخارج، ويحتاج عملة صعبة، بل أنّ الوقود المستخدم في مراحل الاستخراج أيضًا مستورد من الخارج ونسبة تركيز السكّر أقلّ”. ويعتبر أنه لهذه الأسباب بدأت محاولات تفكيك صناعة القصب، ففي المنيا على سبيل المثال تم تفكيك وإلغاء خط سكك حديد القصب الذي أنشأه الخديوي، وتم البناء عليه؛ ومن ثم حُمِّل الفلاح بأعباء النقل على حسابه للشركة- بحسب الخبير الاقتصادي.
وتابع، عندما نصل إلى الشركة نجد عدة سياسات مُنفرّة للفلاحين؛ أولها أن سعر التوريد للطن 1100 جنيه ارتفع في 2024 إلى 1500 جنيه، ومن ثم العائد من زراعة القصب لا يغطي تكلفة الزراعة إذا أضفنا إلى ذلك أنه في الوقت الذي تشتري فيه الشركة القصب من المزارع بنحو 50 ألف جنيه للفدان، في حين أنه متاح له بيعه بضعف السعر للعصارات ومصانع العسل الأسود، في الوقت ذاته يتلاعب بعض موظفي الشركة بتحديد نسبة السكر في الإنتاج بما يقلل سعر الطن. وهو ما يجعل مزارعين يعزفون عن زراعة القصب واستبداله بمحصول يحقق له عائد يمثل ضعف عائد القصب، كما يوجد انخفاض في الإنتاجية سواء في القصب، أو في البنجر. ووصلت الفجوة الغذائية إلى أكثر من 70%، لذلك فإن إنقاذ زراعة وصناعة السكر يحتاج إلى سعر عادل للمحصول يغطي تكاليف الزراعة، ويحقق للفلاح هامش ربح مناسبًا. إضافة إلى ضرورة اهتمام مركز بحوث المحاصيل السكرية وكليات الزراعة ببحث مشاكل زراعة القصب والبنجر وزيادة إنتاجيتها واستنباط بذور مصرية للبنجر بعيدًا عن سيطرة الاحتكارات الدولية- بحسب الميرغني.
الغاز والمياه
“احتياجاتنا من السكر تفوق إنتاجنا منذ زمن، لكن حاليًا الإنتاج أصبح أقل من السنوات الماضية ومهددًا بالتراجع أكثر خلال السنوات القادمة؛ بسبب أزمة المياه وطريقة الري التي تحتاج إلى مولدات تعمل بالغاز”، يقول المحلل الاقتصادي محمد شيرين. ويضيف في تصريح إلى زاوية ثالثة “إن حقول قصب السكر تُرْوَى باستخدام مواتير، ووجود أزمة في الغاز؛ بسبب سياسات الحكومة الخاطئة أثّر بالسلب على تشغيل المواتير وضخ المياه وهو ما أثر أيضًا على الإنتاج، ولهذا ستلجأ الحكومة إلى الاستيراد. ويرى أن وجود أزمة في السلع الأساسية التي تظهر من وقت لآخر نتيجة لسياسة واستراتيجية الدولة الخاطئة وإصرارها على السير بالنهج نفسه، والذي ينتج عنه استمرار الأزمة، لا حلها”.
ويتفق محمد أبو جبل -مُزارع من محافظة الأقصر- مع المحلل الاقتصادي، ويقول: “تأثير أزمة الغاز ليست على آلات الري فقط، وإنما على مرحلة نقل محصول القصب، والتي تعد أصعب مراحل زراعته، نظرًا لارتفاع أسعار الوقود وتهالُك خطوط قطار القصب المؤدية إلى مصانع السكر المعروفة بـ”خطوط الديكوفيل”، ما يتسبب في ارتفاع تكلفة النقل والعمالة اليومية، ويلجأ المزارعون إلى تأجير رافعات وشاحنات لنقله من الأراضي الزراعية إلى مصانع السكر التي تبعد مسافة تقارب الـ40 كيلو متر”.
إلى جانب أزمة الغاز تعاني مصر أيضًا من أزمة نقص المياه نتيجة لبناء سد النهضة الذي أثّر بالسلب على حصة مصر من مياه نهر النيل، وهو ما جعل الحكومة تخطط لمضاعفة زراعة بنجر السكر بدلًا من القصب؛ لأنه لا يحتاج إلى كميات مياه هائلة كالتي يحتاجها قصب السكر.
وسعت القاهرة خلال المفاوضات الأخيرة مع أديس أبابا لإطالة أمد ملء خزان سد النهضة ليستمر حتى عام 2026، لكن الحكومة الإثيوبية رفضت، وهو الأمر الذي ستكون له نتائج سلبية على عدد من المحاصيل على رأسها قصب السكر خلال الأعوام القادمة، بحسب خبراء.
الدولة تعمدت تقليل المحصول
قال أستاذ الوراثة بكلية الزراعة جامعة الزقازيق سعيد سليمان، أن الدولة عمدت إلى تقليل محصول القصب، إذ إنها أدخلت بنجر السكر كبديل، بحجة أن القصب يستهلك الكثير من المياه.
وقال لـ زاوية ثالثة إن مصر من أعلى الدول إنتاجية في قصب السكر وأنقاها جودة، وبالتالي مطلوب “قتل” قصب السكر بتوجه من الدولة، “فنحن كنا نزرع نصف مليون من القصب أصبحنا نزرع 300 ألف فدان فقط، يتم شراء أغلبه من صناع المولاس والعسل الأسود، بسبب تعنت الوزارة في أسعار التوريد، وهو ما دفع المزارعين لبيع إنتاجهم لمصنعي الملاس الذين يشترون المحصول بضعف سعر الحكومة، مضيفًا أن الدولة أدخلت صناعة السكر من البنجر بدلًا من القصب، على الرغم من أن البنجر يصاب بـ 32 مرضًا وحشرة، وقد تعرض محصول البنجر، العام الماضي، للإصابة ببعضها؛ ما نتج عنه انخفاض إنتاجيته، إضافة إلى التقليل المتعمد لإنتاجية القصب؛ وهو ما تسبب في أزمة السكر. وحسب أستاذ الوراثة؛ فإن اتخاذ الحكومة ذريعة المياه “باطل”، فلدى مركز البحوث الزراعية أصناف تستهلك نصف كمية المياه بمعدل 6000 آلاف متر مكعب بدلًا عن 11 ألف، والمركز والوزارة يمتنعون من توزيعها على المزارعين دون أسباب؛ ما يعني أن هناك توجهًا متعمدًا لتقليل الإنتاج، وخلق أزمة.
وأوضح أستاذ الوراثة أن تقاوي البنجر تُسْتَوْرَد سنويًا بملايين الجنيهات؛ لأنها ثلاثي مجموعة الكروموسومية لا تزهر في مصر. واصفًا: “سياسة زراعية خاطئة”.
ويعد السكر والأرز والقمح من السلع الأساسية التي لا غنى عنها، وشهد السوق المصري ارتفاعًا كبيرًا في أسعار تلك السلع خلال الفترة الأخيرة، ما دفع برلمانيين للمطالبة بإقالة علي مصيلحي وزير التموين، ولكنّ الأزمة مستمرة والمواطن يعاني.