تلجأ بعض الحكومات وشركات الاتصالات إلى حجب مواقع إلكترونية لدواعٍ سياسية أو اجتماعية أو أمنية، مما يثير جدلًا حول تأثير هذه السياسات على الحقوق والحريات العامة. حجب المواقع عملية معقدة تنطوي على تكلفة مالية وتقنية قد تكون مرتفعة، خاصة عند تطبيقها على نطاق واسع. في حالة الدول التي تلجأ إلى إجراءات تقشفية أو تخفيض دعم الشرائح الأكثر احتياجًا، تبدو كلفة الحجب أكثر إثارة للتساؤل، إذ لا تقتصر تبعاته على النيل من صورة الدولة خارجيًا، بل تمتد إلى التكاليف المباشرة التي قد تصل إلى عشرات الآلاف من الدولارات سنويًا، وترتفع بزيادة عدد المواقع المستهدفة بالإغلاق.
تُقدَّر أعداد المواقع الصحفية المحجوبة في مصر بالمئات، إذ تشير تقارير موثوقة إلى أن السلطات المصرية حجبت نحو 424 موقعًا على الأقل بحلول سبتمبر 2017، وارتفع العدد إلى أكثر من 500 موقع بحلول عام 2019. واستمر الحجب خلال الأعوام التالية ليشمل عشرات المواقع الإضافية حتى عام 2025، ليصل إجمالي المواقع المحجوبة إلى 600 موقع. وتشمل هذه القائمة 126 موقعًا صحفيًا وقناة تلفزيونية، بالإضافة إلى مواقع بروكسي (Proxy)، وشبكات افتراضية خاصة (VPN)، فضلًا عن مواقع حقوقية وسياسية.
ومن أبرز المواقع الصحفية والإخبارية المحجوبة، موقع قناة الجزيرة، موقع مدى مصر، بالإضافة إلى موقع المنصة، ومؤخرًا منصة زاوية ثالثة، إلى جانب عدد آخر من المواقع الإخبارية. كما طالت إجراءات الحجب منظمات حقوقية ومواقع غير حكومية، مثل المفوضية المصرية للحقوق والحريات، ومنظمة مراسلون بلا حدود، بالإضافة إلى مواقع إلكترونية تقدم خدمات لتجاوز الحجب، مثل متصفح تور (Tor Browser) ومواقع VPN وبروكسي المختلفة.
تُنفَّذ عمليات حجب المواقع عادةً عبر جميع مزودي خدمة الإنترنت في مصر، بناءً على تعليمات مركزية تصدر للجهات المعنية. وتُبرر الحكومة هذه الإجراءات بأنها تهدف إلى مكافحة دعم الإرهاب والتطرف ومنع نشر الأفكار الإرهابية، بحسب التصريحات الرسمية. غير أن هذه العمليات تفتقر إلى الشفافية، إذ لا تُعلن السلطات عن الجهات التي تصدر قرارات الحجب، ولا توجد آليات واضحة أو معلنة تتيح لأصحاب المواقع الاعتراض أو الطعن في هذه القرارات.
نوصي للقراءة: بيان من زاوية ثالثة: عن الحجب، الصحافة، وحق الجمهور في المعرفة
رقابة على تدفق المعلومات
يُعرَّف حجب المواقع، في أبسط صوره، بأنه منع الوصول إلى مواقع الإنترنت أو خدماتها عبر الشبكة، ويتم عادةً بواسطة مزوّدي خدمة الإنترنت أو السلطات الحكومية أو إدارات الشبكات المحلية. ويُعد الحجب أحد أشكال الرقابة على الإنترنت، حيث يُمنع المستخدمون من زيارة مواقع محددة لأسباب سياسية، أمنية، قانونية، أو اجتماعية.
وبحسب دراسة نشرها الباحث المختص بالتكنولوجيا محمد طاهر عبر موقع (سمكس)، تشترك غالبية الدول العربية في استخدام تكتيكات متشابهة لحجب المواقع وتصفية المحتوى الرقمي، وأحيانًا تلجأ إلى نفس البرامج والمعدات لتحقيق هذا الغرض. وتتراوح هذه الأساليب بين تقنيات تقليدية وأخرى أكثر تطورًا، إلا أن الهدف المشترك بينها جميعًا يبقى التحكم في تدفق المعلومات والوصول إلى المحتوى.
وتتنوع أبرز تقنيات الحجب إلى أربعة أنماط رئيسية: حجب عنوان بروتوكول الإنترنت (IP Address)، عبر منع تدفق البيانات من وإلى عنوان أو منفذ معين، وهي طريقة قد تكون محدودة الفعالية نتيجة إمكانية تغيّر عنوان IP من قبل أصحاب المواقع؛ والحجب عبر نظام أسماء النطاقات (DNS)، حيث يُعيد مزوّد الخدمة توجيه طلبات المستخدمين بتقديم معلومات خاطئة، مما يحول دون الوصول إلى الموقع؛ بالإضافة إلى تقنية الفحص العميق لحزم البيانات (Deep Packet Inspection)، التي تتيح تحليل حركة البيانات تفصيليًا، بما يسمح بحجب المحتوى استنادًا إلى نوعه أو طبيعته.
ورغم أن الحجب قد يُقدَّم كإجراء قانوني في إطار مكافحة الإرهاب أو مواجهة الخطاب المتطرف والتحريضي، إلا أن توسيع نطاق استخدامه في مصر يثير انتقادات حقوقية متواصلة. إذ يرى مراقبون أن الحجب تحوّل إلى أداة سياسية وأمنية تُستخدم للحد من وصول معارضي السلطة إلى الفضاء الرقمي.
نوصي للقراءة: زاوية ثالثة.. نافذة تُحجب مرتين وإدانة دولية من 33 منظمة وجامعة ماكجيل الكندية
تكلفة حجب موقع إلكتروني واحد مقابل حجب عدة مواقع
من الناحية التقنية البحتة، حجب موقع إلكتروني واحد يمكن تحقيقه بإحدى الطرق البسيطة (مثل حجب نطاقه عبر DNS أو عنوانه IP) وبتكاليف محدودة جدًا أو شبه معدومة إذا كان لدى مزود الخدمة بنية تحتية جاهزة للفلترة. فعلى سبيل المثال، حجب منصة تواصل اجتماعي واحدة بقرار حكومي قد لا يتطلب أكثر من توزيع قائمة بسيطة على مزودي خدمات الإنترنت لإضافتها إلى أنظمة الحجب لديهم. الكلفة الأساسية هنا تكون في إعداد أنظمة الحجب (إن لم تكن موجودة مسبقًا) وليس في إضافة الموقع نفسه. أي أن التكلفة الحدية لإضافة موقع آخر إلى قائمة الحجب ضئيلة مقارنة بالتكلفة الثابتة لإنشاء نظام الحجب من الأصل.
بالمقابل، حجب عدة مواقع أو عدد كبير من المواقع يستدعي استثمارات أكبر تراكميًا. فعلى الرغم من أن إضافة كل موقع جديد إلى قائمة الحظر قد يكون بحد ذاته قليل الكلفة، إلا أن اتساع رقعة الحجب يفرض تحديات إضافية: إدارة قوائم طويلة من المواقع والمجالات المحظورة، تحديثها المستمر مع تغير عناوين المواقع أو ظهور مواقع بديلة، ومراقبة محاولات التحايل. مع ازدياد عدد المواقع، تزداد حاجة الجهة الحاجبة إلى موارد بشرية وتقنية لمتابعة الوضع. مثلاً، في الصين حيث يتجاوز عدد المواقع المحجوبة 100 ألف موقع، لا يكفي الحل البسيط، بل تم بناء منظومة كاملة (جدار الحماية العظيم) لمراقبة حركة الإنترنت على مستوى قومي. كذلك في روسيا، أدى التوسع في قائمة المواقع المحظورة إلى تبني نظام رقابة آلي (TSPU) باستخدام أجهزة DPI موزعة لتطبيق الحجب على نطاق واسع.
هناك أيضًا تأثير غير مباشر: حجب موقع واحد غالبًا لا يثير انعكاسات اقتصادية كبيرة أو ردود فعل تقنية معقدة، بينما حجب مجموعة كبيرة من المواقع (خاصة لو كانت منصات مهمة أو كثيرة المستخدمين) قد يؤثر على أداء شبكة الإنترنت بشكل عام ويستلزم حلولًا لتقليل الأضرار الجانبية (مثل إبطاء سرعة الإنترنت أو حجب خدمات مشروعة مشتركة في نفس المنصات). معالجة هذه الآثار قد تضيف تكلفة إضافية. على سبيل المثال، عندما حجبت روسيا تطبيق تليغرام في 2018 عبر حجب ملايين عناوين IP لخوادم سحابية، أثر ذلك سلبًا على خدمات أخرى وتتطلب جهودًا وتصحيحات للتخفيف من الحجب المفرط – ما يمثل تكلفة إضافية غير مباشرة (سواء كخسائر خدمة أو كنفقات فنية لمعالجتها).
بشكل موجز، بناء هيكلية حجب شاملة هو الجزء المكلف. بعد بنائها، يتسع نطاق الحجب (من موقع إلى مواقع متعددة) بزيادة أقل نسبيًا في التكلفة، لكنها ليست صفريّة: فكلما زاد المحتوى المحظور زادت متطلبات تحديث الأنظمة وملاحقة تكتيكات التفاف المستخدمين على الحجب.
في الصين: الرقابة جزء أساسي من بنية الإنترنت منذ البداية. أنفقت الحكومة مبالغ طائلة على مشروع جدار الحماية العظيم ومنظومة الرقابة الشاملة. قُدّرت التكلفة الأولية لبناء جدار الحماية العظيم (بين 1998 و2003) بأكثر من 100 مليون دولار أمريكي، منها 60 مليون دولار خصصت لمكونات الفلترة نفسها. ولم تتوقف النفقات عند هذا الحد؛ إذ أن صيانة وتحديث معدات الرقابة عملية مستمرة تتطلب إنفاقًا متواصلًا. مع تطور تقنيات الإنترنت، تحتاج أجهزة وبرمجيات الفلترة للتحديث باستمرار للحفاظ على فعاليتها، مما يجعل برامج الرقابة عبئًا ماليًا دائمًا على الجهات المشرفة. بالإضافة إلى ذلك، استثمرت الصين في مراقبة المحتوى المحلي عبر مشروع الدرع الذهبي (المعني بمراقبة النشاط داخل الصين)، وقد قدّرت مجلة الإيكونوميست أن كلفة هذا المشروع تجاوزت 1.6 مليار دولار بحلول عام 2013 . وتشمل هذه المنظومة أيضًا كلفة بشرية ضخمة، حيث تستخدم السلطات أكثر من مليوني شخص لمراقبة المحتوى على الشبكات الاجتماعية وغيرها. هذه الأرقام تبين أن الحفاظ على السيادة السيبرانية وفق النموذج الصيني يتطلب موارد مالية وبشرية هائلة.
في روسيا، حتى عام 2019، اعتمدت الرقابة الروسية على قوائم سوداء تُلزم بها مزودي الخدمة لحجب مواقع محددة (عبر DNS أو IP). لم يكن لدى روسيا جدار ناري مركزي مماثل للصين، مما جعل كفاءة الحجب محدودة نسبيًا. منذ 2019، وتحديدًا بعد قانون “الإنترنت السيادي”، بدأت روسيا ببناء بنية تحتية رقابية أكثر تقدمًا. تُلزم السلطات جميع مزودي خدمات الإنترنت بتركيب صناديق وأجهزة TSPU (وهي معدات رقابة وفحص عميق محلية الصنع) على شبكاتهم. هذه المبادرة تطلبت استثمارات ضخمة من قبل الدولة: وثيقة حكومية في 2024 كشفت خطة لإنفاق حوالي 60 مليار روبل (660 مليون دولار) بين 2025 و2030 من ميزانية الدولة لتحديث نظام الرقابة هذا وتطوير أجهزة وبرمجيات جديدة له. بلغت ميزانية الهيئة المنظمة للإعلام روسكومنادزور لعام 2023 حوالي 32.15 مليار روبل (354 مليون دولار)، مما يعني أن مشروع الرقابة TSPU يمثل إنفاقًا إضافيًا كبيرًا على الميزانية. ورغم أن القانون فرض على شركات الاتصالات تركيب الأجهزة (ما يعني ضمنيًا تحملها بعض التكلفة التشغيلية)، فإن الحكومة الروسية تحملت وتمول الجزء الأكبر من شراء المعدات وتطويرها. في البداية أبدت بعض الشركات ترددًا بسبب كلفة تركيب هذه الأجهزة، حيث وُصف أنها معدات مكلفة فرضت على المشغلين، لكن الدولة ضغطت عبر التشريعات (وفرض غرامات على من لم يمتثل) مما أدى إلى نشر واسع لهذه المنظومة. الخلاصة أن روسيا انتقلت إلى نموذج استثمار حكومي مركزي لتحديث الرقابة والحجب، مشابه في بعض الجوانب للصين وإن كان بموارد أقل.
ما تكلفة الحجب في مصر؟
طرحت زاوية ثالثة سؤال تكلفة حجب المواقع على خمسة مختصين ومصدرين رسميين، إلا أن أيا منهم لم يقدم إجابة محددة، ما يعكس الضبابية الشديدة التي تحيط بآليات الحجب والجهات المنفذة لها. أمام هذا الغموض، تتبع فريق التحقيق طبيعة التكنولوجيا المستخدمة وتقديرات التكلفة المالية المرتبطة بتوسيع نطاق الحجب، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها مصر.
اضطرت الحكومة المصرية إلى استثمار مبالغ كبيرة في إنشاء وتشغيل أنظمة حجب المواقع على شبكة الإنترنت.في عام 2012 نشرت جريدة اليوم السابع خبرًا مفاده أن أن التكلفة المبدئية المطلوبة لكي تتمكن الدولة من حجب المواقع الإباحية تتراوح ما بين 70 إلى 100 مليون جنيه مصري. ورغم مرور الزمن وتطوّر التكنولوجيا، لا تزال عمليات الحجب واسعة النطاق مكلفة ماليًا وتتطلب موارد كبيرة. فعلى سبيل المثال، كشفت تقارير حديثة أن السلطات المصرية تستخدم تقنيات تفتيش حزم البيانات العميق (Deep Packet Inspection – DPI) لاعتراض الاتصالات وفرض الرقابة على الإنترنت. وقد تعاقدت الحكومة مع شركات أجنبية متخصصة لتوفير هذه التقنية، ومن أبرزها شركة ساندفاين (Sandvine) الكندية التي زوَّدت مصر بأجهزة DPI استخدمت في حجب مئات المواقع وتعقّب أنشطة المعارضين. وعلى الرغم من عدم الإفصاح رسميًا عن قيمة هذه العقود التقنية، فإن حجم التعاملات يوحي بتكاليف عالية؛ فقد أعلنت شركة ساندفاين نفسها في عام 2024 إنهاء شراكتها مع الحكومة المصرية وسحب تقنياتها إثر جدل حول استخدام منتجاتها في انتهاكات حقوق الإنسان. ويشير ذلك إلى أن الحكومة كانت قد أنفقت مبالغ معتبرة للحصول على هذه التقنيات المتقدمة طوال السنوات الماضية.
علاوة على تكلفة شراء وتجهيز معدات الحجب، هناك تكلفة تشغيلية مستمرة تتحملها الجهات الحكومية لضمان فعالية أنظمة الرقابة. يشمل ذلك نفقات صيانة الأجهزة وتحديث قوائم المواقع المحظورة بشكل دوري، إضافة إلى رواتب الفرق الفنية والأمنية المكلَّفة بالمراقبة وتنفيذ قرارات الحجب. وتجدر الإشارة أيضًا إلى تأثير الحجب على الأداء الفني لشبكات الإنترنت، إذ صرَّحت وزارة الاتصالات المصرية في عام 2015 أن سرعة الإنترنت في مصر قد لا تتحمّل تطبيق عملية حجب واسعة النطاق دون التأثير سلبًا على جودة الخدمة. وهذا يعني أن تحسين البنية التحتية لتجنّب تباطؤ الشبكة أثناء الحجب قد يستلزم استثمارات إضافية، مما يزيد من التكلفة الكلية التي تتحملها الدولة لضمان حجب المواقع مع الإبقاء على مستوى مقبول من جودة الاتصال.
التكلفة التي تتحملها شركات الاتصالات الخاصة
لا تقتصر أعباء حجب المواقع على الحكومة وحدها، بل تمتد أيضًا إلى شركات الاتصالات والإنترنت الخاصة المكلَّفة فنيًا بتنفيذ قرارات الحجب على شبكاتها. فقد كان على هذه الشركات تركيب معدات وبرمجيات خاصة بفلترة المحتوى استجابة للقرارات الحكومية أو الأحكام القضائية التي تفرض حجب مواقع معينة. وقد قدَّر مسؤولون في الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في مصر التكلفة الإجمالية التي تكبّدتها شركات تقديم خدمة الإنترنت لتركيب مرشحات حجب المواقع الإباحية بنحو 25 مليون جنيه مصري (أي ما يعادل حوالي 3.7 مليون دولار). جاءت هذه الخطوة تنفيذًا لحكم محكمة القضاء الإداري في دعوى قضائية ألزمت الحكومة المصرية بحجب المواقع الإباحية. وبالفعل أكدت المصادر أن شركات الإنترنت في مصر قامت منذ بداية عام 2013 بتثبيت أجهزة “فلترة” على شبكاتها لحجب أي محتوى تتطلَّب السلطات القضائية حجبه.
ورغم هذا الاستثمار، أشار خبراء وتقنيون إلى أن فعالية الحجب ليست مضمونة بالكامل مقابل ما تم إنفاقه. فقد بيَّن مسؤولو تنظيم الاتصالات أنفسهم أن إنفاق 25 مليون جنيه على حجب المواقع الإباحية لن يمنع المحتوى غير المرغوب بشكل كامل، إذ سرعان ما تظهر وسائل تقنية لتجاوز الحجب بكلفة زهيدة بالنسبة للمستخدمين. على سبيل المثال، يمكن استخدام شبكات افتراضية خاصة (VPN) أو خوادم بروكسي بتكاليف بسيطة تمكن من النفاذ إلى المواقع المحظورة، مما يجعل الشركات في سباق تقني مستمر لسد هذه الثغرات. هذا السباق يفرض تكاليف إضافية مستمرة على شركات الاتصالات، سواء من حيث تحديث أنظمة الحجب لمواكبة أساليب التفافيّة جديدة، أو من حيث معالجة أي تباطؤ في الشبكة ناتج عن عملية الفلترة الثقيلة للمحتوى. وقد توسعت قائمة المواقع المطلوب من الشركات حجبها بشكل كبير بعد عام 2017، لتشمل مئات المواقع الإخبارية والحقوقية، وكذلك خدماتVPN نفسها؛ حيث حجبت السلطات المصرية نحو 261 موقعًا يقدم خدمات الشبكات الخاصة الافتراضية وأدوات البروكسي في موجة واحدة خلال أغسطس 2017. هذا التوسع وضع عبئًا إضافيًا على عاتق الشركات التي اضطرت للتعامل مع قوائم حجب متنامية تتجاوز المحتوى الإباحي لتشمل نطاقات أوسع من المحتوى السياسي والإعلامي والأمني.
بالإضافة إلى التكلفة المالية المباشرة، تواجه الشركات الخاصة مخاطر عقوبات إذا تقاعست عن تنفيذ قرارات الحجب. فالقوانين المصرية تفرض غرامات كبيرة قد تصل إلى ملايين الجنيهات على شركات الاتصالات أو مديري المواقع في حال عدم الامتثال لقرارات الحجب أو إعادة نشر موقع تم حجبه. هذا الأمر يجعل الشركات حريصة على الاستثمار في منظومات الحجب تجنبًا للغرامات، ما يضيف جانبًا غير منظور من التكاليف يتمثل في الالتزام القانوني والتنظيمي.
التأثير الاقتصادي على الصحفيين
شكل حجب المواقع الإخبارية ضربة قاصمة للصحفيين الذين يعملون فيها. فمع انقطاع الجمهور عن الوصول إلى هذه المنصات، تراجعت مواردها المالية بشكل حاد (من إعلانات أو اشتراكات أو دعم)، مما اضطر العديد منها إلى تقليص نشاطها أو الإغلاق التام. وتشير دراسة صادرة عن مؤسسة حرية الفكر والتعبير (AFTE) إلى أن نحو 300 من الصحفيين الشباب فقدوا وظائفهم أو تعرضوا لخفض رواتبهم خلال الأسابيع الأولى فقط من موجة الحجب (مايو–يونيو 2017). عدد من المؤسسات الصحفية المستقلة لم يستطع الصمود ماليًا أمام هذا الوضع، فتوقفت تمامًا عن العمل وأغلقت مواقعها، مما أدى إلى تسريح جميع صحفييها. وبحسب تقرير AFTE، هناك ما لا يقل عن ستة مواقع إخبارية مستقلة أُغلقت كليًا نتيجة الخسائر الاقتصادية للحجب، وقامت بتسريح موظفيها بشكل كامل. على سبيل المثال، موقعا “البداية” و“البديل” وهما من المنابر الصحفية المستقلة المعروفة، تعرضا للحجب في يونيو 2017؛ ولم يتمكنا من الاستمرار بعدها، إذ توقف موقع البداية عن النشر تمامًا بحلول ديسمبر 2017، فيما أعلن موقع البديل في أبريل 2018 إغلاقه بسبب استمرار الحجب الذي حال دون وصول المحتوى للجمهور. هذه الحالات وغيرها تعني عمليًا فقدان عشرات الصحفيين لوظائفهم ومصادر دخلهم بين ليلة وضحاها.
تأثير الحجب على قطاع الصحافة المصري ككل
لم يقتصر أثر حجب المواقع على المؤسسات المحجوبة وصحفييها فقط، بل امتد ليشمل قطاع الصحافة والإعلام المصري برمته. فمع تضييق الخناق على المنابر المستقلة وإسكاتها، انخفض إجمالي حجم سوق العمل الإعلامي المستقل، مما أدى إلى زيادة المعروض من الصحفيين العاطلين أو الباحثين عن عمل في مقابل تقلص عدد المؤسسات الصحفية الحرة التي كانت تستوعبهم. وقد شهدت هذه الفترة أيضًا احتكارًا متناميًا للإعلام من قبل جهات موالية للدولة أو أجهزة أمنية، ما قلّص التنوع وأضعف المنافسة المهنية. ونتيجة لهذه العوامل مجتمعة –الحجب، والضغوط الأمنية، والأزمات المالية– دخل قطاع الصحافة في أزمة اقتصادية ومهنية حادة تجلت في تدني الأجور وانتشار البطالة المقنعة وهجرة الكفاءات.
المؤشرات والإحصاءات تعكس هذا التدهور بجلاء. فعلى سبيل المثال، اضطرّت نقابة الصحفيين المصريين إلى تفعيل نظام “معاش البطالة” لدعم أعضائها العاطلين عن العمل. وتشير بيانات النقابة في مطلع عام 2023 إلى أن 536 صحفيًا تقريبًا تقدموا بإقرارات تفيد بعدم عملهم بأي جهة للحصول على هذا المعاش. ورغم الشروط الصارمة (مثل وجوب أن يكون العضو أمضى 10 سنوات في المهنة)، تم صرف إعانة البطالة بالفعل لـ165 صحفيًا عاطلًا حتى ذلك الوقت. هذا الرقم يعطينا لمحة عن اتساع شريحة الصحفيين الذين صاروا بلا عمل ثابت نتيجة إغلاق المؤسسات أو تقليصها. إلى جانب ذلك، تدهورت الأوضاع المعيشية لمن استمروا في المهنة: ففي استبيان مهني أُجري أواخر عام 2024، ظهرت نتائج صادمة حول دخل الصحفيين – حيث تبيّن أن حوالي 13% من الصحفيين يعملون دون أي راتب ثابت على الإطلاق، مما يعني أنهم عمليًا “متطوعون” أو يعملون في ظروف أقرب للسُخرة. كما أن نسبة من يتقاضون رواتب غير منتظمة تتراوح بين 13% و17% من الصحفيين، أي أن قرابة ثلث الصحفيين المصريين يفتقدون الاستقرار المالي الشهري. والأدهى أن نحو نصف الصحفيين (أكثر من 49%) يتقاضون رواتب دون الحد الأدنى الرسمي للأجور (الذي يُقدّر بـ6 آلاف جنيه مصري). هذه الأرقام غير المسبوقة تُظهر عمق الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالجماعة الصحفية في مصر مع استمرار سياسات التضييق.
في ظل هذه الظروف، لم يكن أمام كثير من الصحفيين سوى تغيير مسارهم المهني أو البحث عن بدائل. فبعض الصحفيين الذين فقدوا وظائفهم في المواقع المحجوبة اتجهوا إلى العمل الحر كمراسلين مستقلين مع مؤسسات أجنبية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، في محاولة لتأمين دخل بديل مع الحفاظ على ممارسة المهنة وإن كان ذلك دون مظلة حماية أو عقود دائمة. آخرون غادروا ميدان الصحافة تمامًا إلى مجالات عمل أخرى أكثر استقرارًا، بينما اضطر البعض إلى الهجرة خارج مصر بحثًا عن فضاء إعلامي أكثر حرية أو للحصول على فرص عمل في مؤسسات دولية. وعلى المستوى المؤسسي، لجأت المواقع المحجوبة التي استمرت إلى حلول بديلة للوصول للجمهور (مثل النشر عبر منصات التواصل الاجتماعي أو إنشاء نطاقات جديدة باستمرار لتفادي الحجب)؛ لكن هذه الحلول لم تعوّض الخسائر المالية ولم تعد بنفس العدد من القراء، مما أبقى أوضاعها الهشّة على حالها. وبشكل عام يمكن القول إن الفترة من 2017 إلى 2024 مثلت ذروة تراجع الصحافة المصرية اقتصاديًا ومهنيًا: تقلّص عدد المنابر المستقلة، وزادت هيمنة الدولة ورجال الأعمال المقربين منها على المشهد، فتدهورت بذلك شروط العمل الصحفي للجميع. ولعل مفارقة الواقع تتضح عندما نعلم أن الكثير من الصحفيين في مصر باتوا يعتمدون على بدل التدريب والتكنولوجيا الحكومي (الذي لا يتجاوز 2000 جنيه شهريًا تقريبًا) كعنصر أساسي من دخلهم لضمان متطلبات المعيشة الأساسية، بعد أن كان هذا البدل مُخصصًا لتحسين القدرات المهنية وتقنيات العمل.
تقول الصحفية النقابية إيمان عوف في تصريح إلى زاوية ثالثة إن تأثير الحجب يمتد ليشكل ضربة اقتصادية مباشرة للصحفيين والمؤسسات الإعلامية المستقلة، فحين يتم حجب موقع صحفي، يصبح الوصول إليه معقدًا، مما يقلل من حجم التفاعل والمشاهدات، ويؤثر على العائدات الإعلانية، حيث تعتمد الإعلانات بشكل أساسي على نسب المشاهدة والتفاعل، كما أن الإعلانات، باعتبارها مصدرًا أساسيًا لتمويل المواقع الصحفية، تتأثر بالحجب بشكل كبير، إذ لا يمكن لأي موقع محجوب أن يجذب الإعلانات، ما يؤدي إلى تراجع الإيرادات، وانعكاس ذلك على رواتب الصحفيين، ومع تدهور الوضع الاقتصادي لهذه المؤسسات، تصبح غير قادرة على دفع الرواتب، ما يدفعها إلى تسريح الصحفيين، وبالتالي تزداد البطالة في الوسط الصحفي، فالحرية هي الوجه الآخر للعيش الكريم، فحين يُسمح للمواقع المستقلة بالعمل بحرية دون حجب أو تضييق، فإنها تستطيع تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي للعاملين بها، وتوفر لهم حياة كريمة تتناسب مع تكاليف المعيشة المتزايدة.
الجهة الرسمية المسؤولة عن قرارات الحجب في مصر
منذ بدء موجة حجب المواقع في مصر عام 2017، افتقرت العملية إلى الشفافية بخصوص الجهة الرسمية التي تصدر قرارات الحجب. فعندما شرعت السلطات في حجب المواقع الإخبارية وغيرها في مايو 2017، لم تعلن أي مؤسسة رسمية مسؤوليتها مباشرة عن القرار. أُغلِقت آنذاك ما لا يقل عن 20 موقعًا إلكترونيًا بشكل مفاجئ، معظمها مواقع صحفية وإعلامية، بواسطة جهة غير معلومة داخل الحكومة المصرية. هذا الغموض أثار تساؤلات عما إذا كانت جهات أمنية (مثل أجهزة المخابرات أو الأمن الوطني) هي التي تقف وراء أوامر الحجب بعيدًا عن الأطر المؤسسية المعلنة.
بمرور الوقت، توضحت الصورة القانونية للجهات المخوَّلة بالرقابة على الإنترنت في مصر. حاليًا يمكن القول إن عدة جهات رسمية تشترك في مسؤولية إصدار وتنفيذ قرارات الحجب:
- جهات التحقيق والنيابة العامة: بموجب قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لعام 2018، يحق لجهة التحقيق المختصة (النيابة العامة أو قاضي التحقيق) أن تصدر أمرًا بحجب موقع إلكتروني إذا ما ثبت لديها دلائل بأن محتواه يهدد الأمن القومي أو أمن البلاد أو اقتصادها. وتعد هذه السلطة قضائية/حكومية لأنها تمر عبر القضاء.
- جهات التحري والضبط (الأجهزة الأمنية): يسمح القانون نفسه في حالات الطوارئ أو الخطر الحال بأن تقوم الأجهزة الأمنية (مثل الشرطة أو الأمن الوطني) باتخاذ قرار عاجل بحجب موقع أو محتوى معين بشكل مؤقت، على أن يتم إبلاغ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات (الجهاز الحكومي المنظِّم للقطاع) لتنفيذ الحجب فورًا. هذا الإجراء الاستثنائي يعني أن الأجهزة الأمنية يمكنها بدء الحجب بشكل مباشر في ظروف معينة قبل صدور قرار قضائي، على أن يعرض الأمر لاحقًا على القضاء خلال 24 ساعة للمراجعة.
- المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام: وهو هيئة حكومية تنظيمية أُنشِئت بموجب قانون تنظيم الصحافة والإعلام لعام 2018، ومُنِحت صلاحيات رقابية واسعة تشمل حجب المواقع الصحفية أو الإعلامية التي تُخالف قوانين النشر أو بدون ترخيص. تنص المادة (6) من هذا القانون على حق المجلس في حجب الموقع الإلكتروني المخالف وإحالة المسؤولين عنه إلى المساءلة. ولم تتوقف سلطات المجلس عند المواقع الإخبارية؛ فبحسب المادة (19) من القانون ذاته، يمكن للمجلس الأعلى للإعلام حجب الحسابات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي أيضًا إذا تجاوز عدد متابعيها 5000 متابع ونُشر عبرها محتوى يُعد مخالفًا للقانون أو مُهددًا للأمن العام. وقد مارست المجلس الأعلى للإعلام هذه الصلاحيات فعليًا، حيث جاء في تقريره السنوي الثالث أنه أصدر قرارات بحجب 212 حسابًا على موقع فيسبوك و10 حسابات على تويتر و5 حسابات على إنستغرام بسبب مخالفات مختلفة. هذا يؤكد أن المجلس الأعلى أصبح جهة رئيسية مسؤولة عن فرض رقابة جماعية على الإنترنت في مصر.
- الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات (NTRA): يُعد الجهاز حلقة الوصل التنفيذية بين الجهات السالف ذكرها وشركات الاتصالات المزودة لخدمة الإنترنت. فعندما يصدر قرار حجب من جهة تحقيق أو من المجلس الأعلى للإعلام أو حتى في حالة الإخطار الأمني العاجل، يتولى الجهاز القومي إخطار شركات الاتصالات رسميًا بالقائمة المطلوب حجبها من المواقع أو الخدمات. الجهاز بصفته هيئة حكومية تنظيمية يضمن تنفيذ الشركات لتلك التعليمات ويتابع الالتزام بها.
باختصار، يمكن القول إن الجهة الرسمية المسؤولة عن قرار الحجب في مصر ليست كيانًا واحدًا منفردًا، بل شبكة تضم السلطات القضائية والتنظيمية والأمنية. فمن الناحية الرسمية والقانونية تُتخذ قرارات الحجب عبر النيابة العامة أو المجلس الأعلى للإعلام، أما من الناحية العملية فقد تبادر الأجهزة الأمنية إلى فرض الحجب ثم تسعى لاحقًا لإضفاء الغطاء القانوني عبر الجهات القضائية والتنظيمية. هذا التوزيع للمهام والصلاحيات بين عدة جهات يجعل عملية الرقابة على الإنترنت واسعة النفوذ، ويخلق في الوقت نفسه تداخلًا قد يصعّب تحديد المسؤولية المباشرة عن الحجب في بعض الحالات.
الإطار القانوني لفرض قرارات الحجب
يوضح الخبير القانوني محمد سيد، في حديث إلى “زاوية ثالثة”، أن الحجب في مصر يستند إلى عدة قوانين تمنح السلطات صلاحيات واسعة، من أبرزها قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015، الذي يتيح حجب المواقع الداعمة لأفكار إرهابية، وقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018، الذي صادق عليه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وينظم المحتوى الرقمي ويمنح الحق في حجب المواقع التي تُعتبر تهديدًا للأمن القومي أو الاقتصاد الوطني، مع فرض غرامات على زوار هذه المواقع. كما يشير سيد إلى قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، الذي يلزم وسائل الإعلام الرقمية بالحصول على تراخيص، ويمنح المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام صلاحيات حجب المواقع المخالفة. ويؤكد سيد أن هذه القوانين تُستخدم بشكل متسع لحجب المواقع الإخبارية المستقلة، ما يتعارض مع المادة 57 من الدستور المصري التي تكفل الحق في المعرفة، ومع الالتزامات الدولية لمصر بشأن حرية التعبير.
ويؤكد الخبير القانوني أن هذه القوانين تُستخدم على نطاق واسع لحجب المواقع الإخبارية المستقلة، مما يُعد، بحسب رأيه، تقييدًا لحرية الصحافة وقد يُضعف مناخ الإعلام الحر في مصر. فعلى سبيل المثال، تعرّض موقع “زاوية ثالثة” للحجب في فبراير 2025 ومرة أخرى في مارس من العام نفسه، مما أثار انتقادات واسعة من منظمات حقوقية. ورغم أهمية هذه القوانين، يرى سيد أن بعض سياسات الحجب لا تتماشى مع نصوص الدستور المصري، الذي يكفل في المادة 57 منه حرية الصحافة وحق المواطنين في الوصول إلى المعلومات، ويحظر تعطيل أو وقف وسائل الاتصال العامة بشكل تعسفي. كما أن هذه السياسات تتعارض مع التزامات مصر الدولية المتعلقة بحرية التعبير وحرية الإعلام.
ويستند فرض حجب المواقع الإلكترونية في مصر إلى منظومة من التشريعات التي أقرتها الدولة خلال السنوات الأخيرة بهدف تنظيم المحتوى الرقمي ومكافحة الجرائم الإلكترونية. وقد تكاملت هذه المنظومة القانونية بدءًا من الاعتماد على تفسيرات عامة في قوانين سابقة، وصولًا إلى سنّ قوانين خاصة وصريحة تنظم آلية الحجب وإجراءاته. فيما يلي أبرز ملامح هذا الإطار القانوني:
- قانون تنظيم الاتصالات رقم 10 لسنة 2003: هذا القانون هو التشريع الأساسي الذي ينظم قطاع الاتصالات في مصر. ورغم أنه لا يحتوي نصوصًا صريحة بخصوص حجب مواقع الإنترنت من حيث المحتوى، إلا أن إحدى مواده أعطت سلطات واسعة للجهات السيادية في حالة الطوارئ. فقد سمح المشرّع للسلطات الأمنية (الجهات السيادية) بأن تتدخل لقطع خدمات الاتصالات أو مراقبتها إذا رأت في ذلك ضرورة لأمن البلاد. واعتمدت السلطات على هذه الصلاحية الفضفاضة كأساس قانوني ضمني لاتخاذ إجراءات رقابية على الإنترنت عند إعلان حالة الطوارئ. على سبيل المثال، بعد أحداث إرهابية في أبريل 2017، أعلنت مصر حالة الطوارئ مما منح الرئيس والجهات الأمنية سلطة رقابة شاملة على الاتصالات بما في ذلك الإنترنت. استُخدمت هذه السلطة خلال 2017 لحجب المواقع قبل صدور التشريعات اللاحقة المنظمة للحجب. ورغم أن دستور مصر 2014 نص في المادة 71 منه على حظر الرقابة المسبقة على الصحف ووسائل الإعلام أو وقفها، إلا أن السلطات وجدت سندًا في حالة الطوارئ وفي قوانين أخرى لتجاوز هذا الحظر الدستوري بحجة حماية الأمن القومي.
- قانون مكافحة الإرهاب رقم 94 لسنة 2015: جاء هذا القانون في سياق تصاعد التهديدات الأمنية، وتضمَّن مادة تجيز للسلطات حجب المواقع الإلكترونية التي تُستخدم للتحريض على أعمال إرهابية أو تبثّ بيانات تُهدد الأمن القومي بشكل مباشر. أدى هذا القانون إلى تقنين بعض إجراءات التقييد على المحتوى الإلكتروني تحت عنوان مكافحة الإرهاب، واعتُبر تمهيدًا لإدخال مفهوم حجب المواقع كأداة قانونية ضمن تشريعات لاحقة.
- قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات رقم 175 لسنة 2018 (المعروف بقانون جرائم الإنترنت أو الجرائم الإلكترونية): يُعد هذا القانون الإطار الأشمل حتى الآن لتنظيم حالة حجب المواقع. فقد خصَّص المادة (7) منه لبيان إجراءات حجب المواقع الإلكترونية بشكل مفصَّل. ووفقًا لنص المادة (7): يحق لجهة التحقيق (النيابة العامة أو قاضي التحقيق) أن تصدر أمرًا بحجب أي موقع أو عدة مواقع إذا توافرت أدلة على أن الموقع يبث محتوى يُشكل جريمة يعاقب عليها القانون ومما قد يمثل تهديدًا للأمن القومي أو يعرِّض أمن البلاد أو اقتصادها للخطر. ويُلزم القانون جهة التحقيق بعرض أمر الحجب على محكمة الجنایات المختصة خلال 24 ساعة للنظر فيه وإصدار قرار مسبّب بالقبول أو الرفض خلال مدة لا تتجاوز 72 ساعة. كما نظَّم القانون حالة الحجب العاجل في الفقرة الثالثة من المادة نفسها، حيث سمح – على سبيل الاستثناء – بأنه في حالات الخطر الداهم يجوز لجهات الضبطية القضائية (مثل الأجهزة الأمنية) إبلاغ الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات ليأمر مزودي الخدمة بحجب المحتوى أو الموقع بشكل مؤقت وفوري قبل الحصول على إذن المحكمة. على أن يُحرر محضر بالإجراء خلال 48 ساعة ويُعرض على النيابة ثم المحكمة لإقرار استمرار الحجب أو وقفه. ووضع القانون ضمانات نسبية في هذا الإطار مثل: حصر الحجب في المواقع التي تُرتكب عبرها جرائم محددة، واشتراط أمر قضائي خلال فترة وجيزة، وسقوط قرار الحجب تلقائيًا إذا صدر قرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية أو حكم بالبراءة. كما سمح القانون لمن صدر ضده قرار حجب (صاحب الموقع أو المتضرر) وللنيابة العامة بالتظلُّم أمام محكمة الجنايات من قرار الحجب بعد مدة محددة للطعن عليه. وبالإضافة إلى ذلك، فرض القانون عقوبات مشددة (بالسجن وغرامات تصل إلى ملايين الجنيهات) على مقدمي الخدمة (شركات الاتصالات) إذا امتنعت عن تنفيذ قرارات الحجب الصادرة وفقًا لأحكامه، وقد تصل الغرامة إلى حد أدناه 3 ملايين جنيه وأقصاها 20 مليون جنيه مع إلغاء ترخيص الشركة المخالفة إذا ترتب على عدم تنفيذ الحجب ضرر جسيم أو وفاة.
- قانون تنظيم الصحافة والإعلام والمجلس الأعلى للإعلام رقم 180 لسنة 2018: جاء هذا القانون ليعيد هيكلة المنظومة الإعلامية ويضع ضوابط للمحتوى الإعلامي المنشور سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو الرقمية. وقد خوَّل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام سلطات واسعة بصفته الهيئة التنظيمية المختصة. تنص المادة (6) من القانون على حق المجلس في اتخاذ إجراءات ضد المواقع الإلكترونية الصحفية أو الإعلامية التي تعمل دون ترخيص أو تنشر محتوى يخالف القانون أو مواثيق الشرف المهني؛ ومن تلك الإجراءات سلطة حجب الموقع أو المدونة أو الحساب المخالف بقرار منه. ويتمتع المجلس أيضًا بسلطة سحب ترخيص مزاولة النشاط الإعلامي للوسيلة المخالفة. إلى جانب ذلك، توسَّع القانون في مفهوم الحجب ليشمل نشاط الأفراد على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث خوَّلت المادة (19) منه المجلس الأعلى للإعلام صلاحية حجب الحسابات الشخصية على شبكات التواصل الاجتماعي والمدونات إذا تجاوز عدد متابعيها خمسة آلاف وكان محتواها يتضمن نشر شائعات أو أخبار كاذبة أو ما من شأنه تهديد الأمن القومي أو النظام العام. هذا النص الأخير أدخل آلاف الصفحات والحسابات الإلكترونية المؤثرة تحت طائلة الرقابة المباشرة للمجلس. وبموجب هذه الصلاحيات، أصدر المجلس الأعلى للإعلام قرارات بحجب مواقع إلكترونية بالفعل، من أشهرها قراره في نوفمبر 2019 بحجب موقع صحيفة مدى مصر لمدة 6 أشهر بدعوى ممارسة نشاط صحفي دون ترخيص ومخالفة المادة 6 من القانون. كما ذكرنا سابقًا، قام المجلس بحجب مئات الحسابات على مواقع التواصل خلال تقاريره السنوية.
- اللوائح التنفيذية والقرارات التنظيمية: بالإضافة للقوانين المذكورة، صدرت لوائح تنفيذية تُفصّل إجراءات تطبيق الحجب. فعلى سبيل المثال، أصدر رئيس مجلس الوزراء القرار رقم 1699 لسنة 2020 باللائحة التنفيذية لقانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي تضمنت ضوابط تنفيذ أوامر الحجب والتظلمات منها بالتنسيق بين الجهات القضائية والتنظيمية. كذلك أصدر المجلس الأعلى للإعلام لائحة جزاءات in 2019 حددت العقوبات والإجراءات (بما فيها الحجب) التي يمكن للمجلس اتخاذها ضد المخالفات الإعلامية الرقمية. هذه اللوائح تعزِّز الإطار القانوني وتحدد آليات التعاون بين الجهات المختلفة، كأن يحدد مثلاً نموذج إخطار من النيابة إلى الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات بشأن موقع مطلوب حجبه، أو آلية إخطار من المجلس الأعلى لشركات الاستضافة لرفع محتوى مخالف.

اعتداء على حق المواطن
ترى إيمان عوف، أن حجب المواقع الصحفية المستقلة يمثل اعتداءً مباشرًا على حق المواطنين في المعرفة، وحق الصحفيين في ممارسة مهنتهم بحرية، فالمواقع التي تم حجبها ليست مجرد منصات إعلامية عادية، بل هي مواقع اختارت أن تكون على يسار السلطة، غير خاضعة لتوجهاتها، وتعمل على تقديم صحافة مهنية حقيقية تناقش أزمات المواطنين وقضاياهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
تضيف عوف، إذا دققنا في طبيعة المواقع المحجوبة وفقًا لرؤية الناشطة السياسية، سنجد أنها جميعًا منصات مستقلة، منحازة للمواطنين ومشاكلهم، وليست منصات تابعة للسلطة، وحين ينجح الصحفيون في تجاوز القيود المفروضة عليهم، يأتي الحجب كخطوة قمعية أخيرة لمنع وصول المعلومة إلى المواطنين، فإلى جانب الحجب، يواجه الصحفيون أيضًا حملات ملاحقة وتضييق، والدليل على ذلك أن أكثر من 25 صحفيًا قُبض عليهم في الفترة الأخيرة، وهو ما يعكس استهدافًا ممنهج للصحفيين الذين يصرون على ممارسة مهنتهم بمهنية واستقلالية.
يقول مصدر بالجهاز القومي لتنظيم الاتصالات في تصريح إلى “زاوية ثالثة” إن سبب الحجب ربما يكون تقني، نافيًا أن يكون هناك أسباب أخرى لحجب المواقع التي لا تدعم التطرف، هذا بخلاف بعض المواقع التي تم حجبها في فترات سابقة، والتي كانت تدعُم الإرهاب وتحض على التطرف بشكل مباشر، فكانت لديها مواقف ظاهرة لا يمكن التهاون معها في حقبة سابقة.
وتحدث المصدر الذي رفض ذكر اسمه، عن أن العديد من الدول حول العالم تتبع سياسات حجب المواقع الإلكترونية لأسباب متعددة، حيث تتصدر الصين وإثيوبيا وأوزبكستان وكوبا قائمة الدول التي تفرض قيودًا على الوصول إلى بعض المنصات الرقمية.
واختتم المصدر حديثه بأن هناك أربعة دوافع رئيسية تدفع الدول إلى حجب المواقع الإلكترونية، أبرزها: نشر محتوى يحض على الإرهاب، الترويج للإباحية، دعم الهجرة غير الشرعية، أو التورط في جرائم مالية مثل الابتزاز وغسل الأموال.
على امتداد الفترة من 2017 حتى كتابة هذا التقرير، أدت سياسة حجب المواقع الصحفية في مصر إلى إضعاف شديد للبنية الاقتصادية والإدارية لقطاع الإعلام. فالصحفيون كانوا ولا يزالون من أكبر الخاسرين في هذه المعادلة؛ إذ فقد المئات منهم وظائفهم أو جزءًا كبيرًا من دخولهم، واضطروا إلى خيارات صعبة كالخروج من المهنة أو الهجرة. أما من بقي في الميدان الإعلامي، فيعمل غالبًا تحت وطأة ضغوط مالية ومعيشية خانقة، وفي ظل تضييق رقابي يجعل آفاق التطور المهني محدودة. وبالنظر إلى هذه الحصيلة القاتمة، حذرت نقابة الصحفيين مرارًا من “التداعيات” الخطيرة لاستمرار الحجب والقمع الرقابي على مستقبل المهنة. ومع بداية عام 2024، ورغم بعض الوعود الرسمية بمراجعة هذه السياسات ضمن حوار وطني، بقي واقع الحال على ما هو عليه: مواقع مستقلة محجوبة أو تحت الرقابة، وصحفيون يدفعون ثمنًا باهظًا عبر البطالة والفقر والتهميش المهني. إن إنقاذ الصحافة المصرية من هذه الأزمة يتطلب إجراءات جوهرية لإعادة فتح المجال العام ورفع الحجب عن المواقع وضمان حرية الإعلام، كي تستعيد مهنة الصحافة عافيتها الاقتصادية ودورها كسلطة رابعة فاعلة في المجتمع.