يعد ملف الشركات الخاسرة من أهم الملفات التي توليها وزارة قطاع الأعمال أهمية بالغة، في سبيل وقف نزيف الخسائر والحفاظ على المال العام في بعض الشركات التي لا جدوى من إصلاحها، أو تلك التي تحتاج استثمارات دولارية ضخمة من وجهة نظر الحكومة، ما دفعها لطرح البعض منها للخصخصة والبعض الآخر للبيع على نحو مباشر.
كانت قرارات خصخصة الشركات والمؤسسات العامة خلال السنوات الماضية مثيرة للجدل، لما ترتب عليها من تسريح لجزء كبير من العمالة، أو تملك الأجانب لحصص ضخمة من ملكية الشركات العامة.كما أن العائد من عملية الخصخصة، لم يوجه لإقامة أصول رأسمالية جديدة، بل وجه لسد عجز الموازنة العامة للدولة، وسداد ديون هذه الشركات، ودفع مستحقات العمال بالشركات المخصخصة في إطار برنامج المعاش المبكر، أو تسوية مستحقاتهم.
وشهدت السنوات الأخيرة حالات تصفية لعدد من شركات قطاع الأعمال العام، مثل الشركة القومية للأسمنت في 2018، والحديد والصلب بحلوان في 2021، والنصر لصناعة الكوك في 2022. فيما تبذل السلطة جهودًا حثيثة لجمع إيرادات من بيع الأصول العامة، مع تدهور احتياطات النقد الأجنبي منذ اندلاع الحرب الروسية/ الأوكرانية في فبراير 2022.
نوصي للقراءة: بيع الأصول المصرية: بين أزمة الدولار وأرباح صندوق أبوظبي
غياب المعلومات
وفق رئيس الحكومة المصرية، مصطفى مدبولي، فإن حكومته حققت نحو 5.6 مليار دولار من خلال التخارج الكلي والجزئي من 14 شركة حكومية حتى ديسمبر 2023، وأعلنت في يناير الماضي، أنها ستضم شركات جديدة لبرنامج الأطروحات الحكومية، ليصل إجمالي عدد الشركات المطروحة للبيع والبورصة إلى 60 شركة، مشيرًا إلى أن إجمالي مبيعات الشركات التي طرحتها الحكومة للقطاع الخاص منذ بداية العام حتى شهر ديسمبر 2023، قارب نحو ثلاثة مليارات دولار، وتستهدف خطة الحكومة تحقيق مبيعات تصل إلى ستة مليارات دولار ضمن برنامج الطروحات الأول انتهى في يونيو الماضي 2024.
يؤكد علي الأدريسي – أستاذ الاقتصاد الدولي وعضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع- خلال حديثه مع زاوية ثالثة، أن غياب المعلومات وتضاربها يعتبر أحد الأسباب الرئيسية لتضرر وتفاقم حجم مشكلات الصناعة بشكل عام، فلا يوجد بيانات رسمية واضحة بحجم تلك المصانع والشركات المتعثرة والأخرى التي تم إغلاقها، كما أنه لا يوجد دراسات كافية لتحديد أسباب تلك المشكلة التي تختلف بين الأزمات المالية وسواء الإدارة والمواد الخام وأيضًا المشكلات الإنتاجية، مشددًا على ضرورة قواعد البيانات اللازمة لتلك المشكلة حتى تتمكن الجهات المسئولة من التوجه نحو المسارات الصحيحة، لحل تلك المشكلات وإيقاف نزيف خسائر وتعثر المصانع، لاسيما المنتجة منها للسلع الإستراتيجية التي تعرض العديد منها للغلق؛ ما يجبر السلطة في الوقت نفسه على التوجه نحو الاستيراد لتغطية الاحتياجات اللازمة، ويزيد من حجم الفاتورة الدولارية التى يتحملها الاقتصاد المحلي.
استوردت القاهرة سلعًا تموينية استراتيجية بقيمة 11.5 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري، مقابل 11.26 مليار دولار في الفترة نفسها من العام الماضي، بزيادة 2%، وتشمل قائمة السلع: (القمح، والأرز، والفول، والسكر، والشاي، والذرة والفول الصويا، والزيوت النباتية، والعدس، والألبان ومنتجاتها، واللحوم، والدواجن، والأسماك، والحيوانات الحية، والياميش). مثّلت السلع التموينية الاستراتيجية نحو 20% من إجمالي واردات مصر خلال الفترة من يناير إلى نهاية سبتمبر الماضي، وبلغت 57.2 مليار دولار.
يوضح عضو الجمعية المصرية للاقتصاد والتشريع أن أسباب إغلاق العديد من المصانع بشكل عام يعود إلى تحرير سعر الصرف، الذي أثر على استيراد تكلفة المواد الخام، إضافة إلى رفع أسعار الوقود مرات عدة بنسبه تخطت الـ 25%، ما ألقى بظلاله على تكاليف النقل واللوجيستيات والمحروقات التي تعتبر أحد العوامل الرئيسية لعمل العديد من المصانع، وزاد من التحديات التي تواجه عملها لاسيما المحلية منها.
ويضيف أنه مع ارتفاع معدلات التضخم مؤخرًا، أدى ذلك إلى زيادة حجم الركود السلعي وتوجه العديد من المستثمرين الصغار إلى الملاذات الآمنه المتمثلة في الذهب والعقارات، والاعتماد بشكل أكبر على العملات الأجنبية لحفظ قيمة مدخراتهم.
يستطرد “الإدريسي” في أن وجود المشكلات الروتينية والعوامل البيروقراطية واحدة من الأسباب التي تعرقل نمو الصناعات وتطويرها، في ظل غياب التسهيلات التمويلية التى تمكن تلك الشركات والمصانع من الاستمرار في الإنتاجية، مشيرًا إلى أن غياب المبادرات الداعمة للصناعة التي كان يقوم بطرحها البنك المركزي في أوقات سابقة، أدت إلى تراجع كثير من المصنعين عن الإستمرارية في العمل، ما دفع وزارة المالية من جانبها أن تقوم بمحاولة توفير جزء من تلك المبادرات في محاولة منها لتقديم عوامل تحفيزية للصُناع.
يشدد أستاذ الاقتصاد الدولي على ضرورة قيام الدولة بإعادة النظر في تلك الأوضاع الخاصة بالصناعات بشكل عام والمنتجة للسلع الاستراتيجية بشكل خاص، والعمل على تقديم العديد من الحلول والمحفزات لاستمرار آلية العمل والإنتاج. وضرورة حماية الصناعات المحلية التي تعمل على حماية الاقتصاد المصري، في ظل تفاقم الأوضاع الجيوسياسية على الصعيد العالمي والإقليمي والتى أثرت بشكل مباشر على الاقتصاد العالمي.
“المنافسة الشديدة بين المنتجات المحلية والمنتجات الخارجية تعد أحد أسباب لتراجع الإنتاج لاسيما مع تراجع قيمة الجنيه المصري أمام الدولار بنسب تخطت 200% خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، بالرغم من أن التسهيلات التي يتم توفيرها من قبل الحكومة واحدة، إلا أن المستفيد الأكبر منها المستثمر الأجنبي الذي يعتمد بالأساس في إنتاجه على العملة الأجنبية، ما يجعله بعيدًا عن تلك التأثيرات، ولذلك لابد من إعادة النظر في قوة الصناعات المحلية على المنافسة و مدى امتلاكها للأدوات والكوادر التي تمكنها من المنافسة.”، يقول “الإدريسي”.
لافتًا إلى ضرورة وجود المبادرات الحقيقة التي تهدف إلى حل مشكلات المصانع حتى تتمكن من استمرارية عجلة الإنتاج والتشغيل، لا سيما مع تفاقم المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها الدولة خلال السنوات الأخيرة من تحرير سعر الصرف وإلى جانب إرتفاع سعر الطاقة والتي تزيد من وطأة التحديات التي تواجه صغار المصنعين.
نوصي للقراءة: تصفية الأصول: هل تبيع مصر أملاكها لسداد الديون؟
عجز الميزان التجاري
بحسب بيانات وزارة المالية، عبر التقرير المالي الشهري لفبراير 2024، فإن عدد الشركات التي تم بيعها وتصفيتها على مدار الفترة 1993-2016، بلغت نحو 282 شركة، بقيمة بلغت 53.6 مليار جنيه مصري. وكان عدد الشركات التي تم تصفيتها خلال هذه الفترة 34 شركة.
وفق منشور الكاتب الاجتماعي السياسي عمار على حسن على منصة “إكس” فإن عدد المصانع الاستراتيجية التي تم إغلاقها تجاوز الـ 100 مصنع خلال السنوات العشرة الأخيرة، وعلى رأسهم شركة الإسكندرية للغزل والنسيج، وشركة الدلتا الهندسية، وشركة النقل والهندسة، وشركة مضارب الأرز ومطاحن الغلال المصرية، وشركة البحيرة للأرز والزيوت، وشركة السكر والتقطير المصرية المصرية، وشركة الورق الأهلية والشركة المصرية لصناعة أوراق التعبئة.
يقول إن أغلب الشركات التي يتم تصفيتها، تم إنشاؤها في خمسينيات وستينيات القرن الـعشرين، وكانت تقدم منتجات استراتيجية، وإن مصر مؤخرًا تعاني من عجز في موازينها التجارية لسلعتي الحديد والورق، إذ قامت الحكومة بتصفية شركتين مهمتين في هذا المجال.
وتعكس البيانات الخاصة بالجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء لعام 2023، وجود عجز في الميزان التجاري لحديد التسليح بما يقارب ملياري دولار، والواردات في هذا العام من حديد التسليح بلغت 4.21 مليارات دولار، بينما الصادرات بلغت 2.33 مليار دولار. أما صناعة الورق، فالبيانات الخاصة بالهيئة العامة للاستثمار المصرية، تظهر عبر نموذج لدراسة جدوى لصناعة الكرتون، أن استهلاك مصر من الورق يصل إلى 600 ألف طن، في حين تنتج مصر نحو 225 ألف طن، وذلك وفق بيانات عام 2019. وتعتمد مصر على استيراد الورق بنسبة كبيرة، فيتم استيراد 60% من الاحتياجات السنوية من الورق الأبيض اللازم للسوق المصري، وكذلك يتم استيراد نسبة 90% من ورق الصحف.
من جانبه، يقول أحمد خطاب – الخبير الاقتصادي وعضو مجلس الأعمال المصري الكندي-، إن السلطة مؤخرًا تعمد إلى تطوير الصناعات المحلية بشكل كبير وتعمل على إعادة إحياء المصانع المتعثرة في كافة القطاعات الاستراتيجية منها والتكميلية. مبينًا أن المشكلة الرئيسية التي تعاني منها الصناعات المصرية غياب الدائرة المكتملة لإنتاج الصناعات لاسيما الإستراتيجية منها؛ فالعديد من تلك السلع يعتمد جزء كبير منها على استيراد مقوماته الأساسية من الخارج، ما يزيد من حجم الأعباء التي تتحملها تلك المصانع المنتجة، في ظل وجود الأزمة الدولارية التي يعاني منها الاقتصاد المصري والصناعات المحلية مؤخرًا.
يبين أنه يتم مؤخرًا إعادة النظر في العديد من المشكلات التي تعاني منها المصانع، وحلها عن طريق جدولة الضرائب وتوفير الدعم اللازم، وحل مشكلات الإنتاج والإدارة، مؤكدًا أن الصناعات المحلية لا توفر الاكتفاء الذاتي من السلع الاستراتيجية التي يتم الاعتماد عليها، لذلك تعمد السلطة إلى تغطية الاحتياج المحلى عن طريق الاستيراد، مشيرًا إلى أنها تعمد إلى اتباع سياسة التوازنات حتى تتمكن من تغطية جزء من احتياج السوق المحلية من إنتاج السلع الاستراتيجية.
يضيف أن الشركات التي يتم تصفيتها، تمثل حصة معتبرة من الإنتاج المحلي كمًا ونوعًا، ومع ذلك يتم تصفيتها دون وجود بديل، ما يحرم السوق المحلية من الحصة التي كانت تؤديها هذه الشركات، ولا يتوفر البديل، سواء من قبل القطاع العام أم القطاع الخاص، ولا من قبل شركات الجيش، متسائلًا: “كيف للقطاع الخاص في مصر أن يقيم شركات بحجم وقيمة الشركة القومية للأسمنت، وشركة الحديد والصلب، أو شركة راكتا للورق، في مساحات الأراضي كبيرة، وخطوط الإنتاج كذلك، فضلا عن العمالة المدربة والماهرة، التي تكلفت الشركات في بنائها ملايين الجنيهات.”
وحسب قوله، فإن كل ما شغل الحكومة عند تصفية شركتي الأسمنت والحديد، هو مساحات الأراضي، التي سوف توظفها في الاستثمار العقاري. ما انعكس بالضرر على الناتج المحلي؛ فتحويل المؤسسات الإنتاجية للسلع إستراتيجية، إلى مجرد تجمعات سكانية، يعني تحول من الإنتاجية إلى الريعية، ويدفع بالبلاد إلى مزيد من التبعية للخارج.
وتوجه الحكومة خلال السنوات الماضية، لعملية تصفية الشركات، وبيع خطوط الإنتاج بها كخردة، واعتبار أراضيها فرصة لمشروعات عقارية، مثل أحد أهم أوجه الاعتراض، لخروج هذه الشركات من دائرة العمل والإنتاج. فالبداية كانت بشركة القومية للأسمنت، ثم شركة الحديد والصلب المصرية، ومؤخرا شركة راكتا لإنتاج الورق. وغابت حلول إنقاذ الشركات المعروضة للخصخصة، أو تلك التي وقعت تحت طائلة مقصلة التصفية، حسبما يفيد “خطاب”.
نوصي للقراءة: استثمارات غير مسبوقة أم بيع أصول؟ نظرة على صندوق مصر السيادي بعد خمس سنوات
أزمات مالية
بعد 56 عامًا من العمل بالسوق المصرية والأسواق الخارجية، قررت الحكومة تصفية وإغلاق الشركة المصرية للإنشاءات المعدنية “ميتالكو” أكبر شركة معادن في الشرق الأوسط، وكلفت فريق عمل لإنهاء الإجراءات المتعلقة بالتصفية.
بيانات رسمية أوضحت أن السبب في اتخاذ قرار التصفية، هو تنامي خسائر الشركة في السنوات الأخيرة، على الرغم من تطبيق إجراءات لإنقاذها، لكن الخسائر المجمعة في نهاية 2023 ارتفعت إلى 1.394 مليار جنيه، يمثل 975% من حقوق المساهمين، ووجود مديونية على الشركة بلغت 1.476 مليار جنيه، وبلغ رأس المال العامل بالسالب 1.335 مليار جنيه، وظهر إجمالي الاستثمار بالسالب بنحو 1.250 مليار جنيه.
في سياق متصل، يصف أسامة شاهد – رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية بالجيزة وعضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات المصرية- في حديثه معنا، مشكلة المصانع والشركات بأنها معقدة إلى حد ما، لاسيما أنها ترتبط بالعديد من الأطراف والمشكلات المختلفة سواء مالية، ما يتطلب تدخل الجهاز المصرفي أو مشكلة تسويقية لمنتجات تلك المصانع أو فنية، ويحتاج إلى مزيد من الدعم الإداري، مبينًا أن المشكلات المالية تترأس أزمة المصانع والشركات المصرية، وتعد الأصعب على الإطلاق لاسيما أنها تصطدم باشتراطات بنكية وشروط البنك المركزي لمنح التمويل.
ويضيف أن قطاعي النسيج والأدوية يستحوذان على النسبة الأكبر من المصانع المتعثرة، موضحًا أنه يتم العمل على إعداد دراسة لتلك المصانع لكل محافظة على حدا، مبينًا أن أغلب المصانع التي تقع بمحافظة الجيزة تتمركز في منطقتي السادس من أكتوبر وأبو رواش، ويتجاوز نصيب المتعثر منها 30% داخل المحافظة.
ويرجع رئيس مجلس إدارة الغرفة التجارية بالجيزة تفاقم مشكلات المصانع مؤخرًا إلى عدم إمكانية تدبير العملة الأجنبية خلال العامين الماضيين منذ فبراير 2022 حتى مارس 2024، لتوفير مستلزمات إنتاج المصانع التي تمكنها من تحقيق الطاقة الإنتاجية المستهدفة للمصنع، ما تسبب في إنخفاض الأرباح وألقى بظلاله على آلية عمل المصانع بشكل عام.
ومع استمرار مسلسل بيع وتصفية المصانع والشركات الحكومية لتوفير السيولة الدولارية بشكل سريع واستغلال الأراضي الخاصة بها، يقابل ذلك زيادة في حجم استيراد السلع لتغطية احتياجات السوق، ما يضاعف الطلب على العملة الأجنبية من ناحية، ويقلص حجم الإنتاج للسلع الاستراتيجية ويحمل في طياته تهديد للأمن المجتمعي.