تداعيات إلغاء تكليف الأطباء في مصر

قرار إلغاء تكليف الأطباء يثير مخاوف بشأن مستقبل الرعاية الصحية في مصر، ويزيد من القلق حول تأثيره على المواطنين وسط توجهات نحو خصخصة القطاع الطبي.
Picture of رشا عمار

رشا عمار

يواجه القطاع الطبي في مصر العديد من الأزمات المتراكمة، التي نتجت عن سياسات خاطئة استمرت لسنوات، وأدت إلى تشكل منظومة صحية مترهلة ومأزومة، وفقًا لما وصفه محللون تحدثت إليهم زاوية ثالثة. يتصدر نقص أعداد الأطباء ومقدمي الخدمات الصحية في المستشفيات قائمة هذه الأزمات، إلى جانب التدهور المستمر في أوضاع الأطباء، مما يدفع العديد منهم للهجرة خارج البلاد. ومع تزايد نقص الخدمات العلاجية والأدوية في الآونة الأخيرة، يواجه المواطن المصري مشقةً إضافية في الاعتماد على النظام الصحي الحكومي، الذي كان ولا يزال الملاذ الأساسي له.

وقد أثار قرار نشرته مؤخرًا نقابة العلاج الطبيعي عبر صفحتها الرسمية على (فيس بوك) بخصوص إلغاء نظام التكليف للأطباء وتقييد التعيين بالمستشفيات بناءً على حاجة تحددها وزارة الصحة، جدلًا واسعًا وتحذيرات من انهيار منظومة العلاج الحكومي. يزداد القلق مع تزامن هذا القرار مع الموافقة الرسمية على قانون يسمح بتأجير المستشفيات الحكومية للقطاع الخاص، ما يوصف بأنه خطوة نحو خصخصة القطاع الطبي في مصر.

وخلال المنشور، حذّرت نقابة العلاج الطبيعي طلاب الثانوية العامة قبل الالتحاق بالكليات الطبية التي تشمل الطب البشري، وطب الأسنان، والعلاج الطبيعي، والصيدلة، والتمريض، مؤكدة أن وزارة الصحة المصرية قررت أن تكليف الخريجين لم يعد إلزاميًا، بل سيتم وفق احتياجات سوق العمل. ويقصد بتكليف خريجي الكليات الطبية في مصر توظيفهم في المستشفيات والمراكز الطبية الحكومية مباشرة بعد التخرج، وقضاء “سنة الامتياز”، وهي سنة إلزامية للطلاب بعد إنهاء المقررات الدراسية، يمارسون خلالها تدريبات سريرية في المستشفيات أو المراكز الحكومية، ولا يُعتبر الطالب مؤهلًا لممارسة المهنة إلا بعد اجتياز هذه المرحلة.

وتكليف الأطباء في مصر يعني تعيينهم في المستشفيات والمراكز الصحية الحكومية فور تخرجهم، حيث يبدأون العمل بعد إتمام “سنة الامتياز”

يمنح القانون وزارة الصحة الحق في تكليف خريجي الكليات الطبية بشكل إجباري للعمل في المستشفيات الحكومية أو الوحدات التابعة لها، إذ ينص القانون رقم 29 لسنة 1974 على أن: “لوزير الصحة تكليف خريجي كليات الطب، والصيدلة، وطب الأسنان، والمعاهد، والمدارس، والمراكز التي تعد أو تخرج أفراد هيئات التمريض والفنيين الصحيين وغيرهم من الفئات الطبية والفنية المساعدة للعمل في الحكومة أو في وحدات الإدارة المحلية أو الهيئات العامة أو المؤسسات العامة والقطاع الخاص، لمدة سنتين، مع إمكانية تجديد التكليف لمدد أخرى مماثلة.”

وأعقب الإعلان عن القرار حالة من التضارب في التصريحات الحكومية حول تنفيذه؛ لكن نقيب الأطباء، أسامة عبد الحي، أكد في  تصريحات صحفية أن “اللجنة العليا للتكليف في وزارة الصحة قررت في عام 2022 أن يكون تكليف خريجي الكليات الطبية وفقًا للاحتياجات، أي العجز في المستشفيات والوحدات الصحية، بداية من عام 2025.”

وفي السياق نفسه، أضاف خالد أمين، الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن القرار قديم والغرض منه في الوقت الراهن هو إثارة “الترند” بالتزامن مع تنسيق الجامعات لطلاب الثانوية العامة، قائلًا: “ولا نعلم من المسؤول عن هذا.” وأوضح أن قرار التعيين وفق الحاجة تم إقراره في نوفمبر 2022 من قبل اللجنة العليا للتكليف، وتمت الموافقة عليه من رئيس الوزراء، وبناء عليه سيجري التعيين وفق الحاجة بداية من 2025 لجميع أعضاء المهن الطبية. وأشار إلى أن الهدف من القرار هو إعادة توزيع التخصصات بحيث يتم تغطية النقص في بعض التخصصات والتعامل مع الزيادة الكبيرة في تخصصات مثل الصيدلة وطب الأسنان والعلاج الطبيعي.

وأوضح أمين أن وزارة الصحة تواجه مشكلة كبيرة ناتجة عن زيادة أعداد هذه التخصصات مقارنة بأعداد السكان، وتحاول اتخاذ إجراءات لمعالجة هذه الأزمة كجزء من الحل. وأشار إلى أن هذه الزيادة تعود جزئيًا إلى الثقافة الخاطئة لدى الطلاب حول ضرورة الالتحاق بكليات القمة، بالإضافة إلى اللجوء إلى الكليات الخاصة وكليات الطب في الخارج. وأضاف: “الجزء الأهم من المعالجة يتعلق بالخريجين أنفسهم، حيث إن استمرار منح تراخيص للكليات الخاصة في تخصصات الطب والصيدلة دون وضع اشتراطات ومعايير حاسمة أدى إلى تفاقم الأزمة بشكل كبير جدًا.”

في المقابل، علق أطباء وناشطون في القطاع الطبي على القرار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرين إلى أن إلغاء التكليف سيكون تمهيدًا لخصخصة الخدمات الصحية وبيع المستشفيات في مصر، خاصة وأن الحديث عن إلغاء التكليف الإجباري للأطباء والتمريض والصيادلة يتزامن مع صدور قانون تأجير المستشفيات الذي يسمح للحكومة بمنح حق إدارة وتشغيل المستشفيات الحكومية للمستثمرين المصريين أو الأجانب، بدعوى تشجيع الاستثمار في القطاع الصحي. ويسمح القانون للحكومة المصرية بتأجير المستشفيات الحكومية لمدة لا تقل عن ثلاثة أعوام ولا تزيد عن 15 عامًا.

وفي تعليق له، أكد المحامي الحقوقي محمود فؤاد، المدير التنفيذي لجمعية الحق في الدواء، في حديثه إلى زاوية ثالثة، أن قرار إلغاء التكليف مرتبط بشكل مباشر بقانون تخصيص المستشفيات الذي أقرته الحكومة مؤخرًا بهدف تقليص الإنفاق على المرافق الصحية، وهو ما يتماشى مع التزامات مصر أمام صندوق النقد الدولي بتقليص النفقات والرواتب.

وأوضح فؤاد أن الحكومة تسعى لتخفيض الإنفاق الكلي على الصحة، وقد بدأت برفع أسعار الكشوفات والأدوية، ثم اتجهت نحو تخصيص المرافق الصحية. وبدأت بمستشفى مبرة المعادي، وسيتم تأجير نحو 360 مستشفى وفق القانون الجديد. الهدف هو تمهيد الطريق للمستثمرين في القطاع الصحي، خاصة أن القانون يمنحهم الحق في تعيين عمالة أجنبية دون تحديد نوعها، سواء كانوا أطباء، ممرضين، صيادلة أو غيرهم. ولذلك يعتبر إلغاء التكليف خطوة جديدة على أجندة الحكومة الرامية لتقليل النفقات ودعم المستثمرين في القطاع الصحي، مما سيزيد من أعباء المواطن الذي سيتحمل ارتفاعًا كبيرًا في أسعار الخدمات الصحية.

وأشار فؤاد إلى العجز الذي تعاني منه عدة قطاعات صحية، خاصة في تخصصات التخدير، الأوعية الدموية، والمخ والأعصاب. وأضاف أنه كان من المفترض أن تعمل الحكومة على زيادة أعداد هذه التخصصات بدلاً من إلغاء التكليف وتقليصها. في المقابل، هناك زيادة في عدد الأطباء في تخصصات مثل الصيدلة وطب الأسنان، لكن العجز الكبير في تخصصات أخرى يتطلب دعمها.

وأضاف فؤاد: “أعضاء القطاع الطبي في مصر يفضلون الهجرة للخارج بسبب بيئة العمل السيئة وتدني الأجور وغيرها من الأزمات اليومية. ومن المتوقع أن يؤدي تخصيص المستشفيات إلى الاستغناء عن عدد كبير من العاملين لتقليل النفقات وزيادة أرباح المستثمر، وهو ما سيدفع المواطن ثمنه بارتفاع تكلفة كافة الخدمات الصحية المقدمة له.”

وفي 24 يونيو الماضي، صدق الرئيس عبد الفتاح السيسي على مشروع قانون يمنح التزام المرافق العامة لإنشاء وإدارة وتشغيل المنشآت الصحية، ما يفتح الباب أمام خصخصتها ودخول القطاع الخاص في شراكة مع الحكومة لإدارتها وتشغيلها. ونصت المادة الأولى من القانون، وفق ما نشر في الجريدة الرسمية في عددها رقم 25 مكرر الصادر في 25 يونيو، على أن تسري أحكام هذا القانون بشأن تنظيم منح التزام المرافق والقانون المرافق له لإنشاء وإدارة وتشغيل وتطوير المنشآت الصحية.

نوصي للقراءة: الحكومة تُقيد الحق في الصحة: لائحةٌ جديدة تُعيدنا إلى الوراء

 

 كيف تتعامل مصر مع عجز الأطباء؟

تواجه مصر أزمة كبيرة في عجز أعداد الأطباء، حيث يبلغ معدل الأطباء 8.6 طبيب لكل عشرة آلاف مواطن، أي أقل من طبيب لكل 500 مواطن، بينما يبلغ المعدل العالمي حوالي 23 طبيبًا لكل عشرة آلاف مواطن. هذا العجز يثير تساؤلات هامة حول كيفية تعامل الدولة مع هذه الأزمة المتفاقمة.

وفقًا لبيانات وزارة الصحة المصرية، يتخرج حوالي تسعة آلاف طبيب سنويًا، لكن أكثر من 60% منهم يختارون العمل خارج مصر. في عام 2018، حذرت دراسة حكومية من انخفاض عدد الأطباء العاملين، حيث أظهرت أن من بين 213 ألف طبيب مرخص لهم مزاولة المهنة، يعمل فقط 82 ألفًا فعليًا في مختلف الجهات الصحية، ما يمثل 38% فقط من القوة الأساسية. هذه الأرقام تسلط الضوء على أزمة هجرة الأطباء إلى الخارج وترك المنظومة الصحية في مصر في حالة من العجز.

كما أفاد الجهاز المركزي للإحصاء بانخفاض عدد الأطباء إلى 97.4 ألف طبيب في عام 2022، مقارنة بـ100.7 ألف في عام 2021، بانخفاض نسبته 3.3%.

رغم هذا العجز الهائل، تبرر الحكومة قرار إلغاء التكليف بأنه يهدف إلى الحد من الزيادة الكبيرة في أعداد الخريجين. لكن هذا القرار يثير تساؤلات حول كيفية تأهيل الخريجين وتوزيع الأطباء في مصر، ومن المسؤول عن سوء توزيع الأطباء؟ ولماذا يهاجر أكثر من نصف الأطباء بينما يعاني القطاع الصحي من عجز كبير؟

يقول أستاذ الروماتيزم بكلية الطب جامعة سوهاج، أحمد رشدي العجمي، إلى زاوية ثالثة إن القرار الجديد يعني فعليًا إلغاء التكليف لخريجي كليات الطب، رغم التبريرات التي تؤكد أن عملية التعيين ستتم وفقًا للحاجة، ويتساءل العجمي: إذا كان تعيين الأطباء سيتم وفقًا للحاجة، فما المعايير التي سيتم التكليف وفقًا لها وأي جهة ستضعها؟ وهل ستشارك الأطباء بالقرار، أم ستكون قرارات منفردة؟. 

ويضرب مثالًا على إلغاء التكليف في السابق في كليات التربية وما نتج عنه من بطالة لمئات الآلاف من المدرسين، بينما تعاني قطاعات الوزارة عجزًا قد يصل إلى (300) ألف معلم، ويعاني ما يقرب من نصف مليون خريج سنويًا بسبب البطالة، الأمر نفسه يمكن قياسه على الأطباء في حال تطبيق هذا القرار، حسب “العجمي”. 

يقول: يعاني الأطباء في مصر من مشكلتين رئيسيتين؛ الأولى عجز الأعداد والثانية تتعلق بسوء التوزيع. في محافظة سوهاج – على سبيل المثال- هناك 90 طبيب متخصص نساء وتوليد بمستشفى سوهاج العام، هذا عدد مناسب لتغطية المحافظة بالكامل، لكن بسبب سوء التوزيع نجد مثلًا مركز دار السلام لا يوجد به طبيب نساء واحد، كان هناك طبيب، وأحيل للمعاش”. 

ويضيف: “نحن نتحدث هنا عن تخصصات حيوية وهامة، قد تضطر سيدة وأسرتها للانتقال مسافة طويلة جدًا إذا تعرضت لأي طوارئ أثناء الحمل، ما يمثل خطورة عليها”، مشيرًا إلى أهمية تكليف الطلاب الخريجين من كليات الطب لمنحهم الخبرة الكافية وتدريبهم في المراكز الطبية والوحدات الصحية الحكومية على ممارسة المهنة، مؤكدًا أن مرحلة التعلم الحقيقي تبدأ بعد التخرج، وخلال هذه الفترة يقوم الخريج بالتسجيل لدى وزارة الصحة كطبيب ثم التسجيل تباعًا لدى الجامعة لمتابعة الدراسات العليا في تخصصه، ما يضمن إعداده لسوق العمل.” 

يبين “العجمي” أنه في حال إلغاء قرار التكليف يصبح الخريج طبيب حر، وهنا ستحدث مشكلة تتعلق بإجراءات استكمال الدراسات العليا التي تعد ضرورة إلزامية لممارسة مهنة الطب، اختيار التخصصات في قطاع الصحة يتم وفق ما يشبه تنسيق داخلي، لدينا مثلًا هذا العام 100 طبيب، نحتاج منهم عشرة في تخصص الباطنة ومثلهم في الجلدية وخمسة في تخصص النساء والتوليد، وكذلك يتم تقديم الطلبات من جانب الطلاب ويتم دراستها من جانب وزارة الصحة وإرسالها للجامعات وفق احتياجات القطاعات، الجامعة تتعامل مع هيئات الدولة المختصة وليس جهات خارجية. هذه مشكلة أخرى سوف تواجه الخريجين”. 

ويشرح: “خريج كلية الطب لا يمكنه البدء بمزاولة المهنة قبل تلقي التدريبات اللازمة من الكفاءات الطبية، وذلك يحصل عليه الطبيب بعد تخرجه من خلال الجهة الطبية التي يعمل بها وفق أمر التكليف. وإذا كانت الضرورة مُلحة لإلغاء التكليف للأطباء يمكن استبدال فترة التوظيف بتدريب أو تكليف مؤقت، له نفس المزايا القائمة، لمدة محددة تضمن تلقي الأطباء للخبرة اللازمة وتأهيلهم لسوق العمل، وخلال هذه الفترة يتمكن الخريج من استكمال الدراسات العليا دون أية مُشكلات إجرائية”. 

تعاني كافة القطاعات الطبية في مصر من عجز في أعداد الأطباء – بحسب العجمي-؛ ما يجعل الضغط متزايدًا على مراكز المحافظات والمستشفيات العامة، “في حال تعرض للمواطنين لظروف طبية طارئة، يضطر المواطن في بعض الحالات لسفر ما يزيد عن 100 كيلومتر، لتلقي خدمة علاجية لعدم توافر الإخصائي في مركزه، ما يعرض حياته للخطر، لذلك لابد من توفير كافة التخصصات في المراكز الفرعية؛ خاصة أطباء الجراحة وغيرها من التخصصات التي تحتاج تدخلًا عاجلًا”، مشيرًا إلى ضرورة حل مشكلات الأطباء قبل إلغاء التكليف، لعدم إجبارهم على السفر للخارج بحثًا عن الاستقرار الوظيفي وتحسين مستوى المعيشة. 

ويشير “العجمي” إلى نقطة ثانية تتعلق بتخوف الأطباء في أحيان كثيرة من تقديم دعم في غير تخصصاتهم، خشية المساءلة القانونية أو الاعتداء من جانب الأهالي، وفي حالة أن الطبيب استقبل حالة في غير تخصصه وقدم لها الدعم ونجم عن ذلك أي خطأ غير مقصود، يتم التشهير به ومحاسبته وسجنه في أحيان كثيرة، الأمر الذي جعل الأطباء يستخدمون ما يعرف بـ”الطب الدفاعي”، موضحًا: “في بعض المستشفيات، قد يتواجد الجراح، لكن لا يتوفر طبيب تخدير، وبالتالي لا يمكن أن يمارس الجراح عمله إلا بتوفير الطبيب المسؤول عن التخدير، خشية الوقوع في مشاكل و مساءلات قانونية، رغم أن الطبيب يكون لديه الدافع الأخلاقي والإنساني لإنقاذ المريض أو المصاب في أسرع وقت”.

نوصي للقراءة: قانون الخصخصة يهدد مستقبل الرعاية الصحية بمصر

 

 

لماذا يهرب الأطباء من مصر؟

ذكرت بيانات نقابة الأطباء المصرية، أن نحو 11 ألفًا و536 طبيبًا استقالوا من العمل الحكومي خلال ثلاث سنوات فقط في الفترة من 2019 وحتى مارس 2022. بحسب تلك البيانات، فإن عام 2022 شهد استقالة أكثر من 4300 طبيب مصري يعملون بالمستشفيات الحكومية، ويمثل العدد الأكبر خلال السنوات السبع الماضية، بمعدل يصل إلى 13.5 طبيب كل يوم، إذ تضاعف أربعة مرات من 1044 استقالة عام 2016 إلى 4127 استقالة عام 2021.

ووفق نقابة الأطباء المصرية، فإن متوسط راتب الطبيب المقيم في مصر 3700 جنيه مصري، ومتوسط معاش الطبيب بعد نحو 35 عامًا من العمل الحكومي 2300 جنيه، بينما أشارت هيئة التأمين الصحي إلى أن متوسط راتب الطبيب في نظام التأمين الصحي الشامل الذي تم تطبيقه في بعض محافظات مصر يصل إلى 17 ألف جنيه في الشهر.

وفي أبريل 2022 أصدرت نقابة الأطباء المصرية، تقريرًا بعنوان “نقابة الأطباء تدق ناقوس الخطر”، حذرت فيه من استمرار عزوف الأطباء عن العمل في القطاع الحكومي، وتزايد سعيهم للهجرة خارج البلاد.

يصف عضو مجلس النقابة السابق، أحمد حسين، وضع الأطباء في مصر بأنه “منهار” وينتقل من سيء إلى أسوأ، وبدلًا عن توفير وتفعيل خطة للإنقاذ وتحسين الوضع الراهن، يتم ممارسة خطط تبدو ممنهجة لاستبدال الأطباء الأكفاء والمتميزين بخريجين من كليات الطب ليسوا مؤهلين لمزاولة المهنة. 

يقول في حديثه معنا إن “الظروف التي يعيشها القطاع الصحي في مصر تجبر الأطباء الأكفاء على الهجرة خارج البلاد، فيما يجري بشكل ممنهج استبدالهم بمجموعة من الخريجين الذين التحقوا بكليات الطب نتيجة الغش في الثانوية العامة. موضوع التعيين حسب الاحتياج قديم وغير قابل للتطبيق، في الوقت الراهن تعاني مختلف القطاعات من نقص في أعداد الأطباء، لذلك يبدو من غير المنطقي إلغاء قرارات التكليف”. 

يعتقد “حسين” أن ما سيحدث بناء على القرار يعد “تعسيفًا للأطباء”، وتوزيعهم وفق ما يتراءى لجهة العمل، وليس الغرض منه إلغاء التكليف، لكن ما سيحدث هو إلغاء نظام الرغبات والتوزيع الجغرافي بناء على المجموع والاعتماد على رأي الجهة المختصة بالتوزيع فقط، دون مقاييس محددة. 

ولا يتوقع، عضو النقابة السابق، أن يتم إلغاء التكليف قبل عشر سنوات على الأقل، وفق الحاجة الراهنة للأطباء بمختلف القطاعات الصحية، لكن الإجراءات الجديدة من شأنها مضاعفة الأزمات التي تعاني منها المنظومة الصحية في مصر وخاصة المشكلات التي تواجه الأطباء. 

يقول: التعليم الجامعي الطبي يعاني من مشكلة كبيرة تتعلق بالغش، خلال الثانوية العامة، بعض الكليات لم تتجاوز نسبة النجاح فيها 25٪، وبالتالي هناك عدد كبير من خريجي كلية الطب غير مؤهلين، وبالتالي لا يمكن الاعتماد عليهم، ومن المتوقع أن يتم استبدال الأطباء المتميزين لصالح هؤلاء، وذلك خطر جاسم يواجه القطاع الصحي مستقبلًا. 

ويفند عضو مجلس نقابة الأطباء السابق، أهم المشكلات التي تواجه القطاع الطبي والأطباء في مصر؛ أولًا: فقدان الأمان المهني، وتعرض الأطباء بشكل مستمر للاعتداءات من جانب الأهالي، أو المساءلة الجنائية والحبس لأي سبب يتعلق بالأخطاء غير المقصودة، ثانيًا: عدم الأمان الوظيفي والتعسف من جانب وزارة الصحة والجهات المعنية ومن بينها تعديل إجراءات التكليف والتمييز بين الخريجين، ثالثًا: تدني الأجور وعدم توفير مقابل مادي عادل للطبيب، فضلًا عن وضع العراقيل والصعوبات المادية أمام الدارسين، مشيرًا إلى القرار الأخير بمضاعفة أسعار تسجيل الدراسات العليا؛ ما يشكل عائق إضافي أمام الطبيب يفوق مقدرته المادية.

ويواجه الأطباء – وفق حسين-، ضغطًا نفسيًا كبيرًا يتعلق بتعمد تشويه صورتهم، وإبراز السلبيات والترويج لها بشكل كبير، وهنا يؤكد أن الأطباء ليسوا جميعًا ملائكة، والأخطاء واردة لكن في بعض الأحيان يبدو الأمر أقرب إلى حملات ممنهجة لاستهداف الأطباء والضغط عليهم.

في حين لا يرى خالد سمير – أستاذ جراحة القلب بطب عين شمس، أمين صندوق نقابة الأطباء السابق-، عيبًا في مسألة التعيين، وفق الحاجة، منتقدًا توجهات (الفكر الشيوعي) بتوفير فرص عمل لجميع الخريجين، مهما كانت أعدادهم دون وجود حاجة ضرورية لهم، يضيف: “تم إلغاء التكليف في كافة المجالات في مصر – ماعدا المجال الطبي- وكان هناك نقاش منذ عشر سنوات، خاصة حول كليات الصيدلة والعلاج الطبيعي، في ضوء زيادة أعداد الخريجين بشكل كبير مقارنة بالمطلوب، يتفق حول الأوضاع السيئة للأطباء في مصر”. 

يشير في حديثه إلى زاوية ثالثة إلى أن التعيين الخاص بالصيدلة توقف منذ سنوات بالفعل، نظرًا لزيادة أعداد الخريجين عن الحاجة، وكذلك بالنسبة لكليات الطب، خلال الفترة الماضية تم فتح كليات طب (خاصة) بأعداد كبيرة، دون الاحتياج لهذه الأعداد، مستدركًا أن مشكلة مصر ليست في أعداد الخريجين من كليات الطب، لكن بسبب هجرة عدد كبير من الأطباء إلى خارج البلاد بسبب تدني الأوضاع المعيشية، والأزمات الطاحنة التي يعانون منها وسوء المعاملة سواء على المستوى المادي أو الضغوط النفسية المستمرة التي يتعرضون لها.

 ويوضح: “ما يعانيه الأطباء في مصر غير موجود في أي دولة في العالم، الطبيب يتقاضى راتب زهيد  ثلاثة آلاف جنيه شهريًا، ناهيك عن الإهانات والاعتداءات المتكررة التي يعاني منها الأطباء من أهالي المرضى، وعدم شعورهم بأي أمان على المستوى المهني أو الوظيفي.” 

أيضًا يتعرض الأطباء – بحسب سمير- إلى ضغط مستمر بسبب تصريحات بعض المسؤولين، التي تحمل الطبيب مسؤولية أية أخطاء وتدعي توافر كافة الإمكانيات داخل المستشفيات،؛ ما يتسبب في حالة شحن من جانب الأهالي والمواطنين ضد الأطباء، تصل في بعض الأحيان للاعتداء بالسلاح. 

يضيف: “تطبق معظم دول العالم ما يعرف بنظام الهيكل الطبي، ما يعني توافر عدد معين من الأطباء وطواقم التمريض والمساعدين، ومعروف الأماكن الشاغرة، وعلى أساسها يتم الإعلان عن الوظائف الخالية، لكن في مصر هناك سوء توزيع، قد يعين طبيب داخل القاهرة زيادة عن الحاجة، رغم الحاجة المُلحة له بمحافظة أخرى، الحل أن يكون هناك عدالة بمعنى طرح الوظائف وفق الاحتياج في مختلف محافظات الجمهورية ومن يرغب ويجد المكان مناسبًا له يتقدم”، مشيرًا إلى أهمية إجراء اختبارات حقيقية لمنح التراخيص للأطباء الجدد، خاصة أن الاختبارات التي تجري في الوقت الراهن مجرد اختبارات صورية لجمع المال من الخريجين، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه ستدفع الدولة والمواطن ثمن ذلك، وستنهار المنظومة.

 

 

أين يذهب الفقراء؟ 

يعتمد الغالبية العظمى من المصريين على القطاع الصحي الحكومية كمصدر رئيس لتلقي الرعاية الصحية، ويكفل الدستور ذلك بموجب المادة رقم “لكل مواطن الحق في الصحة وفي الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة، كما تكفل الدولة الحفاظ على مرافق الخدمات الصحية العامة التي تقدم خدماتها للشعب ودعمها والعمل على رفع كفاءتها وانتشارها الجغرافي العادل.”

تُشغل مصر 662 مستشفى حكومي بتكلفة 147.8 مليار جنيه مصري، تُقدم خدماتها الصحية للمواطنين برسوم رمزية، وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وشهدت السنة المالية 2023-2024، التي انتهت في يونيو 2024، تخصيص 147.8 مليار جنيه مصري للإنفاق على قطاع الصحة، وهو ما يعادل 3.1 مليار دولار، يُعد هذا الرقم زيادة عن السنة المالية السابقة 2022-2023، حيث بلغت ميزانية الصحة 128.1 مليار جنيه مصري.

وقد بلغ إجمالي عدد المستفيدين من التأمين الصحي 57 مليون مواطن حتى عام 2020، بحسب تقديرات جهاز الإحصاء، كما قُدرت عـدد المنشآت الصحية التابعة للقطاع الحكومي والخاص في مصر عام 2020 بنحو 2034 منشأة، وبلغت تكلفة تطوير البنية التحتية والتجهيزات الطبيـة بعـدد 18 مستشفى جامعي نموذجي شاملة أقسام ومستشفيات الطوارئ 2.7 مليار جنيه.

بالرغم من ذلك، لا توجد خطط واضحة لإنقاذ القطاع الصحي في مصر، فوفق تقدير نقابة الأطباء المصري في مارس 2023، لا يوجد أي توجه حقيقي وفعل يؤيد إعلان الحكومة تفهم المشكلات وتصريحاتها بسعيها لحلها، فعجز الأطباء في تزايد نتيجة بيئة العمل غير الصالحة بدءاً من الاعتداءات المتكررة مروراً بتدني الأجور و تعرضهم للسجن في القضايا المهنية والتعسف الإداري.

 ويلحق القطاع الخاص بنظيره الحكومي – بحسب النقابة-، في نوعيات المشكلات التي تضاف إليها تعمد عديد من الجهات لتحصيل رسوم واشتراطات تعجيزية يصعب معها الاستمرار في تقديم خدمة طبية مرضية للمريض المصري ومقبولة التكلفة”. واليوم يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا المتعلق بالمواطن.. أين يذهب لتلقي العلاج؟

رشا عمار
صحفية مصرية، عملت في عدة مواقع إخبارية مصرية وعربية، وتهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية.

Search