داخل غرفتها بمنزل عائلة زوجها بإحدى قرى محافظة سوهاج (قرية ناحية عامر بمركز المراغة محافظة سوهاج)، جنوب مصر، قضت عفاف أكثر من ثلاث ساعات متواصلة في محاولة تهدئة طفلها صاحب الثلاثة أشهر، الذي انفطر بالبكاء جوعًا؛ فقبل ساعات انتهت آخر علبة لبن (إيجي 1) المدعمة التي تصرفها وزارة الصحة المصرية للأم، التي لم تتمكن بسبب مرض السكري المزمن من إرضاع ابنها بشكل طبيعي، ولم تسمح لها ظروف أسرتها في الوقت ذاته من شراء ألبان إضافية، نظرًا لارتفاع أسعارها بشكل كبير جدًا وعدم قدرة الأسرة ماليًا على توفير ثمنها.
أيام طويلة تقضيها عفاف وطفلها في معاناة مستمرة، بانتظار بداية الشهر، لتتمكن من صرف دفعة جديدة من اللبن. تقول في حديثها معنا: “عادة ألجأ للأعشاب مثل. اليانسون والكراوية، لإشباع رضيعي بشكل مؤقت، لحين تدبير سعر علبة لبن إضافية، يبحث زوجي في الصيدليات عن أرخص الأنواع، ولا ننظر لقيمته الغذائية، ليست لدينا هذه الرفاهية، الغرض هو إشباع الطفل بأقل سعر. زوجي يعمل بائعًا بأحد المحلات ويتقاضى أجرًا لا يتجاوز 2500 جنيهًا، ولدي طفلة، لا تكفي أموال زوجي حتى نصف الشهر بعد خصم المواصلات ونفقات الكهرباء والمياه.”
عفاف واحدة من آلاف الأمهات اللائي يعتمدن على اللبن المدعم، الذي تصرفه وزارة الصحة شهريًا، لسد حاجة أطفالهن الرضع، وفي ضوء ارتفاع أسعار الألبان الصناعية، وعدم توافرها في الصيدليات والمتاجر في كثير من الأحيان، خاصة مع استمرار أزمة الدواء المرتبطة بأزمات الاستيراد وعدم توافر العملة الأجنبية، تبدو مهمة توفير علبة لبن للرضيع، خارج المنظومة الرسمية أمر صعب، ويستحيل على الأسر الفقيرة.
بالرغم من ذلك، قررت الحكومة المصرية، في الأسبوع الأول من ديسمبر الجاري، فرض قيود جديدة تستهدف تقليص الدعم عن منظومة صرف الألبان، وقصر المستحقين على فئات محددة للغاية، انحصرت في ثمان حالات فقط (موت الأم، أو إصابتها بمرض خطير مثل الفشل الكلوي أو الكبدي، أو أمراض تحتاج لتدخل إشعاعي مثل السرطان، أو ثبوت إصابة الأم بنوبات صرع، أو حجزها بالعناية المركزة مدة لا تقل عن ثلاثة أيام، أو ولادة طفلين توأم فأكثر ويصرف لواحد منهم فقط، أو إصابة الأم بمرض نقص المناعة المكتسب، أو تعرض الأم لمرض نفسي أو عقلي)، ما يعني خروج ملايين المستحقات خارج المنظومة، وإلغاء الدعم عنهن بشكل كامل.
وتوفر وزارة الصحة ألبان الأطفال بسعر خمسة جنيهات للعبوة الواحدة، مع حصة تصل إلى ست عبوات شهريًا لكل طفل، لكنها تشترط إجراء فحص طبي للأم من خلال لجان التقييم الموجودة في الوحدات الصحية، لتحديد الأسباب الصحية التي قد تمنع الرضاعة الطبيعية وضرورة استخدام ألبان بديلة مشابهة للبن الأم.
ويستبعد القرار الجديد حالات كانت مُستحقة لصرف ألبان صناعية لأطفالها بموجب قرار وزاري سابق، مثل. حالات ضعف إدرار لبن الأم أو توقف الأم عن الرضاعة الطبيعية، كما يتجاهل حالات أخرى تعاني فيها الأمهات من مشاكل صحية لا تندرج ضمن الشروط المحددة، ما يؤثر في النهاية على صحة الأمهات والأطفال.
ومن المفترض أن تتم ميكنة وحوكمة صرف الألبان الصناعية شبيهة لبن الأم والألبان العلاجية، التي تتضمن تسجيل المستحقين إلكترونيًا على قاعدة بيانات مركزية وفقًا للمعايير والشروط الجديدة، وتسجيل وتتبع سلاسل الإمداد للألبان ومتابعة المخزون والمنصرف، ويشير بيان صادر عن مجلس الوزراء إلى أنه تم ميكنة 251 لجنة فحص وتقييم في 21 محافظة، كما تم ميكنة 1131 منفذًا في 21 محافظة، وجار استكمال ميكنة باقي المنافذ بعدد 140 منفذًا تابعة للتأمين الصحي الشامل في ست محافظات.
من جهته، يفسر وزير الصحة خالد عبد الغفار، القرار بأنه محاولة من الحكومة لدعم “الرضاعة الطبيعية”، فضلًا عن توفير النفقات. وبحسب الوزير “تتحمل الحكومة سنويًا تكلفة توفير، 18 مليون و600 ألف عبوة من الألبان الصناعية الشبيهة بلبن الأم في المتوسط، فيما تبلغ الاحتياجات السنوية من الألبان العلاجية 750 ألف عبوة في المتوسط، في حين أن 10% فقط من الفئات التي تتلقى الدعم الحالي على الألبان تستحق، لذلك يتوجب رفع الدعم المقدم عن الـ90% المتبقية.”
إلى جانب ذلك يوضح الوزير أن “منظومة ميكنة صرف الألبان بديلة لبن الأم والألبان العلاجية تتضمن: حوكمة المنظومة وعدالة التوزيع، وضمان حصول المستحقين على الألبان بسهولة ويسر ومتابعة سلاسل الإمداد وضمان التوافر في أماكن الصرف، ومنع الممارسات السلبية حيث أثبتت المتابعة قيام بعض الأمهات بصرف اللبن لنفس الطفل من أكثر من مركز ووحدة رعاية أساسية في محافظات مختلفة كما تبين استمرار الصرف لعدد يزيد عن 200 طفل بعد وفاتهم.”
وتعد مخصصات دعم ألبان الأطفال منخفضة في موازنة الدولة مقارنة بعدد المواليد الذين يحتاجون للألبان الصناعية البديلة للبن الأم أو الألبان العلاجية سنويًا، إذ تبلغ قيمة دعم الأدوية وألبان الأطفال خمسة مليارات جنيه في موازنة العام المالي 2024/2025، مقارنة بمليار و88 مليون جنيه للعام المالي 2023/2024، ورغم الزيادة النسبية، تظل هذه المخصصات محدودة، حيث يبلغ عدد المواليد في مصر سنويًا نحو مليون و400 ألف مولود يحتاج 20% منهم للألبان الصناعية .
وتعقيبًا على القرار، تقول عضو لجنة الصحة بالبرلمان، إيرين سعيد، إلى زاوية ثالثة، إن القرار يحرم شريحة كبيرة من الفئات المستحقة للدعم، ويحرم الأطفال الرضع من حقوقهم الأساسية في الحصول على تغذية سليمة.”
تؤكد النائبة أن هناك العديد من الحالات الصحية التي تحول بين الأم والرضاعة الطبيعية، تجَاهَلها القرار، منها اضطرابات هرمونية مثل. نقص هرمون البرولاكتين ومشاكل الغدة الدرقية وتكيس المبايض، إضافة إلى جراحات الثدي السابقة التي تعيق إنتاج الحليب، مشيرة إلى وجود أمراض مزمنة مثل. السكري غير المسيطر عليه وفقر الدم الشديد، واستخدام بعض الأدوية التي تمنع إنتاج الحليب، مؤكدة أن التوتر النفسي والاكتئاب بعد الولادة قد يؤثران أيضًا على إفراز الحليب، فضلاً عن مشاكل الولادة المبكرة وسوء تغذية الأم.
وكانت إيرين قد تقدمت بطلب إحاطة عاجل لمناقشة القرار داخل مجلس النواب، تساءلت خلاله: “هل عجزت وزارة الصحة عن توفير الألبان المدعمة؟ وهل تستطيع الأسر تحمل تكاليف الألبان في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة؟”، وقالت إن “القرار أربك الكثيرين ودفع العاملين بالوحدات الصحية للامتناع عن فحص السيدات، أو صرف من صَدر لهم قرار مسبق بالصرف؟”، داعية إلى مناقشة هذا القرار داخل لجنة الصحة بمجلس النواب لضمان حماية حقوق الأطفال والأسر المصرية.
نوصي للقراءة: مصر: رفع الدعم يعمق الفجوة بين الأجور والأسعار
أطفال مهددون
تصف أمهات تحدثن إلى زاوية ثالثة من عدة محافظات، قرار الحكومة بأنه “حكم على الأطفال بالموت جوعًا”، خاصة أن الظروف الاقتصادية التي تُعايشها معظم الأسر في مصر لا تسمح بشراء ألبان صناعية للرُضّع. في قرية طهواي بمركز أشمون محافظة المنوفية، تعيش نوره القبيصي – أم لرضيع يبلغ من العمر أربعة أشهر-، تعتمد كليًة على ألبان الأطفال الصناعية التي تحصل عليها من الوحدة الصحية القريبة.
تقول في حديثها معنا: “ابني وُلد مبكرًا، ومع ضعف لبني الطبيعي ثم انقطاعه بسبب إصابتي بفقر الدم (الأنيميا)، مثّل اللبن الصناعي الحل الوحيد لإنقاذ حياته، تقدمت بطلب للوحدة الصحية وبالفعل أذهب كل شهر للحصول على الحصة المدعومة (ست علب من نوع إيجي 1)، ومع ذلك، أحيانًا لا تكفي، لذلك أضطر لشراء علبة من الصيدلية، كانت بنحو 200 جنيه ثم زاد سعرها مؤخرًا إلى نحو 300 جنيه، وهذا يمثل عبء كبير علينا.”
تشعر السيدة الثلاثينية بالخوف والصدمة نتيجة الأخبار التي تشير إلى احتمال رفع الدعم عن ألبان الأطفال. تقول: “إذا حدث ذلك، فلن أتمكن من توفير الحليب لابني، نحن بالكاد نجد قوت يومنا، زوجي يعمل بالأجر اليومي، ونحن غارقون في الديون، إذا رُفع الدعم، فهذا يعني أنهم يحكمون على أطفالنا بالموت.”
تؤكد معاناة الأمهات في قريتها، وتضيف: “هناك العديد من الأمهات في القرية يواجهن المشكلة نفسها، معظمنا يعيش في فقر ولا نملك أي بديل، أرجو من المسؤولين أن يفكروا في أطفالنا قبل اتخاذ مثل هذا القرار”.
في مدينة الأقصر بقرية العديسات القبلية بمركز الطود، تكافح فاطمة – أم لطفل حديث الولادة-، لتوفير قوت يومها من خلال بيع الخضراوات في السوق، تعيش في ظروف معيشية قاسية وتعتمد بشكل أساسي على اللبن المدعوم الذي توفره الوحدة الصحية لتغذية طفلها. تقول: “الحياة صعبة جدًا، واللبن المدعوم من الوحدة الصحية يعينني في تغذية ابني. عندما سمعت أن الوزارة قد ترفع الدعم عن اللبن، شعرت أن الحياة تغلق أبوابها في وجهي.”
وتشرح فاطمة معاناتها اليومية في ظل التكاليف الباهظة للحياة: “علبة اللبن في الصيدلية تكلف 270 جنيهًا على الأقل، بينما دخلي لا يكفي لتغطية مصاريف البيت، وابني يحتاج إلى اللبن يوميًا، وإذا اضطررت لشرائه بالسعر هذا، لن أتمكن من توفير المال لنعيش”، وتؤكد أن الألبان الصناعية ليست رفاهية أو خيارًا إضافيًا، بل ضرورة لا غنى عنها لبعض الأمهات اللاتي لا يستطعن الرضاعة الطبيعية لأسباب صحية أو ظروف خاصة.
تضيف: “ليست كل أم تستطيع أن ترضع طفلها طبيعيًا، أحيانًا المرض أو الظروف تجبرنا على اللجوء إلى اللبن الصناعي، ورفع الدعم سيكون حكمًا بالموت على الأطفال مثل ابني.”
وفقًا لأحدث البيانات المتاحة، بلغت نسبة الفقر في مصر 29.7% خلال العام المالي 2019/2020، وهي الفترة التي سبقت تخفيض البنك المركزي لقيمة الجنيه مقابل الدولار أربع مرات، ومع تزايد الأزمات الاقتصادية، أشار البنك الدولي إلى أن نسبة الفقر ارتفعت إلى 32.5% في عام 2022، ويحدد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في أحدث تقاريره خط الفقر عند 857 جنيهًا شهريًا، أي ما يعادل عشرة آلاف و279 جنيهًا سنويًا، أما خط الفقر المدقع فقد بلغ 550 جنيهًا شهريًا وستة آلاف و 604 جنيه سنويًا، ما يعكس الضغوط الاقتصادية المتزايدة التي تواجه الأسر المصرية. ولم يعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن تحديثات حول إحصائيات الفقر في مصر خلال 2024 بعد، لكن تقديرات خبراء الاقتصاد تشير إلى أنه من المتوقع أن يتجاوز 1400 جنيه شهريًا للفرد نتيجة التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة مقارنة بآخر تقديرات في 2020، بحسب بيانات شركة كابيتال للاستشارات المالية.
في سياق متصل، تقول سعاد إبراهيم – أم لثلاثة أطفال، من مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة-، إنها تواجه تحديات كبيرة لتوفير احتياجات أسرتها، إذ يعمل زوجها كفلاح بسيط، ودخله الشهري بالكاد يغطي المصاريف الأساسية.
مع ولادة طفلها الأخير، تضاعفت الأعباء، إذ وُلد بوزن منخفض، ونصحها الطبيب باستخدام اللبن الصناعي لتحسين حالته الصحية، وبالتالي بدأت تحصل على اللبن المدعوم من الوحدة الصحية، لكنه لا يكفي احتياجاته طوال الشهر، ما يضطرها لشراء عبوات إضافية من السوق.
وتلفت سعاد في حديثها معنا إلى الارتفاع الحاد في أسعار اللبن الصناعي: “سعر العلبة في السوق أصبح جنونيًا، ونلجأ إلى الاستدانة لتوفير احتياجات الطفل، إذا تم رفع الدعم عن اللبن الصناعي، سنواجه أزمة كبيرة ولن نتمكن من تغطية هذه التكاليف. نحن نعيش في ظل ارتفاع أسعار كل شيء، والأطفال ليس لهم ذنب في هذا، نطلب من الحكومة أن تعيد النظر في أي قرار يمس الدعم، لأن هذا يتعلق بمستقبل أطفالنا.”
في حي عين شمس بالقاهرة، تحمل سلمى عبء تربية طفليها بمفردها بعد وفاة زوجها، تقول: “ابنتي الصغيرة عمرها شهران، وأنا لا أستطيع إرضاعها طبيعيًا بسبب مشكلات صحية، اللبن الصناعي هو الخيار الوحيد لإطعامها.”
وتضيف: “الدعم الحكومي لا يغطي احتياجات طفلها: “نحصل على ثلاث علب مدعومة شهريًا، لكنها لا تكفي، أضطر لشراء علب إضافية من السوق بسعر مرتفع جدًا. قبل أيام أخبرتني جارتي التي تعمل بالوحدة الصحية أنه سيتم وقف صرف لبن رضيعتي وفق القرار الجديد، أين نذهب؟ “نحن لا نطلب الكثير، فقط الحد الأدنى من الرعاية لأطفالنا، إذا كانت الحكومة تفكر في تقليل الدعم، فعليها توفير بدائل حقيقية للأسر الأكثر احتياجًا.”
بمراجعة خمس صيدليات تم التواصل معهم هاتفيًا فضًلا عن سبعة مواقع إلكترونية لصيدليات ومتاجر إلكترونية تبيع ألبان الأطفال إلى جانب سؤال عشرة أمهات من محافظات مختلفة عن أسعار الألبان، رصدت زاوية ثالثة ارتفاعات ملحوظة في أسعار ألبان الأطفال في الآونة الأخيرة. على سبيل المثال، ارتفع سعر عبوة حليب الأطفال “هيرو بيبي” من 224 جنيهًا إلى 454 جنيهًا، بزيادة قدرها 102%، وعبوة “بيدياميل” من 181 جنيهًا إلى 349 جنيهًا، بزيادة 92%، و”بيبيلاك” بتركيزاته الثلاثة من 185 جنيهًا إلى 300 جنيه، بزيادة 62%، و”بدياشور” من 262 جنيهًا إلى 422 جنيهًا، بزيادة 61%، و”سويسلاك” من 230 جنيهًا إلى 274 جنيهًا، بزيادة 19%، وعبر بعض متاجر الصيدليات الكبرى، يتوفر حليب الأطفال “نان اوبتيبرو” المرحلة 1 (0 – ستة أشهر) بوزن 800 جرام بسعر 545 جنيهًا، وحليب الأطفال “س -26 جولد” المرحلة 1 بوزن 900 جرام بسعر 619 جنيهًا.
نوصي للقراءة: تخوفات من إلغاء الدعم العيني.. ما الذي ينتظر الأسر الفقيرة في مصر؟
لماذا اتخذت الحكومة هذا القرار؟
يقول المدير التنفيذي للمركز المصري للحق في الدواء، محمود فؤاد، في حديثه مع زاوية ثالثة إن وزير الصحة عرض أمام وسائل الإعلام بيانًا، أوضح فيه أسباب اتخاذ الحكومة لهذه الخطوات، مشيرًا إلى أن الهدف هو القضاء على الفساد في توزيع الألبان، وتشجيع الرضاعة الطبيعية وفق تعليمات منظمة الصحة العالمية، مبينًا أن مصر تنفق ما يقارب مليار دولار سنويًا على ألبان الأطفال، لكن ما ورد في تصريحات الوزير يمكن الرد عليه بسهولة.
بحسب فؤاد، الحديث عن الفساد في توزيع الألبان ليس جديدًا، إذ يعد مشكلة ممتدة منذ نحو 20- 30 عامًا، ويضيف: “نحن نتحدث عن ألبان الأطفال التي تجدها في أماكن مثل المقاهي ومصانع الحلوى التي تعمل بطرق غير قانونية، فإذا كان هناك فساد في التوزيع، لماذا لم يتم القضاء عليه حتى الآن؟ الحكومة تدّعي أنها اعتمدت على الرقمنة والميكنة، والتي من المفترض أن تمنع هذه الممارسات، ومع ذلك، نرى أن الفساد مستمر، وما زلنا نسمع عن وجود فواتير وهمية، فلماذا لم تحل الرقمنة هذه المشكلة؟”
ويتابع: “من ناحية أخرى، القرار بإلغاء اختبار “لبن السكر” الذي كانت الأمهات تخضع له لتحديد احتياجهن للألبان الصناعية غير مفهوم، هذا الاختبار كان يضمن توجيه الألبان إلى من يحتاجها فعليًا، مثلًا، إذا كانت الأم تعمل لساعات طويلة كممرضة أو في مهن تتطلب وقتًا كبيرًا، كان يتم صرف الألبان لها، أما الآن، فقد ألغت الحكومة هذا الحق تمامًا.”
وينوه مدير المركز المصري للحق في الدواء إلى أن الحكومة أشارت إلى أن الألبان ستُخصص فقط لحالات محددة مثل. الأمهات المصابات بأمراض خطيرة كالأورام أو الفشل الكبدي والكلوي، أو الأمهات المتوفيات، لكن الواقع أن مثل هذه الحالات نادرة، والأغلب أن الأمهات في حاجة إلى هذه الألبان بسبب ظروف العمل أو ضعف إدرار الحليب، متسائلًا: “لماذا لم يتم الإبقاء على الاختبار وتحديد المستحقين بدقة؟”
ويوضح أن مصر تسجل حوالي مليون و600 ألف مولود سنويًا، ولا توجد أرقام دقيقة تحدد عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى الألبان الصناعية، لكن وفق خبراء جمعيات الأطفال فإن النسبة تتراوح بين 15-20% فقط، أي أن عدد المستحقين ليس كبيرًا، إذا كانت الحكومة تهدف إلى تقليل الإنفاق، كان يمكنها توفير الألبان فقط للمرحلة الأولى من عمر الطفل، خاصة للأمهات العاملات اللواتي يساهمن في خدمة المجتمع، لكن يبدو أن الهدف الحقيقي من هذه الإجراءات هو تقليل الإنفاق الصحي تنفيذًا لتعليمات صندوق النقد الدولي.
يرى “فؤاد” هذا الاتجاه واضحًا من خلال زيادة رسوم الخدمات الصحية، مثل رفع أسعار تذاكر الكشف بالمستشفيات، وتحديد صرف دواء واحد فقط للمريض، وزيادة أسعار التأمين الصحي. “الآن، امتد الأمر إلى تقليل الدعم المخصص للرضاعة الصناعية، تحت مبررات مثل مكافحة الفساد.”
بحسب مدير المركز المصري للحق في الدواء، شهدت أسعار إحدى أنواع حليب الأطفال المستوردة زيادة حادة بنسبة 250% في غضون عام واحد، إذ تجاوزت بعض الأسعار حاجز الـ 900 جنيه، ولذلك يطالب الحكومة بأن تكون أكثر شفافية في قراراتها، وأن تضع حلولًا عملية مثل. الرقمنة والميكنة لضمان وصول الدعم لمستحقيه، بدلًا عن فرض أعباء جديدة على الأسر المصرية، يجب أن تكون مصلحة المواطن هي الأولوية، لا تقليل النفقات على حساب حقوقه الأساسية.
ويكفل الدستور المصري في مادته رقم (80) حق الطفل في الحصول على غذاء مناسب، وتنص على أنه “يعد طفلاً كل من لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، ولكل طفل الحق في اسم وأوراق ثبوتية، وتطعيم إجباري مجاني، ورعاية صحية وأسرية أو بديلة، وتغذية أساسية، ومأوى آمن، وتربية دينية، وتنمية وجدانية ومعرفية.”
نوصي للقراءة: بعد رفع أسعار الوقود.. هل تتجه مصر نحو التضخم؟
أزمة لبن الأطفال: عرض مستمر
تواجه السوق المصرية أزمة نقص في حجم المعروض من لبن الأطفال بنسبة تتراوح بين 25-30% خلال العام الجاري 2024، وذلك نتيجة لتغيير الشركة الأجنبية التي كانت تسيطر على الحصة السوقية الأكبر لهذا المنتج، بسبب تعثر وكيلها الحالي في مصر، ووفقًا لمسؤولين تحدثوا لوسائل إعلام أجنبية، فإن هذه الأزمة مؤقتة، وأنه سيتم زيادة حجم المعروض في الفترة المقبلة، مع استبعاد افتعال الأزمة لصالح الشركات المحلية المنتجة للبن الأطفال.
وفي أبريل الماضي قال رئيس شعبة الأدوية بالاتحاد العام للغرف التجارية، علي عوف، لـ(CNN) إن هناك نقصا في حجم المعروض من لبن الأطفال في السوق المصرية، مرجعًا السبب إلى تغيير الشركة الأجنبية الموردة للبن الأطفال الأكثر مبيعًا والمعروف باسم “بيبيلاك” لموزعها في مصر بعد التعثر المالي للوكيل الحالي، مما أدى إلى فجوة في حجم المعروض.
هذا التغيير أدى، بحسب عوف، إلى فجوة في حجم المعروض في السوق المصرية، لكن ربما تنفرج الأزمة خلال الأيام المقبلة بعد أن بدأ الوكيل الجديد في استيراد شحنات جديدة، في حين تحاول الشركات المنافسة زيادة حجم وارداتها لتغطية الفجوة الحالية، في الواقع، طرحت إحدى الشركات الخاصة شحنة جديدة من لبن الأطفال في السوق مؤخرًا.
وبيبلاك هي أحد خطوط الإنتاج التابعة لشركة دانون العالمية، وأنتجت أول منتج في مصر “بيبي لاك” في عام 1960، وأنشأت مصنعها في مصر عام 2006، وتنتج (زبادي دانون، دانيت، أكتيفيا، ودانجو) وتغذية الحياة المبكرة (بيبيلاك وأبتاميل).
ويقول عوف إن مصر تشهد معدل استهلاك مرتفع جدًا من لبن الأطفال، ويصل متوسط الاستهلاك السنوي إلى 50 مليون علبة، مضيفًا أن سوق ألبان الأطفال في مصر ينقسم بالتساوي تقريبًا بين وزارة الصحة وشركات القطاع الخاص، إذ تقوم وزارة الصحة بتوزيع 25 مليون علبة سنويًا على الأسر المستحقة، بسعر منخفض جدًا يصل إلى خمسة جنيهات للعلبة، رغم أن تكلفة إنتاجها تتجاوز 150 جنيهًا بينما تستورد أربع شركات كبرى 25 مليون علبة أخرى لتوزيعها بأسعار حرة تصل إلى أكثر من 300 جنيه للعلبة.
ويعزي عصام عبد الحميد – وكيل نقابة صيادلة مصر- الأزمة بالأساس إلى عدم توافر الدولار منذ فترة. يقول في حديثه إلى زاوية ثالثة إن غالبية الألبان الخاصة بالأطفال في مصر مستوردة، وحتى فترة قريبة كان هناك أربع شركات تقوم بعمليات الاستيراد، لكن الحكومة بدأت الانتباه للموضوع خلال السنوات الماضية مع الزيادات الكبيرة في أسعار الألبان وعدم توافرها، مثلا زادت بعض الأصناف من 50 جنيهًا إلى 200 جنيهًا بشكل تدريجي متأثرة بالتغيرات الكبيرة بسوق الصرف.
ويرى أن خروج إحدى الشركات الأربعة أو زيادة شركة، لا يؤثر بشكل كبير على سوق الدواء والألبان بشكل كبير، خاصة أن الشركة المصرية لتجارة الأدوية بدأت بتوفير ألبان مثل “البيبلاك”، وتم توفيره بمنافذ البيع، لكن الأزمة الحقيقية في ارتفاع أسعار الألبان ترتبط بارتفاع أسعار النقد الأجنبي، على حد تقديره.
ويضيف وكيل الصيادلة: “من يضع أسعار الألبان هي الشركات المستوردة من الخارج لذلك يتأثر السوق مباشرة بتغير سعر الدولار”. ويوضح أن قرار وزارة الصحة الأخير يرتبط بالأساس بتشديد الرقابة بشكل أكبر على صرف الألبان، من خلال وضع مجموعة من الضوابط قد تكون شكليًا متشددة لكن الهدف منها قصر صرف الألبان للمستحقين، ومن الطبيعي أن تحدث أزمة كون كمية الألبان التي يتم صرفها من خلال منافذ وزارة الصحة كانت تساعد المواطنين بالحصول على اللبن بأسعار تتوافق مع ظروفهم الاقتصادية لكن الموضوع اليوم بات مختلفًا، ولن يتمكنوا من ذلك.
وبسؤاله عن البدائل أمام الحكومة، لتوفير الألبان وعدم التضييق على الفئات الأشد احتياجًا، يقول وكيل نقابة الصيادلة، إنه “تم اقتراح إنشاء مصنع محلي للألبان على الحكومة منذ عشر سنوات من جانب النقابة، وكانت المشكلة إن المصنع كان يفترض أن يبيع نحو 50-60 مليون عبوة سنويًا لتغطية التكاليف، فضلًا عن تصدير جزء للدول الأوروبية، لكن المشكلة أنه لا توجد مراعي في مصر تسمح بخروج ألبان بدون مشكلات.
هذه الأزمة ليست الأولى من نوعها، إذ سبق لمصر أن واجهت أزمة مماثلة قبل سبع سنوات، تزامنت مع زيادة أسعار لبن الأطفال في السوق، في ذلك الوقت، تدخل جهاز الخدمة الوطنية التابع للجيش المصري لاستيراد كميات كبيرة من لبن الأطفال من الخارج، وتم طرحه في السوق بأسعار مخفضة تصل إلى 50% من السعر الأصلي، كما استحوذ الجهاز على شركة “لاكتو مصر”، وهي الشركة الوحيدة المنتجة للبن الأطفال محليًا، وعمل على مضاعفة حجم إنتاجها لتلبية احتياجات وزارة الصحة من هذا المنتج.
وفقًا لبيان رسمي صادر عن رئاسة الجمهورية في أبريل عام 2022، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي، شركة “لاكتو مصر”، والتي تمتلك أكبر مصنع لإنتاج لبن الأطفال محليًا، بتطوير طاقتها الإنتاجية المحلية من لبن الأطفال، لتغطية الاحتياجات المحلية وسد فجوة الاستيراد، وفي عام 2023 شهدت مصر أزمة جديدة بسبب نقص المعروض من ألبان الأطفال، إذ ارتفعت الأسعار بشكل غير مسبوق بسبب تعثر الشركات الموزعة، ما أدى إلى انقطاع بعض العلامات التجارية الشهيرة من السوق لفترة.
وفي نوفمبر الماضي، ذكر بيان صادر عن وزارة الصحة أن شركة “لاكتو مصر” المتخصصة في إنتاج حليب الأطفال والمواد الغذائية، ستركز على التوسع في إنتاج ألبان الأطفال في مرحلتيه الأولى والثانية، في خطوة تهدف إلى تأمين كافة احتياجات الأطفال من الألبان الصناعية، كما ستعمل الحكومة جذب الاستثمارات الأجنبية والتعاون مع القطاع الخاص من أجل التوسع في صناعة المنتجات الغذائية الخاصة بالأطفال، بحسب البيان.
وتظل أزمة ألبان الأطفال في مصر إحدى القضايا الصحية والاقتصادية الهامة التي تتطلب تدخلات شاملة ومستدامة من الحكومة والقطاع الخاص، وللحفاظ على صحة الأطفال وتلبية احتياجاتهم الغذائية الأساسية، ينبغي تعزيز استراتيجيات الإنتاج المحلي، وتطوير آليات توزيع عادلة وفعالة، إضافة إلى توفير الدعم المستمر للأسر ذات الدخل المحدود، ويعد توفير ألبان الأطفال بجودة وسعر مناسب يعتبر أولوية صحية واجتماعية، ويتطلب تضافر الجهود بين كافة الأطراف المعنية لضمان استقرار السوق وتلبية احتياجات الأطفال في مصر.