من يرسم الطريق إلى سوريا الجديدة؟

طريق سوريا إلى بناء الدولة-الأمة واستعادة السيادة من جديد يبدو طويلا ومرهقا، ليس بسبب التدخلات الخارجية فحسب، وإنما بسبب تركيبة ديموغرافية لا تحبذ المركزية
Picture of محمود إبراهيم

محمود إبراهيم

نجحت المعارضة السورية المسلحة في إسقاط نظام الأسد بعد أكثر من نصف قرن من الحكم الأسدي الذي لا يكشف كل يوم جديد إلا عن المزيد من فظائعه. أتى سقوط النظام بعد أكثر من 10 أعوام من الحرب الطاحنة مع فصائل المعارضة السورية المسلحة التي تشكلت صبيحة الثورة السورية التي انطلقت في مارس 2011. أضافت تلك الحرب تعقيدات عميقة على خريطة النفوذ في سوريا، فتغيرت بنية الفصائل السورية المسلحة عدة مرات عبر مراحل الحرب الطويلة، وتحولت سوريا كذلك إلى ساحة صراع دولية مع انخراط متراوح لقوات خمسة دول أجنبية في الأراضي السورية.

اتسمت سوريا عبر تاريخها، على غرار الهلال الخصيب الذي تشكل المساحة الأوسع فيه، بفضاء ديموغرافي نثري، فقد تحلق سكان سوريا حول مراكز مدينية متنوعة بينما بقيت مساحات من المناطق الفاصلة ذات كثافة سكانية منخفضة، وقد انعكست تلك الطبيعة الديموغرافية النثرية على الاجتماع السياسي السوري، إذ كانت الدولة المركزية الموحدة هي الاستثناء في تاريخ الفضاء الجغرافي السوري الذي غلب عليه الانقسام بين ما يشبه الدولة-المدينة في نموذج يشبه من بعيد صورة إيطاليا في عصر النهضة.

ولدت سوريا الحديثة بخريطتها المعروفة اليوم من رحم تفاهمات بريطانية فرنسية بعيد الحرب العالمية الأولى. لا يعني هذا في الحقيقة أن تلك التفاهمات مثلت قفزا كاملا على وقائع الجغرافيا والتاريخ في سوريا، لكن تلك النشأة أشّرت إلى غياب المركز السياسي القوي الذي تدور حوله الأطراف، أو الاتصال الجغرافي الذي يمتنع معه التقسيم. ومن المعروف أن المندوب السامي الفرنسي هنري غورو قد طرح في السنوات الأولى من حكم سوريا تقسيمها إلى ست دويلات علي أساس طائفي وجهوي، لكن فشل هذا المشروع كان مؤشرا على ضرورة توحد الجغرافيا السورية إذا ما كان لدولة-أمة أن تنشأ في تلك المنطقة.

حكم هذا التناقض بين الوحدة الضرورية وغياب المركز تاريخ سوريا السياسي. فقد انقسمت النخبة السياسية السورية بعيد الاستقلال. سعى حزب الشعب الحلبي إلى وحدة الهلال الخصيب للحفاظ على مركزية حلب التجارية وصلاتها بالموصل ومن ثمّ بلاد فارس ووسط آسيا. من جهة أخرى، جمع حزب الكتلة الوطنية النخبة الدمشقية التي لم تنفك عن التخوف من أن تبتلع الوحدة نفوذها. وقد ظلت عملية بناء الدولة في سوريا محتجزة لسنوات بفعل عجز تلك النخبة عن بناء مؤسسات فعالة وأمة موحدة تتجاوز خطوط الانطواء الطائفي وثنائة المدينة والريف.

لقد ظل الأسديون على مدى عقود يتبجحون بأن حافظ الأسد هو القائد الذي بنى دولة مستقرة في سوريا، وحولها من ساحة للصراع إلى قوة إقليمية ذات أدوار ومصالح جيوسياسية حيوية، لكن الصراع الأهلي بين السلطة الأسدية والإخوان المسلمين منذ منتصف السبعينات، والخوف المرضي لدى الأسد من فقدان سلطته، قادا خلال عقد واحد إلى تحويل المشروع الأسدي من مشروع لبناء دولة قوية، إلى مشروع لبناء دولة متوحشة تتغذى على سكانها، وترى في الأغلبية العامة منهم تهديدا محتملا للنظام القائم، فتناصبهم العداء وتستسهل اللعب على خطوط إثنية طائفية، لم تكن لتقود إلى هذا النوع من الانفجار الذي قادت إليه في الثورة السورية.

على كل حال، فإن سوريا اليوم لم تغادر طبيعتها تلك، وهو ما يفرض تحديات مضاعفة في وجه عملية بناء الدولة-الأمة التي تتصدر أجندة العمل الوطني السورية اليوم.

المعارضة السورية المسلحة

مرت المعارضة السورية المسلحة بأطوار متتالية خلال الثورة السورية، فقد جرى الإعلان عن تشكيل الجيش السوري الحر في يوليو 2011، لكن سرعان ما تحول الاسم إلى مظلة واسعة من المجموعات المسلحة التي لا تخضع لهيئة أركان موحدة، وكانت أبرز تلك المجموعات التي ولدت في بداية الثورة السورية هي لواء التوحيد الذي جرى تأسيسه في حلب في منتصف 2012 وقاد لوقت طويل معركة السيطرة على حلب التي استمرت لسنوات قبل أن يحسمها النظام بفعل التدخل الروسي في 2016.

في مطلع 2012، برزت مجموعتان ستلعبان دورا بارزا خلال السنوات التالية من الحرب وإلى سقوط بشار الأسد. الأولى هي جبهة النصرة التي تشكلت كفرع من تنظيم القاعدة منبثق عن فرع التنظيم في العراق. أما الثانية، فهي حركة أحرار الشام التي تبنت خطا سلفيا جهاديا على غرار النصرة، لكنها أجرت مراجعات وفضلت خطا محليا يقطع مع خط الجهادية العالمية الذي تبناه تنظيم القاعدة.

أتت اللحظة الأهم في مسيرة تلك الحركات في مارس 2015، عندما توحدت، بما في ذلك جبهة النصرة، تحت غرفة عسكرية مشتركة باسم بجش الفتح، لتشن هجومها الذي انتهى بالسيطرة على مدينة إدلب في أقصى الشمال الغربي لسوريا. مع ذلك أتت الضربة الكبرى لتلك الفصائل في نهاية 2016، عندما نجح النظام مدعوما بالميليشيات الإيرانية والتدخل الروسي الجوي، في طرد تلك الفصائل من حلب وحشرها في زاوية إدلب.

أدت الهزيمة في حلب إلى تركز فصائل المعارضة السورية في إدلب. في ذلك الوقت، منتصف 2017، أعلنت جبهة النصرة تغيير اسمها مرة ثانية إلى هيئة تحرير الشام، وكانت المرة الأولى في صيف 2016 عندما أطلقت على نفسها جبهة فتح الشام وأعلنت قطع صلتها بتنظيم القاعدة، وقرارها العمل كمجموعة محلية سورية. بالتوازي مع ذلك، عملت تركيا على تنظيم ما تبقى من مجموعات مسلحة تابعة للجيش السوري الحر، وشكلت ما عرف بالجيش السوري الوطني. جمع هذا الجيش بين جناحين مختلفين، الأول هو مجموعة من فصائل المعارضة السورية البارزة التي وافقت على التحالف تحت رعاية تركية ومن أبرزها حركة نور الدين زنكي. أما الجناح الثاني فهو مجموعة من الحركات المسلحة الصغيرة التي تعمل تحت إمرة تركية مباشرة ما يجعلها أقرب إلى رديف للقوات التركية في المناطق السورية.

في مطلع 2019، نشب صراع بين هيئة تحرير الشام من جهة والفصائل الموالية لتركيا من جهة أخرى، وهو ما أدى إلى تعزيز نفوذ هيئة تحرير الشام وبسط نفوذها على محافظة إدلب. لكن هذا الصراع سرعان ما جرت تسويته بتأسيس غرفة عمليات الفتح المبين لمواجهة هجمات النظام على إدلب منذ منتصف 2019.

مثل شمال سوريا الذي يتشكل من مثلث حلب-إدلب-حماة منطقة نفوذ طبيعية لكل تلك الحركات المسلحة. إذ أن بعد تلك المناطق عن العاصمة ومناطق سيطرة النظام سمح بتنظيم مجموعات المعارضة. بجانب ذلك، فإن هذا المثلث ضم القاعدة الشعبية السنية المتدينة لتلك الفصائل، ومن المرجح أن يظل لهذا المثلث نفوذه الواسع في سوريا الجديدة، خاصة وأنها كانت تضم نحو ثلث سكان سوريا وفقا لإحصاء 2011.

ووفقا لأغلب التقديرات، فإن هيئة تحرير الشام تمثل أكثر من ثلثي القوة العسكرية لتلك الفصائل، علاوة على هيمنتها السياسية، إذ تمثل هيئة تحرير الشام الظهير السياسي لحكومة الإنقاذ التي تشكلت في إدلب نهاية 2017، وقد كان تشكيل تلك الحكومة بمثابة انقلاب سياسي على الائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة التابعة له، وهو الائتلاف الذي حظي في بداية الثورة باعتراف الدول الداعمة للمعارضة السورية، كممثل شرعي للشعب السوري.

يعني هذا أن هيئة تحرير الشام وواجهتها التنفيذية التي تتمثل في حكومة الإنقاذ هي التي تهيمن فعليا على وسط سوريا أو محورها الواصل بين حلب ودمشق مرروا بحماة وحمص. لكن هذا المحور تحيط به التحديات من كل الجهات.

 

التحديات الجهوية في سوريا

لا تتمتع تلك الفصائل الشمالية بتواجد عسكري في محافظات الجنوب السوري الثلاثة، وهي درعا والقنيطرة والسويداء. فالأخيرة، تمثل المعقل التاريخي للطائفة الدرزية في سوريا، وقد نأت بنفسها عن الصراع السياسي بين النظام والمعارضة. أما درعا وهي أكبر المحافظات الثلاثة من ناحية عدد السكان، فتسيطر عليها حاليا “غرفة عمليات الجنوب” وهي قوة عسكرية تجمع فصائل المعارضة الصغيرة التي تشكلت في جنوب سوريا بعد الثورة، وتوصلت إلى مصالحة مع النظام السوري في 2017 تحت رعاية روسية، ثم رفضت الخروج إلى الشمال بعد بسط النظام لنفوذه في الجنوب سنة 2018. وليس من الواضح إلى الآن حجم قوتها العسكرية واتجاه ميولها السياسية، لكن أحمد العودة ونسيم أبو عرة هما أبرز وجوه تلك المجموعة، وتقول عدة تقارير صحفية بأنهما على علاقة وثيقة بروسيا. وقد كانت المحافظات الجنوبية الثلاثة تضم نحو 7٪ من السكان.

من جهة أخرى، فإن ملف الاحتلال الإسرائيلي للجولان من المرجح أن يشكل ضغطا على فصائل المعارضة الشمالية في سوريا، نظرا إلى الضغط الذي قد تعانيه تلك الفصائل من قواعدها الراديكالية التي قد تطالب بمواجهة الاستفزاز الإسرائيلي، خاصة بعد الغارات العنيفة التي تشنها إسرائيل على العاصمة دمشق، وتوغل القوات الإسرائيلية وصولا إلى ريف دمشق حتى الآن. أما إسرائيل، فإنها لن تقبل على الأرجح بتواجد تلك الفصائل علي خطوط تماس معها، وهو ما سيشكل معضلة سياسية للمعارضة الشمالية في محاولتها مد نفوذها إلى الجنوب، وقد يدفع إلى إيجاد بدائل في المحافظات الجنوبية سواء في شكل قوات دولية أو ميليشيات محلية ذات صلة بإسرائيل على غرار تجربة جيش لبنان الجنوبي.

أما في الساحل الغربي لسوريا، فإن المجتمعات العلوية التي ينظر إليها كقاعدة شعبية للنظام قد أعلنت بالفعل تخليها عنه واحتفلت برحيله، ولم تبد استعدادا لمنازعة الترتيب الجديد للسلطة. رغم ذلك، فإن هذه المنطقة تضم القاعدة الجوية الروسية في سوريا، وهي المنطقة التي ترى روسيا في تواجدها فيها ضرورة استراتيجية كمنفذ رئيسي وربما وحيد لها على البحر المتوسط. لذلك، سيبقى احتواء ذلك المكون السوري في العملية السياسية، وبسط نفوذ السلطة الجديدة في تلك المناطق، مسألة تثير حساسية واضحة.

أما الصحراء الشرقية لسوريا، وخاصة في منطقة شرق نهر الفرات، فتقع كما هو معروف تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وهي ميليشيات كردية تأسست سنة 2015 برعاية الولايات المتحدة الأمريكية. وتتشابك مصالح مختلف الأطراف في تلك المنطقة، إذ من المرجح ألا تقبل الولايات المتحدة تفكيك تواجدها الكثيف في تلك المنطقة أو التخلي عن الوحدات الكردية سريعا، بينما ترى تركيا أولوية قصوى في القضاء على نفوذ تلك القوات الكردية التي لا ترى فيها سوى ظهير للمتمردين الأكراد في تركيا الذين تصنفهم الدولة التركية كإرهابيين. وبالنظر إلى النفوذ الواسع الذي تتمتع به تركيا لدى فصائل المعارضة السورية، بما في ذلك هيئة تحرير الشام نفسها، فإن إشعال توتر بين تلك القوات التي تطالب بالفيدرالية، والسلطة المركزية الجديدة هو أمر مرجح.

لذلك فإن طريق سوريا إلى بناء الدولة-الأمة واستعادة السيادة من جديد يبدو طويلا ومرهقا، ليس بسبب التدخلات الخارجية فحسب، وإنما بسبب تركيبة ديموغرافية لا تحبذ المركزية، وتتطلب قدرا كبيرا من المؤسسية والتوزيع العادل للموارد حتى يمكن لكل سوري أن يرى في الدولة السورية شيئا ينتمي إليه حقا.

Search