في إحدى مباريات الدوري المصري، ظهر إمام عاشور، لاعب النادي الأهلي المصري، وهو يغني هتافًا مشهورًا مع جمهور فريقه. هذا الهتاف، الذي يُعتبر واحدًا من الهتافات التاريخية لجمهور النادي الأهلي، يعود تاريخه إلى ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تم تناقله بين الأجيال ليصبح رمزًا لجماهير الفريق
في الظاهر، لا يوجد ما يثير الدهشة في أن لاعبًا يغني مع جماهير فريقه. ولكن، ما يجعل الموقف استثنائيًا هو أن إمام عاشور، حديث الساحة في الكرة المصرية، قد انتقل مؤخرًا إلى الأهلي قادمًا من صفوف الغريم التقليدي الزمالك. يظهر هنا ذكاء إمام في محاولته كسب ثقة ومحبة جماهير الأهلي التي انقسمت في البداية بين مؤيد ومعارض لوجوده في الفريق. هذا الانقسام يعود إلى واقعة شهيرة عندما كان عاشور لاعبًا في الزمالك، حيث وجه انتقادات حادة وسبًّا لجماهير الأهلي ومجلس إدارته. الآن، مع انتقاله إلى الأهلي، يعمل عاشور على إعادة بناء علاقته مع الجمهور الذي كان خصمه في السابق.
لكننا لسنا بصدد الحديث عن إمام أو عن الأهلي والزمالك وجمهورهم، ولكن ما لفت انتباهنا هو قوة وتأثير الهتاف الذي جعل الجمهور في لحظة يتناسى كل تلك الخلافات، و يتماهى مع اللاعب في ترديد الهتاف، وكأنها فرقة موسيقية يقودها مايسترو، بالرغم من غرابة الهتاف، واختلاف جمهور الأهلي نفسه على تفسير معناه، وهنا مربط الفرس.
والسؤال الآن، ما أهمية تلك الهتافات؟ ولماذا هي متأصلة لهذه الدرجة في كرة القدم؟ وكيف بدأت وانتشرت؟ وما الذي يجعل الهتاف جيدًا؟
@kawleselmodragat إمام عاشور يتقمص دور الكابو ويغني مع الجماهير يحكى أن 🦅🔥🗣️ء#الاهلي #امام_عاشور #اهلي #اهلاوي #امام #الأهلي #عاشور #كواليس_المدرجات #Ahly #الأهلي #شيكابالا ♬ original sound – كواليس المدرجات
من قصص الهلالي للغزالة حمرا
في كتابه “نخسر كل أسبوع: تاريخ هتاف كرة القدم” ، يقول أندرو لاون أن هتافات كرة القدم دليل حي على زمنٍ اندثر، فوقعها وقيمتها تمامًا مثل المواويل الشعبية القديمة، والتي تروي لنا عبق الماضي، وحكايات الأولين.
يقول أندرو أن الهتافات انتقلت بنفس الطريقة التي انتقل بها الموال الشعبي، عن طريق تناوله شفهيًا بين الجيل والآخر، وبالرغم من التغيرات التي جرت على لعبة كرة القدم في كل عناصرها ، ظلت الهتافات شيئًا ينتمي إلينا بثبات، فهي ليست مجرد طريقة للشعور بأنك جزء من مجموعة، أو لشيء أكبر وأكثر أهمية منا، ولكنها طريقة للتعبير عن أنفسنا وهوياتنا.
يعتقد أندرو أن هتافات كرة القدم هي انعكاس لكل فئات المجتمع المتمثلة داخل الجمهور، كما أنها مثال على مجتمع يروي قصته الخاصة دون الحاجة إلى المرور عبر الصحفيين أو المؤلفين أو التلفزيون أو أي شيء آخر. إنها فرصة يمكنك من خلالها أي شخص التعبير عن نفسه.
والأهازيج هي أغاني أو أناشيد جماعية ترددها الجماهير في المناسبات المختلفة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمشاعر الفرح أو الحماس. في سياق كرة القدم، تشير الأهازيج إلى الهتافات والأغاني التي يرددها مشجعو الفرق لدعم فرقهم أو للاحتفال بانتصاراتهم. تكون الأهازيج عادة بسيطة، سهلة الترديد، ولها إيقاع مميز يجعل الجماهير كلها تشارك فيها. كما تعزز الأهازيج من الروح الجماعية وتعبر عن حب الجمهور للفريق أو اللاعبين.
تاريخ الهتافات
وفقًا لموقع “ذا أثليتيك” يعود أول هتاف في ملاعب كرة القدم إلى أواخر القرن 19. يقال إن أقدم أغنية كرة قدم في العالم لا تزال قيد الاستخدام اليوم هي “On the Ball City” ، وهي أغنية ألفها مشجعي فريق نورويتش سيتي الإنجليزي في تسعينيات القرن التاسع عشر، ولا تزال تُغنى حتى اليوم.
في ستينيات القرن العشرين، شهدت هتافات كرة القدم في المدرجات تطورًا ملحوظًا، حيث لم تقتصر على الهتافات البسيطة التي تكرر اسم النادي أو اللاعب. وفقًا للمؤرخ أندرو لاون، يمكن تصنيف هتافات كرة القدم إلى ثلاث فئات رئيسية، مع الأخذ في الاعتبار التنوع الموسيقي الذي تبنته جماهير الفرق.
كانت الأغاني القائمة على التراتيل والموسيقى الكلاسيكية من بين أولى أشكال هتافات المشجعين. فعلى سبيل المثال، تبنّى مشجعو أندية مثل ليدز يونايتد ومانشستر يونايتد وتوتنهام هوتسبر لحن “ترنيمة معركة الجمهورية” ليصبح الهتاف الشهير “Glory Glory”. نشيد نادي وست بروميتش ألبيون يستند إلى ترنيمة “راعي الرب”، بينما تغنت جماهير 29 ناديًا إنجليزيًا واسكتلنديًا بنسخ متعددة من أغنية “عندما يذهب القديسون إلى الداخل”.
كما اعتمدت الجماهير الأغاني الشعبية والروحانيات لتحويل ترانيم عيد الميلاد إلى هتافات، حيث غنى مشجعو مانشستر يونايتد وتشيلسي ترنيمة “O Tannenbaum”، واحتفل مشجعو كل نادٍ بفوز خارج أرضهم باستخدام “Jingle Bells”.
في الوقت نفسه، لم تكن الموسيقى الشعبية بعيدة عن المدرجات، حيث أصبحت أغنية “لن تمشي وحدك أبدا” شعارًا لجماهير ليفربول وسلتيك منذ عام 1963. وعلى النحو ذاته، تبنى وست هام يونايتد نشيد “أنا أنفخ الفقاعات إلى الأبد”، بينما اختار مانشستر سيتي وكرو ألكسندر لحن “بلو مون”. وأصبحت أغنيات مثل “Hi Ho Silver Lining” و”Seven Nation Army” نغمات مألوفة في مختلف الملاعب الإنجليزية، واحتفل مشجعو كريستال بالاس بأداء الفرقة أغنية “Glad All Over” في الملعب عام 1968.
لذا دعنا نقول أن الموسيقى الشعبية هي المصدر الأكثر شيوعًا لأغاني كرة القدم وهتافات الجماهير. لذلك ليس من المستغرب أنه منذ أواخر ستينيات القرن العشرين كان الملحنون والمؤلفون يتسارعون كرة القدم تتسارع لتسجيل الأغاني المكتوبة خصيصا لمشجعي كرة القدم.
آثار الهتافات داخل ملاعب كرة القدم
مثل أي أداء آخر، تتطلب هتافات كرة القدم النظر في السياق الذي تُؤدى فيه. فهي ليست مجرد أصوات تُسمع في الملعب، بل تتردد قبل وأثناء وبعد المباريات، وتستمر حتى خارج أسوار الملعب. بحلول ستينيات القرن العشرين، أصبحت الهتافات عنصرًا لا غنى عنه في عالم كرة القدم، وشكلت جزءًا رئيسيًا من تجربة يوم المباراة بالنسبة للمشجعين العاديين، والذين يعتبرون الهتاف جزءًا لا يتجزأ من هويتهم كجماهير.
المشجعون هم المحرك الأساسي لهذه الهتافات، إذ يتمثل دورهم في خلق أجواء مخيفة للمنافسين من خلال التركيز على نقاط الضعف، بينما يرفعون معنويات فريقهم عبر التشجيع الحماسي الذي يثني على اللاعبين. وكما يقول أستاذ علم الاجتماع، ليس باك: “تجربة كرة القدم للمشجع دائمًا تتعلق بأصوات الملعب بقدر ما تتعلق بالمباراة نفسها”. فمباراة كرة قدم بلا أغاني تشبه السينما الصامتة في نظر باك.
أما بالنسبة للاعبين، فإن تأثير الهتافات يمكن أن يكون إيجابيًا أو سلبيًا. كما يصف بات نيفين، لاعب كرة القدم السابق: “الهتاف دائمًا له تأثير عميق، فهو يعزز الثقة بشكل كبير”.
ويدعم هذا الرأي عالم النفس الرياضي توم بيتس، الذي يرى أن معرفة أن الآلاف من المشجعين يدعمونك يمكن أن يدفع اللاعبين لتقديم أفضل ما لديهم.
لكن هناك جانب آخر للهتافات؛ فهي قد تكون مؤذية. وكما يعترف نيفين: “عندما تسمع جمهورك يسبك، وكأنهم يطعنونك في القلب”، خاصة إذا كانت هتافات عنصرية أو جنسية.
الهتافات لا تؤثر فقط على المشجعين واللاعبين، بل حتى على تصميم الملاعب نفسها. يوضح كريستوفر لي، كبير المهندسين المعماريين لملعب توتنهام هوتسبر الجديد، أن التصميم تمحور حول خلق أفضل أجواء ممكنة. فالمدرج الجنوبي للملعب كان الأساس في توجيه أداء اللاعبين وتعزيز الأجواء. وعلى النقيض، تعرض ملعب الإمارات (ملعب أرسنال) واستاد لندن (ملعب وست هام) لانتقادات بسبب عدم قدرتهما على تحفيز الجماهير، مما يبرز الأهمية المتزايدة للهتافات حتى في هندسة الملاعب.
المعاني الكامنة في الهتاف
تعتبر هتافات كرة القدم أكثر من مجرد كلمات مترددة في الملاعب؛ فهي تعكس معاني ثقافية واجتماعية عميقة تمتد إلى السياسة، العواطف، والمجتمع، لتصبح وسيلة للتعبير عن هوية الجماعة والمجتمع الذي ينتمي إليه المشجعون. ووفقًا لعالم الأنثروبولوجيا فيكتور تيرنر، “تُعبر الثقافات بشكل كامل من خلال طقوسها وعروضها”، وهو ما ينطبق بشكل كبير على هتافات كرة القدم، حيث تُظهر هذه الهتافات جوانب من الثقافة المحلية والهوية الجماعية.
كرة القدم أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الثقافة في مناطق متعددة من العالم، وخاصة في أوروبا، أمريكا الجنوبية، وبعض الدول العربية، حيث تحمل كل مباراة أكثر من مجرد تنافس رياضي، بل تعكس التباينات الثقافية وحتى الانقسامات الوطنية والإقليمية. هذه الهتافات تربط المشجعين ليس فقط بفريقهم، بل بمجتمعهم وهويتهم الخاصة، سواء كانوا ينتمون إلى مدينة، إقليم، أو حتى طبقة اجتماعية معينة.
تؤثر الفروقات الثقافية بشكل واضح على سلوك المتفرجين في مباريات كرة القدم، بما في ذلك هتافاتهم وطريقة أدائهم داخل الملعب. في مقالتهما Sonic Sport (1992)، يشير الباحثان سابو وجانسن إلى أن مباراة كرة القدم تعتبر “مسرحًا ثقافيًا” يعكس قيم المجتمع الأكبر، حيث تصبح هتافات الجماهير وسيلة لتعزيز الشرعية الاجتماعية وإعادة إنتاج عدم المساواة الاجتماعية. من هنا، تلعب هتافات كرة القدم دورًا هامًا في التعبير عن الفروقات الثقافية والهويات الوطنية والإقليمية.
الهتافات ليست مجرد أصوات تُسمع في الملاعب، بل تستخدم في بعض الأحيان كأداة للاحتجاج السياسي، مثلما حدث خلال كأس العالم 2018، عندما استخدم مشجعو إيران البطولة للاحتجاج على حظر النساء من حضور المباريات في بلادهم. في شوارع سان بطرسبرج، اختلط المشجعون الإيرانيون، بمن فيهم النساء، مرددين الأغاني ورافعين لافتات تطالب بحق النساء في دخول الملاعب، مما جعل الهتافات وسيلة لدعم القضايا الاجتماعية والسياسية.
وبالمثل، لعبت جماعات الألتراس في العالم العربي، وخاصة في مصر وتونس، دورًا بارزًا خلال ثورات الربيع العربي، حيث استخدموا الهتافات الرياضية للتعبير عن مطالبهم السياسية، وغنوا عن التحديات التي واجهتهم في تلك الفترة.
من منظور أوسع، توفر هتافات كرة القدم إحساسًا بالهوية الجماعية والشعور بالانتماء، كما يوضح عالم الموسيقى كريستوفر سمول، الذي يرى أن الطقوس العلمانية مثل الهتافات تتيح للمشاركين فرصة “الاحتفال بالمجتمع” و”استكشاف هويتهم” من خلال الأداء الجماعي. بهذه الطريقة، تصبح هتافات كرة القدم وسيلة للتعبير عن الانتماء والاتصال العاطفي بالمجتمع الذي يشاركهم نفس القيم والمعتقدات.
يدعم عالم الاجتماع ريتشارد شيشنر هذه الفكرة حول هوية المجموعة والاتصال العاطفي، حيث يركز في دراسته على مفهوم عبور الحدود، سواء كانت جغرافية، سياسية، عاطفية أو شخصية. هذا المفهوم يتجلى في هتافات كرة القدم، حيث يتم تحويل أغاني البوب أو الشعبية أو الدينية إلى سياق جديد داخل الملاعب. في هذه الحالة، لا يتعلق الأمر بالنص الأصلي للأغنية، بل بطريقة أدائها من قبل المشجعين، الذين يعبرون من خلالها عن مشاعر الفخر والإثارة، مما يولد لديهم مشاعر أخرى مثل الفرح أو الحنين. لذلك، يعتبر فهم أسلوب أداء الهتافات ضروريًا لفهم العواطف التي تولدها.
على سبيل المثال، قد لا نفهم المعنى الحرفي لهتاف مثل “غزالة حمرا” الذي أداه اللاعب إمام عاشور، ولكن الأهم هو أن مثل هذه الهتافات تُعد مفتاحًا للتعبير العاطفي لدى المشجعين. وهي تمثل أيضًا جزءًا من الأهمية الثقافية والاجتماعية والسياسية المرتبطة بأداء هذه الهتافات في عالم كرة القدم. ورغم بساطة هذه الهتافات في ظاهرها، إلا أنها تحمل سياقًا غنيًا يعبر عن الكثير من المعاني الخلفية والداخلية التي قد تكون فاتتنا خلال هذا الموسم.