من الأسطورة الإغريقية «وردة»: هل يخلق الإنسان مرتين يا بليغ؟

 الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفًا، فإن معنى ذلك أن وجوده له أهميته وله مغزاه وأن حياته تستحق أن تعاش بل إنها حياة يسعى صاحبها لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها.
Picture of أحمد مصطفى

أحمد مصطفى

ناصية المقهى.. هنا؛ اعتدت منذ فترة، ضبابية التحديد، الاستلقاء متخذًا وضعًا يشبه الاسترخاء، حيث الجلوس عكس نمط الحياة. أنظر إلى أعلى نقطة، وتصحبني هوايتي في تمعن النوافذ المطلة على الشارع في عين سُكانها. أتخيل ما يدور خلف النوافذ المشتعلة، إذ أحبذ الإضاءات غير المبهرجة، كما كافة الأشياء التي تحمل صفة الاستثناء، الاختلاف.

أتوقف قليلًا عن احتساء القهوة، أفكر التوقف إلى الأبد والاكتفاء بلذة الرشفة الأولى. أتساءل لِم يجب الانفصال عن الفنجان مع آخر رشفة. ربما اعتياد الاستجابة للإشارة العقلية بالاستسلام للفعل دون استشعاره والانهماك في الإفراط حد الإشباع، وبالتالي يُبطل تكرار العملية مفعولها. أحاول الخروج من دائرة الزمكان الدنيا بالخيال والانخراط في وقت آخر لا يحكمه تعاقب الليل والنهار. وأغفل؛ انصياعًا لنصيحة ابن عربي أنه لو لم نغفل لفقدنا نشوة الانتباه.

دائرة مفرغة من الأسئلة الوجودية، ترهق ذهني يوميًا، تشتت أفكاري، تفقدني لذة الحواس الخمس. فأمضي هكذا على نحوٍ يأس، حينما لا ترضى الإجابات عقلي الحائر. تيهِ ينبه إشعار عبر واتساب، يأتي من أحد أعضاء نادي الكتاب، تلك التي دعتني إليه إحدى صديقاتي لمشاركة مُريديه القراءة في جلسات تعقد بين الفينة والأخرى. تتبعت الإشعار ومنه إلى كتاب أُرسل بصيغة الـPdf، بغرض قراءته استعدادًا للجلسة القادمة، حمل عنوان «الإنسان يبحث عن المعنى» لعالم نفس نمساوي يدعى فيكتور فرانكل، حيث يتناول بين صفحاته تجاربه الشخصية كناجٍ من معسكرات الاعتقال النازية في أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعرض من خلالها نظرية العلاج بالمعنى.

أنعزل لثوانِ من زِحام الفكر بالنبش بين تطبيقات الموسيقى، لعلي أهتدي لمقطوعة بريئة تبدد الجدل الدائر بداخلي. أتوقف عند تسجيل نادر لـبليغ حمدي، وهو يدندن رفقة عوده «حسيت كإني اتخلقت تاني»، بينما كنت أتفحص مقدمة الكتاب، الذي مهد خلالها فرانكل أن العلاج بالمعنى يخلص في أن

 الإنسان إذا وجد في حياته معنى أو هدفًا، فإن معنى ذلك أن وجوده له أهميته وله مغزاه وأن حياته تستحق أن تعاش بل إنها حياة يسعى صاحبها لاستمرارها والاستمتاع بمغزاها.

استقطبتني الفكرة.. فعدت أقرأ بنهم، وراح بليغ يكرر المقطع، الذي استفزني فاستحضرته وأجلسته بمقعد يخلو من الأنس بجانبي، وناقشته بصمت مستنكرًا «وهل يخلق الإنسان مرتين يا بليغ!». عدت لفرانكل الذي كان يسترسل تجاربه في أثناء محاولة التشبث بأي خيط للنجاة، مستشهدًا بقول نيتشه «بأن من يمتلك سببًا يعيش من أجله فإن يستطع غالبًا أن يتحمل بأي طريقة وبأي حال». بينما كان التطبيق ينتقل تلقائيًا إلى الأغنية التالية لبليغ، الذي بدا وأنه كان يبحث مع فيكتور عن الخيط ذاته، في زمن آخر، لكنه لمَ وجده أخذ يدندن في حالة من الهيام «حبيبي.. أنا مخلوق علشانك، يدوب عشانك، عشانك أنت».

تراكمت الأسئلة، وازداد فضولي حول بليغ، الذي رتب له التطبيق ألحانه عن سِر وجوده في الكون بقائمة، تزيلتها «أنا الحب اللي كان»، الذي وعلى الرغم من أنه كان يُفسر بين كلماتها صحوة الشيخوخة المتأخرة، لم يخجل بأن يتجنب الرثاء قليلًا بشطر شاذ عن المعنى مرددًا «حبيبي جيت أنا.. جيت الدنيا ديا إلا عشان أحبك».

لوهلة؛ شعرت أن تحليل فرانكل انعكس على حالة بليغ، عندما أشار بأن ليس العلاج بالمعنى تعليمًا ولا وعظًا، فهو بعيد عن التفكير المنطقي والنصائح الأخلاقية.

 الدور الذي يلعبه العلاج بالمعنى، أقرب إلى دور أخصائي العيون منه إلى الرسام. فالرسام يحاول أن ينقل إلينا صورة عن العالم كما يراها هو، في حين أن طبيب العيون يحاول أن يمكننا من أن نرى العالم كما هو في الواقع. وهنا؛ تخبطت لإسقاط صفة من بينهما على بليغنا، فحبوت إلى لقاءات فتاة ألحانه عسى أن تفند العلل بين كلماتها.

«شيء غريب.. كل يوم على مدار 7 سنين زواج يروح المكتب ويبعت لي وردة، وما زالت عندي الألبومات».. كانت تلك أولى الكلمات التي عثرت عليها، حيث أدلت بها وردة، في إحدى لقاءاتها التلفزيونية، في إشارة منها لعادة بليغ اليومية، شكرًا للرب على نعمة وجودها في حياته. لم يكتفِ «البوهيمي، الذي لا يحترم المواعيد، لكنه genius» كما وصفته ابنة الجزائر، بأن يهاديها دون ملل وردة يوميًا، بل أضافت «رغم أني كنت بعيش معاه، كانت أغانيه رسالة ليا، كان بيكلمني فيها».

أدرك بليغ منذ اللحظة الأولى لاستماعه لها وهي تشدو برائعة أم كلثوم «يا ظالمني» في الستينيات، دون أن يراها، من خلال أسطوانة كُتب عليها الفتاة «وردة فتوكِ» والتي اشتهرت بدندنة الأغاني وهي تطهو الطعام في مطعم والدها، أن هذا الصوت الذي وصفه بـ«بحبه ورقيق» هو الوسيلة التي ستعبر بقلبه بين دفتي الحياة، من الحزن وصولًا لنشوة الفرح. وفي يوم وليلة دق القدر قلب بليغ، تأتي هي من لبنان حيث كانت حينئذ وهو من مسكنه ليتقابلا في منزل عازف الكمان، أنور منسي، من أجل التعاون في إحدى الأغنيات، لكن قلبهما اتخذا مسارًا آخر عبرا به لاحقا بـ «خليك هنا خليك وبلاش تفارق».

وكأي إنسان يجد طرف الخيط للحياة وسط التيه، تسرع بليغ وتقدم ليتزوج وردة، لكن أهلها قابلوا طلبه بالرفض؛ ومن ثم رحلوا بها للجزائر في 1963 للزواج بآخر. 

لكنها لم تغادر قلبه، وظل يبعث لها برسائل غرامية عبر الأغاني، حسب رواية «رسائل على نوتة موسيقية» للكاتبة منى البكري، أشهرها ما غنت أم كلثوم «كنت بتشاقلك وأنا وأنت هنا.. بيني وبينك خطوتين». وعلى هذا الحال مرت 9 أعوام لم يتنازل خلالهم بليغ عن مناجاة الأمل بالألحان، فأنتج أعمالًا لا حصر لها، وكانت لديه زيجة قصيرة من خارج الوسط الفني، بناءً على نصيحة كوكب الشرق لمساعدته على تنظيم حياته، وبعد شهور قليلة انفصل عنها.

عاد القدر مرة أخرى لإنعاش قلبه، حيث أسند الملحن، رياض السنباطي، له تلحين أغنية عن عيد استقلال الجزائر والتي ستشدو بها وردة، شبيهة بطلات الأساطير الإغريقية، كما رأها بليغ في لقائهما الأول، حسبما ذكر الإعلامي، وجدي الحكيم، أو كما وصفها هو بلحنه «يا أرق م النسمة وأجمل من ملك». ومن هنا؛ عادا إلى لقاء فني لكن هذه المرة قررا أن يتمردا على الرفض، وتزوجا في 1973 ولربما يُعبر أحد المشاهد التي جمعتهما عن هذه المقابلة حينما جلسا يدندنا «لا الزمان ولا المكان قدروا يخلوا حبنا ده يبقى كان».

7 سنوات من الزواج بينهما استلهم بليغ لـ فتوكِ، من بين عينيها نحو مائة لحن، قالت عنهم «فصلي الألحان.. معظم ألحانه بيعملها وأنا نايمة، ولو في جملة يحس أنها ليا يصحيني». ساعات من الاندماج في عشرات الحكايات ما بين الاستماع والقراءة على لسانهما أو من المحيطين بهما، للوصول لإجابة السؤال الفضولي، حتى توقفت عند ما قبل النهاية بقليل حيث عام 1979، عندما أعلن الثنائي انفصالهما عاطفيًا بشكل رسمي.

لحظة أبى قلب بليغ أن يتكيف مع حقيقتها، وأكمل العيش مع أسطورته الإغريقية، باحثًا من تاريخ الانفصال وحتى وفاته عام 1993، عن صوت يستخدمه كبريد خفي لإرسال يومياته إليها. كما فعل مع أم كلثوم، فكانت ميادة الحناوي، التي قدم من خلالها رثاء الملحنين السرمدي «كان ياما كان» أو كما دندن في تسجيل نادر لم يتخط 9 دقائق، تعمد خلاله غناء كوبليهات لم تشدُ بها الحناوي كـ «أنا الحب اللي كان، أنا أصدق إنسان».

ربما تكون علّة بليغ في الكوبليه المحذوف، أقصد «الصدق» سببًا في أن يكون «الحب اللي كان» أيقونة الذكرى التي لا تُنتسى ليس لبليغ فحسب، بل أنا وأنت وآخرون. كالمخرج جميل المغازي، الذي حضر لحظة تفتت قلب بليغ في أثناء تأليفه للأغنية، فحكى كواليسها منذ نحو 9 أعوام، مشيرًا أنها نبعت من آلامه بعدما طلق وردة هاتفيًا في الليلة ذاتها. وزاد في السرد «كنا في أبو ظبي.. كنا بنمشي وراه لأنه مجنون يعمل أي حاجة. قعدنا جنبه أنا وعبد الرحيم منصور ومحمد رشدي وسوزان عطية وقعد يعزي بالعود ويقول كلام. كان معايا ورقة كتبت كل كلمة بيقولها، ووصيت رشدي وسوزان يحفظوا المقامات».

عزى بليغ «حرقة الـ آه» على عوده، وعزف على استكمال الجلسة، وهرب بالنوم لإيمانه بأن «الشكوى لله مش للبشر». وفي صبيحة الانفصال، جاء المغازي لتناول الفطار معه وهنا أخبره «أنت عملت لحن محصلش» وهو ما استغربه بليغ متسائلًا «لحن أي؟»، وكأن الحدث أفقده توازنه الذي أعاده له المغازي بـ بالورق، ورشدي وسوزان بالمقامات. قصد بليغنا غرفته وبعد نحو 4 ساعات من الانعزال خرج بعد أن رتب الكلمة واللحن وأخذ يدندن «زمان كان لينا بيت وأصحاب طيبين يبكوا لو يوم بكيت» فكان الكوبليه الذي شرحه المغازي بـ«أحاسيسه كانت بتبكينا، بالذات لما يقولنا اتخلقت عشان مفيش دمعة تنزل على عينيها وما تبكيش مرة».

تتبعت مصير الوردة في قلب بليغنا، فوجدتها تحي بينما يذبل هو. وتجلى ذلك في رسائله بالغة الوجوم عبر ميادة في كوبليهات كـ«فاتت سنة حتى الجواب منك موصلشِ» و«عندي كلام فيه العتب فيه الرضا فيه الملام». ليس ذلك فحسب، بل إنه هزم الكبرياء بداخله، وطلب من وردة أمنيته الأخيرة «بودعك». والتي تحفظت على غنائها لكآبة كلماتها، لكنها بأدب المحبين تمثلت لرغبته ووافقت. ومع البروفة الأولى وِفق الفنان، أحمد فؤاد حسن، انهمرت في البكاء داخل الاستوديو ليقم بليغ ويعانقها، في لحظة قالت عنها بعد وفاته «خوفت.. قولتله هقول للناس بودعك يا بليغ وبودع الدنيا معك».

لم تدرك وردة المعنى الباطن لـ «بودعك»، بأنها لم تكن أبدًا خرافة نابعة من سطوة حكايات الأساطير الإغريقية، بل كانت الحقيقة الوحيدة في مسار رحلته وسر وجوده.

 أو كما فهم فرانكل 

أن الإنسان، الذي لم يتبق له شيء في هذه الدنيا؛ لا يزال يعرف السعادة، ولكن للحظة قصيرة فقط، من خلال تأمله والتفكير في المحبوب.

 في موقف يحرم الإنسان من التعبير اللفظي عن نفسه بطريقة إيجابية، ويكن فيه إنجازه الوحيد هو تحمله لما يعانيه بالطريقة الصحيحة – بطريقة جديرة بالاحترام – في مثل هذا الموقف يستطيع الإنسان، من خلال تأمله الحاني للصورة التي يحملها عن المحبوب، أن يتوصل إلى مراده. الآن أغلق تطبيق الموسيقى وصفحات الإنسان الذي يبحث عن المعنى يا بليغ، لم أعد أهتم بالعثور على إجابة لأسئلتي الوجودية، يكفيني الإدراك بأن الحب وحده قد يحي وقد يميت.

أحمد مصطفى
كاتب صحفي مصري

Search