“هتاف خارج السرب”.. كيف فقد المنتخب المصري صلته بالجمهور؟

فالذي حدث لم يكن انقلابًا على كرة القدم، بل على ما تمثّله حين تُفرَّغ من معناها. لم تعد الجماهير تبحث عن نصرٍ في الملعب، بل عن صدقٍ في الوجوه. وحين غابت هذه الصدق، انطفأت المدرجات من تلقاء نفسها، لأن الحماس لا يُفرض بالنداء ولا بالفتوى.

محمود سعيد

إن كنت من عشّاق السينما المصرية بحق، فربما لا يزال ذلك المشهد عالقًا في ذاكرتك: محمد شرف في ظرف طارق، جالس إلى جوار أحمد حلمي ومجدي كامل، يتابعون مباراة للمنتخب المصري. لحظة دخول الهدف في مرمانا كانت كفيلة بإشعال الغضب في الوجوه، لكن شرف، على عكس المألوف، ابتسم، هلّل، وصفّق للفريق المنافس. ارتبك الجالسون، وضحك الجمهور، لكن خلف الكوميديا تلك، كانت فكرة أعمق عن الانتماء، والخذلان، والفرح حين لا يجد المرء نفسه في ما يُفترض أنه “يمثّله”.

تذكّر المشهد كاملًا… فربما تجد فيه ملامح ما نعيشه اليوم.

 

حسنًا، يبدو أن المشهد لم يبقَ حبيس شاشة السينما، بل خرج منها وسار على قدمين بيننا.

فما كان خيالًا في فيلم، صار واقعًا يطلّ علينا من شاشات الهواتف. ظاهرة غريبة بدأت تتسع في فضاء السوشيال ميديا: جماهير مصرية تُدير ظهرها لمنتخبها، وتعلن بلا مواربة أنه لم يعد يمثّلها.

تتعدد التفسيرات، لكن السؤال واحد يلحّ في الأذهان: ما الذي تغيّر؟ وما الذي انكسر بين الناس وما كانوا يرونه يومًا رمزًا لوحدتهم؟

هتاف خارج السرب

ليست الإجابة لغزًا. فالتحول في نظرتنا إلى كرة القدم ليس سوى انعكاس لتحول أعمق، مسّ وعينا كله بعد السابع من أكتوبر. يومها عادت فلسطين إلى مركز الصورة، لا كخبرٍ عابر، بل كجرح مفتوح في ضمير العالم.

منذ ذلك اليوم، والعالم يشهد مجازر تتلوها مجازر: قصف المستشفى المعمداني، مذبحة مخيم جباليا، إبادة عائلات بأكملها في غزة وطولكرم، واستهداف مدارس الأونروا، والأطباء، والصحفيين، وحتى من يرفعون الأنقاض بأيديهم. مقابر تُنبش، وأجساد تُعدم ميدانيًا، وشعب يُجوّع أمام الكاميرات.

وفي المقابل، تتجلى صلابة المقاومة، وتعود اللغة القديمة لمناهضة الاستعمار إلى الواجهة، لا باعتبار الاحتلال شذوذًا عن التاريخ، بل امتدادًا له. تتبدّل النبرة في العالم، وتنتصر السردية الفلسطينية على آلة الدعاية الصهيونية، ولو خطوة بخطوة.

هكذا أصبحت فلسطين، من جديد، البوصلة التي تعيد لنا المعنى، وتذكّرنا بما غاب عن أذهاننا طويلاً: أن قضايا الشعوب لا تموت، لكنها تصمت حين ننشغل بتوافه الحياة عن جوهرها.

ألم تشعر أن وائل الدحدوح، حين وقف أمام الكاميرا بعد أن فقد عائلته كلها، كان أكبر من مهنته، وأعمق من حزنه؟
ذاك الثبات الذي لم يهتز رغم كل شيء، لم يكن مشهدًا عابرًا في نشرات الأخبار، بل درسًا في المعنى الإنساني نفسه. دموعنا لم تنزل فقط تأثرًا، بل لأنها أيقظت فينا شيئًا كدنا نفقده: أن فلسطين ليست حدثًا سياسيًا، بل مِحكّ لضمير العالم، ولوعينا نحن أيضًا.
ولعل تلك العودة الوجدانية هي ما جعلت ملايين يقاطعون المنتجات الداعمة للكيان الصهيوني دون دعوة أو تنظير؛ كأنهم يكتشفون للمرة الأولى قدرتهم على الفعل.

هذا الوعي المتجدد لا يظهر كانفعال عابر، بل كتسمية دقيقة لما وصفه الباحث المغربي فتح الله ولعلو في دراسته المنشورة بمركز السياسات من أجل الجنوب الجديد بعنوان تاريخ مظلمة. لم يكن يتحدث عن حدثٍ واحد، بل عن منظومة ممتدة.
من النكبة عام 1948 التي حوّلت شعبًا كاملًا إلى لاجئين، إلى منظومة قانونية تُحكم السيطرة على الأرض والموارد، ثم إلى احتلال 1967 وما تلاه من مستوطنات وجدران، وصولًا إلى حصار غزة الذي جعل من الحياة اليومية عقابًا جماعيًا.
وفي خلفية كل ذلك، آلة إعلامية تصوغ الرواية على هواها بثلاث حيلٍ متكررة: نزع السياق ليبدو العنف كأنه وُلد من فراغ، مساواة زائفة بين طرفين لا تكافؤ بينهما، واعتماد صيغة المجهول لإخفاء الفاعل.
هكذا، يصبح وصف “تاريخ مظلمة” ليس نواحًا، بل تشريحًا لبنية قوة تُنتج الظلم يومًا بعد يوم، وتجعل من فعل المقاومة، ومن التضامن ذاته، ضرورة أخلاقية لا خيارًا سياسيًا.

 

 

الدورات الرمضانيّة: من فنّ الشارع والكرة إلى فنّ التسييس

هجوم “صلاح”

ومع هذا التحول العميق في الوعي الجمعي، كان طبيعيًا أن تمتد موجته إلى كل ما كان يومًا رمزًا للهوية والانتماء، حتى كرة القدم.  فلم تعد الجماهير تنظر إلى المنتخب كما كانت تفعل من قبل، ولا إلى لاعبيه كأبطالٍ يرفعون الراية، بل كمرايا تعكس المسافة المتزايدة بين الشعب ومَن يفترض أنهم يمثّلونه.  من هنا يمكن فهم الهزة التي أصابت العلاقة بين الجماهير ومحمد صلاح تحديدًا، ذلك الرمز الذي تجاوز حدود الملعب ليصبح “نموذجًا مصريًا” للعالم، قبل أن يتحول فجأة إلى مرآة تُظهر ما لا نحب أن نراه في أنفسنا: البُعد، الصمت، والتبرؤ من القضايا الكبرى. لكن قبل أن نحاكم صلاح أو نبرّئه، علينا أن نتذكر كيف كانت الأمور قبل أعوام فقط، حين كان التشكيك في المنتخب جريمة شعورية.

تذكّر مشهد ظرف طارق من جديد: كيف تعامل أحمد حلمي ومجدي كامل مع زميلهما الذي هلّل للفريق المنافس وكأنه ارتكب خيانة وطنية.  قد تكون الكوميديا بالغت، لكنها لامست الحقيقة بدقة. ففي وجدان المصريين آنذاك، من لا يهتف للمنتخب، لا يهتف لمصر. كان الانتماء كرويًا بقدر ما هو وطني، وكانت الهتافات في المدرجات جزءًا من فكرة الوطن نفسه.

أما الآن فالصورة تختلف. لو وقفت في وسط القاهرة في ذروة الزحام وأعلنت أنك تقاطع مباريات المنتخب ولا تراه ممثلًا لك، فلن تنهال عليك الاتهامات كما كان يحدث قديمًا. ستجد من يومئ برأسه كمن وجد جملة جاهزة لما يعتمل في صدره، وستجد من يتحفظ بدافع حنين قديم، ومن يجاملك بالكلام ثم يتراجع خوفًا من كسر عادة متوارثة. ما الذي تغيّر إذن؟ لم يتبدل المزاج الرياضي فقط، بل معنى التمثيل نفسه. الجماهير لم تعد تمنح شارة الانتماء مجانًا، وصارت تقيس الرموز بمعيار أخلاقي لا بمعيار الألوان والأناشيد. الملعب لم يعد مساحة فرجة، بل امتحانًا صغيرًا لفكرة المواطنة. وحين تفشل الرموز في هذا الامتحان، يتكلم الصمت في المدرجات أكثر من كل الهتافات.

صدق أو لا تصدق، هذا التحول لم يبقِ أثره في النقاش العام فقط، بل وصل إلى المقاعد الخرسانية نفسها. مدير المنتخب محمد خالد غرابة يشتكي بعد مباراة جيبوتي من غياب الجماهير، والمدير الفني روي فيتوريا يتلفت في استاد القاهرة فلا يرى سوى بضعة آلاف متباعدين في بحر من المقاعد الفارغة. حازم إمام، الذي خبر صخب المئة ألف، يصف المشهد بنبرة خيبة: المنتخبات تلعب أفضل حين تساندها جماهيرها. المشهد يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يشي بأعمق مما يُقال في التصريحات. المدرج الذي كان مرآة للعاطفة الوطنية صار مقياسًا للثقة. وحين تهتز الثقة، لا تعوضها نتائج ولا لقطات دعائية.

ثم يأتي تصريح محمد صلاح على قناة أون تايم سبورتس يتمنى عودة الجماهير، وتلحقه فتوى من دار الإفتاء تصف تشجيع المنتخب بأنه واجب وطني. هنا تتجلى المفارقة بأوضح صورها. حين يتحول التشجيع إلى واجب، نفقد جوهره كفعل حر ومعنى يكتسب شرعيته من التضامن لا من الإلزام. وحين تستدعى اللغة الدينية لإسناد مباراة كرة، تشعر الجماهير أن الرسالة تُقلب رأسًا على عقب. المطلوب ليس فرض الحضور، بل استعادة المعنى الذي يجعل الحضور ضرورة من تلقاء نفسه. ولأن هذا المعنى غاب، ظهر الهجوم على الجماهير بوصفها لا تدعم إلا حين الفوز. والحقيقة أبسط وأكثر قسوة: الناس تدعم حين ترى نفسها في من يطلب دعمها. فإذا غاب هذا الانعكاس، انسحبت بلا ضجيج.

ليس المقصود هنا محمد صلاح وحده. القضية أوسع من لاعب أو تصريح أو غياب موقف. ما يحدث هو تفكك في العلاقة بين “التمثيل” و”التماثل”. فالجماهير لم تعد ترى في لاعبي المنتخب امتدادًا لها، بل طبقة منفصلة، تعيش في واقع آخر، وتتحدث لغة لا تشبهها.
حين يطالب صلاح أو ميدو أو حازم إمام الجماهير بالدعم، يسمع الناس في كلماتهم نغمة أبويّة، كأن من في الأعلى يطلب من من في الأسفل أن يصفق كي تستمر اللعبة. لكن اللعبة، في وعي الناس الجديد، لم تعد مجرد تسعين دقيقة في الملعب، بل مرآة كاملة للبلد، للعدالة، وللصوت الذي يُسمع ويُقمع.

لقد أسهم صلاح، من حيث لا يدري، في تكريس هذه الفجوة. نجاحه الخارجي المذهل قابله صمت داخلي مدهش، كأنه قرر أن الحياد هو أكثر أشكال الذكاء أمانًا. لكنه نسي أن الجماهير المصرية لا تحتفي بالنجاح فقط، بل بما يمثله النجاح من تضامن وكرامة وموقف. وعندما رأوا نجومهم يلوذون بالصمت في زمن يحتاج إلى صوت، شعروا بأنهم وحدهم في المعركة.
تكوّنت فجوة عاطفية لا تُردم، ليس لأن الناس تكره صلاح، بل لأنهم لم يعودوا يرون أنفسهم فيه. كان يومًا “واحد مننا”، ثم صار “واحد فيهم”؛ وهذه المسافة النفسية هي التي جعلت المدرجات باردة حتى حين يفوز المنتخب.

ولأن الكرة في مصر كانت دومًا امتدادًا للسياسة، تحوّلت هذه الفجوة إلى مرآة أشد وضوحًا. الجماهير التي كانت تصفّق في استاد القاهرة بشغف، هي نفسها التي تهتف في الشوارع من أجل القضايا الكبرى، وتعرف جيدًا أن الانتماء لا يُختزل في رفع العلم، بل في رفع الصوت.
لذلك لم يكن غريبًا أن يفرغ “استاد الرعب” من روحه. فالأمر ليس كسلًا ولا لامبالاة، بل إعادة تعريف لما يستحق الحماس أصلًا.

هتاف عمره خمسة عشر عامًا 

“تعاطفًا مع غزة”.. كلمتان كتبهما أبو تريكة على قميصه قبل خمسة عشر عامًا، وما زالتا ترنّان في ذاكرة أمة بأكملها.  كانت المباراة عادية في ظاهرها، مصر أمام السودان في كأس الأمم الإفريقية عام 2008، لكن اللحظة لم تكن كذلك. فبينما اشتعلت السماء بالقصف في غزة، قرر لاعب أن يكسر صمته ويرفع قميصًا كُتب عليه ما عجز كثيرون عن قوله.

يحكي أبو تريكة لاحقًا، في وثائقي لقناة بي إن سبورتس، كيف فكر طوال الليل في ما يمكنه فعله، وكيف صنع بنفسه قميصين يحملان العبارة، وخبّأهما في الغرفة حتى لا يعلم أحد. لم يكن أساسيًا في المباراة، لكن القدر جعل الكرة تأتيه، فسجّل، ورفع القميص أمام الكاميرات، لتُلتقط الصورة التي ستعيش أكثر من الهدف نفسه.

كانت تلك اللحظة أبعد من مجرد تعاطف رمزي؛ كانت إعلانًا عن أن اللاعب يمكن أن يكون مواطنًا فاعلًا، وأن الجسد الراكض في الملعب يمكن أن يتحوّل، حين يريد، إلى صوت في وجه الظلم.
في تلك اللقطة المضيئة فهم الناس أن البطولة لا تُقاس بعدد الأهداف، بل بمدى اتصال الإنسان بما يتجاوز ذاته.

ما فعله أبو تريكة لم يكن بطولة فردية بقدر ما كان كسرًا لسلسلة الخوف.
كان يعلم أن فعلته قد تكلفه الكثير، وربما تنهي مسيرته، لكنه اختار أن يفعل “ما يجب” لا “ما يُسمح به”.
هذه البساطة المتجردة في الفعل هي ما جعلت لحظته خالدة؛ لأنه ذكّر الجميع بأن الحرية لا تحتاج إلى إذن، وأن الكلمة حين تصدر من القلب يمكن أن تزلزل نظامًا بأكمله.

لكن أجمل ما في القصة لم يكن رفع القميص، بل ما جرى بعده.
حين توقع أبو تريكة توبيخًا من الجهاز الفني، فاجأه حسن شحاتة بردّ مختلف: لم يوبخه لأنه فعلها، بل لأنه فعلها وحده، دون أن يخبرهم ليصنعوا خمسةً وثلاثين قميصًا آخر يرتديها الفريق كله.
تلك كانت اللحظة التي ذاب فيها الحاجز بين “المنتخب” و”الوطن”، بين المدرّب والجماهير، بين ما يُقال في السياسة وما يُفعل في الرياضة. كانت الروح واحدة، والنغمة واحدة، والوجدان مشتركًا.

ومن هناك، صار المنتخب يُعرف بـ“منتخب الساجدين”، لا لأنهم فقط ركعوا شكرًا بعد الأهداف، بل لأنهم كانوا ينحنون أيضًا أمام فكرة أعمق: أن النصر بلا مبدأ هزيمة مؤجلة.

أما اليوم، فالمشهد مختلف جذريًا. المدرجات التي كانت تُشبه احتفالًا شعبيًا مفتوحًا تحوّلت إلى مقاعد صامتة يملؤها غرباء لا يعرفون معنى أن تهتف من قلبك. لم تعد كرة القدم حدثًا جامعًا، بل نشاطًا طبقيًا مغلقًا. تزايدت أسعار التذاكر، وتكاثرت القيود الأمنية، فاختفى الجمهور الحقيقي الذي كان يرى في المباراة خلاصًا من هموم الحياة، وحلّ مكانه جمهورٌ محدود يشاهد بمللٍ ويصفّق بلا انتماء.

في الماضي، كانت المدرجات صورة مصغّرة لمصر نفسها: خليط من الطبقات واللهجات والوجوه التي تتوحد في لحظة هدف. كان التشجيع فعلًا عاطفيًا يختصر شعورًا بالانتماء. اليوم، لم يعد الانتماء يُقاس بالهتاف، بل بالقدرة على شراء التذكرة. هكذا تحوّلت اللعبة من رمزٍ للناس إلى امتيازٍ لمن يستطيع أن يدفع ثمن المقعد.

ومع هذا التغيّر في شكل الجمهور، تغيّرت أيضًا ملامح اللاعبين. صارت الكرة بالنسبة لكثيرين منهم وسيلة صعود فردي لا علاقة لها بأي معنى جماعي. غاب الوعي الجمعي الذي جسّده جيل أبو تريكة، وظهر جيل لا يرى في قضايا أمته سوى عبءٍ يمكن التهرب منه بتصريحٍ دبلوماسي أو ابتسامة صامتة. صار اللاعب “علامة تجارية” أكثر منه رمزًا، وكل شيء محسوب: التغريدة، الصورة، وحتى الموقف الأخلاقي.

ولأن المعايير انقلبت، أصبح بعض اللاعبين يتقرّبون إلى السلطة الرمزية لنجومهم أكثر مما يتقرّبون إلى جمهورهم. المشهد الذي رفع فيه مصطفى محمد قميص صلاح بعد تسجيله هدفًا في وجه الجماهير ليس مجرد لحظة حماس؛ إنه إعلان رمزي عن تحالف جديد داخل اللعبة: الولاء للأعلى، لا للأسفل، للطرف الذي يُعطي الشرعية لا للطرف الذي يصنعها. من هنا، كان طبيعيًا أن تفقد الجماهير شغفها، لأنها لم تعد ترى نفسها في من يرتدي القميص باسمها.

وهكذا، لم تعد المشكلة في عزوف الناس عن التشجيع، بل في ما جعلهم ينفرون أصلًا. فحين تُفرغ اللعبة من معناها الاجتماعي، وتُستبدل علاقة القلب بعلاقة السوق، يصبح الصمت في المدرجات أبلغ من أي هتاف.

مشاهد لم نرها من جنازة أحمد رفعت

هذا ما يحدث في “القاهرة”

السبب الأهم، كما يرى كثيرون، أن ما تغيّر ليس فقط في كرة القدم، بل في نظرتنا إلى العالم بأسره. فالسابع من أكتوبر لم يكن حدثًا سياسيًا عابرًا، بل لحظة انكسار وإدراك أعادت للناس وعيهم بالجوهر. مع عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، أُعيد ترتيب الأولويات في العقول والقلوب معًا، وسقطت أشياء كثيرة من مكانتها القديمة، حتى كرة القدم نفسها.

ما كان يُعتبر سابقًا رمزًا للوطنية صار يُقاس بمعيارٍ جديد. لم تعد الوطنية في أن ترفع علم بلدك في مباراة، بل في أن ترفع صوتك مع المظلومين، وفي أن يكون انتماؤك امتدادًا لإنسانيتك لا لشعارٍ فوق قميص. لهذا لم يعد محمد صلاح، رغم مجده الكروي، رمزًا يُجمع عليه المصريون، لأنهم لم يعودوا يبحثون عن اللاعب المتألق، بل عن الإنسان الذي يتكلّم بصدق حين يصمت الجميع.

وفي المقابل، اكتسبت شعوب أخرى، مثل جنوب أفريقيا، احترامًا عميقًا بين الجماهير العربية، لأنها وقفت إلى جوار القضية الفلسطينية بشجاعة وثبات. فصار تشجيع منتخبها في وعي كثيرين أقرب إلى فعل تضامن أخلاقي منه إلى منافسة رياضية. تغيّر تعريف “الفريق الذي نحبّه” لأن تعريف “الحق الذي نؤمن به” تغيّر أيضًا.

لقد ولدت من رحم الحرب قراءة جديدة للواقع. شبابٌ كانوا أسرى الشاشات، لا يقرأون صفحة من كتاب، صاروا يدرسون التاريخ والسياسة بعمق، يحلّلون مقالات إيلان بابيه، ورشيد الخالدي، وجدعون ليفي، وعبد الوهاب المسيري. تحوّل “الجيل Z”، الذي كانت تُتّهم سطحيته، إلى جيلٍ أكثر وعيًا وقدرةً على الربط بين المعنى والموقف، بين ما يراه على الشاشة وما يعيشه في حياته اليومية.

هكذا، تغيّرت المعادلة الكبرى. لم تعد الجماهير تُصفّق لمجرد الأهداف، بل لمن يحمل قضية، ولم تعد الوطنية شعارًا يعلو في الملاعب، بل سلوكًا يربط بين القاهرة وغزة، بين التشجيع والموقف. وفي ضوء هذا الفهم، أصبح الانحياز لمن يقف مع فلسطين — أيًا كانت جنسيته — أكثر وطنية من الهتاف لمن يتجاهلها. كما قال المشجع السوداني آدم عمر: “من يدعم فلسطين يعشق أرضه مهما كان اسمها، ومن لا يشعر بها، فحبّه لوطنه ناقص”.

وما يحدث في القاهرة ليس استثناءً، بل صورة من مشهد عالمي واسع. فالوعي الذي انبعث بعد “طوفان الأقصى” تجاوز الحدود، وبدأ يعيد تعريف المفاهيم نفسها: من العدالة، إلى الانتماء، إلى معنى أن تكون إنسانًا في زمنٍ يُقاس فيه كل شيء بالحياد. لم يعد أحد ينتظر توجيهًا من الأعلى، لأن الناس أدركت أن الفرد الواحد، حين يتحرّك بإخلاص، يمكنه أن يُحدث أثرًا حقيقيًا.

هكذا، حين تخرج سيدة وحدها في وسط القاهرة، تهتف لفلسطين وسط الزحام، فهي لا تفعل ذلك احتجاجًا فقط، بل استعادةً لمعنى أكبر: أن الصوت الحرّ، مهما بدا وحيدًا، يساوي أمةً كاملة تعرف أخيرًا من تمثلها، ولأجل ماذا تهتف.

فالذي حدث لم يكن انقلابًا على كرة القدم، بل على ما تمثّله حين تُفرَّغ من معناها. لم تعد الجماهير تبحث عن نصرٍ في الملعب، بل عن صدقٍ في الوجوه. وحين غابت هذه الصدق، انطفأت المدرجات من تلقاء نفسها، لأن الحماس لا يُفرض بالنداء ولا بالفتوى.
ما نراه اليوم ليس عزوفًا عن التشجيع، بل مقاومة صامتة ضد الزيف، احتجاجًا ناعمًا من أمةٍ لا تزال تعرف جيدًا متى تهتف، ولمن.

هكذا تتقاطع كرة القدم مع الوعي السياسي، وتلتقي الوطنية بالكرامة الإنسانية في نقطة واحدة: أن التمثيل لا يُمنح، بل يُكتسب. وأن من يريد أن يُصفّق له الناس، عليه أولًا أن يشبههم، أن ينتمي إليهم بحق، لا أن يطلّ عليهم من بعيد.

وربما كان مشهد محمد شرف في ظرف طارق نبوءة لم نفهمها في وقتها. لم يكن يهلّل لهدفٍ في مرمانا، بل يضحك على واقعٍ لا يراه ملكًا له. واليوم، بعد سنوات طويلة، يبدو أننا كلنا — بشكلٍ ما — جلسنا في المشهد ذاته، نضحك بمرارةٍ على فريقٍ لم يعُد يلعب باسمنا، وننتظر لحظةً نعيد فيها للفرح معناه.

 

لماذا لا يثور المصريون؟ عن المسيرة العالمية إلى غزة، وصناعة اللا جدوى

Search