بالمستندات.. تجاوزات مالية وتضارب مصالح في ندب القضاة.. والبرلمان يتحرك

شبكة فساد مالي وقانوني داخل الهيئة القومية للبريد، حيث يتم استغلال الثغرات القانونية لتمكين قضاة ومستشارين من الحصول على رواتب ضخمة بشكل غير قانوني.
Picture of طارق جمال حافظ

طارق جمال حافظ

تقدم خلال شهر يناير الماضي عدد من النواب بطلبات إحاطة في البرلمان، موجهة إلى رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي، ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الدكتور عمرو طلعت، بشأن وقائع تتعلق بانتداب وتقاضي مستشارين وقضاة من جهات قضائية رواتب تتجاوز الحد الأقصى للأجور داخل الهيئة القومية للبريد، في مخالفة واضحة للقانون والدستور.

ووفقًا لمستندات ووثائق حصلت عليها “زاوية ثالثة”، فإن تلك التجاوزات تشمل ندب قضاة ومستشارين في أكثر من هيئة وشركة، وأبرزهم المستشار محمد أحمد عبود، وكيل مجلس الدولة، وهو نجل المستشار أحمد عبود، رئيس مجلس الدولة، والذي تم انتدابه في ثلاث جهات مختلفة، ما يثير شبهات حول تضارب المصالح واستغلال النفوذ.

وتكشف الوثائق، التي تنفرد بها زاوية ثالثة أن رئيس مجلس الدولة أصدر قرارًا جديدًا أواخر عام 2024، أكد فيه على حظر ندب قضاة المجلس في أكثر من جهة أو هيئة أو شركة، وهو الحظر الذي تم إقراره منذ عام 2014، إلا أن القرار المستحدث أضاف جملة استثنائية تتيح استمرار ندب نجله وبعض الحالات المماثلة، ما اعتبره مراقبون “تفصيلًا قانونيًا” يشرّع لهذه المخالفات.

ويأتي ذلك في ظل تجاوز ما يتقاضاه هؤلاء المستشارون الحد الأقصى للأجور، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام الجهات الحكومية بتطبيق القوانين المنظمة للمرتبات، ويضع الحكومة أمام اختبار حقيقي لمواجهة هذه التجاوزات، ذلك فضلًا عن تجاوز ما يتقاضونه للحد الأقصى للأجور بالمخالفة للقانون والدستور.

 

نوصي للقراءة: منصة العدالة المتصدعة: بدل الطعون يثير الغضب في ساحات القضاء المصري

 حراك داخل البرلمان

تقدم النائب محمد عبد الرحمن راضي، -أمين سر لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب-، بطلب إحاطة حصلت “زاوية ثالثة” على نسخة منه، مستندًا إلى أحكام المادة 134 من الدستور والمادة 212 من اللائحة الداخلية لمجلس النواب، ووجّه طلبه إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، لمساءلتهما بشأن المخالفات داخل الهيئة القومية للبريد، لا سيما فيما يتعلق بتقاضي المستشارين المنتدبين من جهات قضائية رواتب تتجاوز الحد الأقصى للأجور، في مخالفة واضحة للقانون.

في السياق ذاته، قدّم النائب عبد المنعم إمام، -رئيس حزب العدل وأمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب-، طلب إحاطة آخر، نشره عبر الصفحة الرسمية للحزب، تناول فيه دور رئيس مجلس إدارة الهيئة القومية للبريد السابق، وزير التموين الحالي شريف فاروق، في التدخل بشؤون إدارة شركة البريد للاستثمار وشركة البريد للتوزيع. وأشار النائب إلى القرارات رقم 227 لسنة 2022 ورقم 3998 لسنة 2022، والتي بموجبها تم تكليف كل من المستشار الدكتور محمد أيوب والمستشار محمد عبود كممثلين عن الهيئة القومية للبريد للنظر في المسائل القانونية الخاصة بالشركات التابعة، مع منحهما مكافآت وبدلات مالية. 

وطالب النائب باستجواب وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات حول قيمة المبالغ التي حصل عليها المستشاران، وما إذا كانت تتجاوز الحد الأقصى للأجور، مع تقديم بيان تفصيلي من الهيئة يوضح عدد المستشارين المنتدبين وما يتقاضونه من رواتب ومكافآت وغيرها من المستحقات المالية.

 ما دار في جلسة استجواب داليا الباز

أصدر رئيس مجلس الوزراء، الدكتور مصطفى مدبولي، قرارًا في 27 يناير 2025 بتعيين داليا عبد الله محمد الباز رئيسًا لمجلس إدارة الهيئة القومية للبريد لمدة عام، وذلك اعتبارًا من نفس اليوم، وهو اليوم الذي شهد أيضًا مناقشة تعيينها داخل لجنة الاتصالات بمجلس النواب.

وحصلت “زاوية ثالثة” على فيديو لجلسة المناقشة البرلمانية التي خضعت لها رئيسة الهيئة القومية للبريد المعينة حديثًا، حيث واجهت تساؤلات النواب بشأن طلبات الإحاطة المقدمة حول تدخل رئيس مجلس إدارة الهيئة السابق في شؤون إدارة شركة البريد للاستثمار وشركة البريد للتوزيع، وإصداره قرارات تكليف المستشارين المعنيين بالنظر في المسائل القانونية المتعلقة بالشركات التابعة، مع منحهم مكافآت وبدلات مالية.

وخلال الجلسة، طالب النواب برد واضح من الهيئة بشأن المبالغ التي حصل عليها المستشاران، وما إذا كانت تجاوزت الحد الأقصى للأجور، بالإضافة إلى تقديم بيان تفصيلي يوضح عدد المستشارين المنتدبين داخل الهيئة، وما يتقاضونه من رواتب ومكافآت وغيرها من المستحقات المالية.

 

غياب قانون واضح للانتداب

كشفت المستندات التي حصلت عليها “زاوية ثالثة”، إلى جانب شهادات نائبين لرئيس مجلس الدولة طلبا عدم ذكر اسميهما، عن استمرار غياب قانون واضح ينظم ندب القضاة، رغم مرور عقد كامل على النص الدستوري الذي أوجب إصداره.

في 8 سبتمبر 2014، أصدر المجلس الخاص للشؤون الإدارية بمجلس الدولة، برئاسة المستشار الدكتور جمال ندا (رئيس المجلس آنذاك)، قرارًا يحظر ندب أعضاء ومستشاري مجلس الدولة لأكثر من جهة واحدة، وطالب المنتدبين في أكثر من جهة بإخطار الأمانة العامة للمجلس لتجديد الندب لجهة واحدة فقط.

ومع ذلك، لم يتحول هذا القرار إلى تشريع ملزم، رغم أن المادة 239 من دستور 2014 نصّت صراحة على إلزام مجلس النواب بإصدار قانون ينظم قواعد ندب القضاة خلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات، بما يضمن إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية أو ذات الاختصاص القضائي، أو في إدارة شؤون العدالة والإشراف على الانتخابات. ورغم أن قسم التشريع بمجلس الدولة تسلم في 28 نوفمبر 2018 مشروع القانون من مجلس الوزراء، إلا أنه لم يصدر في حينه.

وظل القانون معلقًا حتى 22 فبراير 2023، عندما أعلنت وزارة العدل انتهاءها من إعداد مشروع جديد لتنظيم ندب أعضاء الجهات والهيئات القضائية، بعد دراسة استغرقت سنوات، ومع ذلك، لم يتم إصداره حتى اليوم، وظلت المجالس الخاصة للهيئات والجهات القضائية هي المنظم الفعلي لقواعد الندب منذ عام 2014 وحتى الآن.

وفي 1 أكتوبر 2024، أصدر رئيس مجلس الدولة المستشار أحمد عبد الحميد عبود القرار رقم 775 لسنة 2024، الذي نص في مادته الأولى على أنه “لا يجوز لعضو مجلس الدولة الجمع بين ندبه كمستشار قانوني للجهة المنتدب إليها وعضوية مجلس إدارتها أو مجلس إدارة أي جهة أو شركة أخرى تابعة لها”، لكنه أضاف جملة “ولا يسري هذا الحظر إذا كان حضور المستشار المنتدب جلسات مجلس الإدارة بصفته مستشارًا قانونيًا للجهة المنتدب إليها”، وهي صياغة وصفها مراقبون بأنها “تفصيلية”، تفتح الباب أمام استمرار الندب في أكثر من جهة وشركة، ما يعكس استمرار الفراغ التشريعي في هذا الملف.

أزمة رئيس مجلس الدولة

كشفت المستندات التي حصلت عليها “زاوية ثالثة” عن ندب المستشار محمد أحمد عبود، -وكيل مجلس الدولة- ونجل المستشار أحمد عبود، في ثلاث جهات، حيث تم ندبه للعمل في الهيئة القومية للبريد، إلى جانب حضوره اجتماعات مجلسي إدارة شركة البريد للاستثمار وشركة البريد للتوزيع.

وأوضحت المستندات عدم أحقية صرف أي مكافآت أو أموال نظير حضوره في الشركتين الأخيرتين، حيث أصدرت الجمعية العمومية لقسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة فتوى رقم 166 بتاريخ 13 فبراير 2021، بشأن مدى أحقية أعضاء مجلس إدارة شركة البريد للاستثمار في الحصول على مكافآت مالية، وانتهت إلى، عدم أحقية أعضاء مجلس إدارة شركة البريد للاستثمار الممثلين للهيئة القومية للبريد في الحصول على حصة من الأرباح الموزعة، أو أي مبالغ أخرى تحت أي مسمى، بما في ذلك المزايا العينية، ووجوب رد جميع الأموال التي حصلوا عليها إلى الهيئة القومية للبريد، باستثناء المبالغ المصروفة مقابل توليهم مناصب تنفيذية مثل رئيس مجلس الإدارة التنفيذي أو العضو المنتدب، أو مقابل نفقات فعلية وفق القواعد المعمول بها في الشركة.

 

إلى جانب ذلك، تكشف المستندات أنه وعلى الرغم من فتوى قسمي الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، وطلب رئيس الهيئة القومية للبريد لشركة البريد للاستثمار لرد هذه المبالغ التي حصلوا عليها المنتدبين استنادًا لهذه الفتوى لعدم قانونيتها، إلا أن هذه الفتوى الصادرة من مجلس الدولة لم تلقى قبولًا لدى شركة البريد للاستثمار بناء على الأسانيد الواردة في مذكرتها ورفضت رد الأموال، وهو ذات الأمر الذي تكرر مع شركة البريد للتوزيع بحسب ما أكدته مصادر قضائية بمجلس الدولة وفي مجلس النواب.

 

 

انتهاك للدستور والقانون

يكشف النائب عبد المنعم إمام، -رئيس حزب العدل وأمين سر لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب-، في تصريحات خاصة إلى “زاوية ثالثة”، عن مخالفات قانونية ودستورية تتعلق بندب مستشارين قانونيين من مجلس الدولة للعمل في أكثر من جهة داخل الهيئة القومية للبريد والشركات التابعة لها.

ويوضح “إمام” أن رئيس الهيئة القومية للبريد لديه مستشارون قانونيون داخل الهيئة، إلا أنهم فوجئوا بقرار صادر عن رئيس الهيئة السابق، وزير التموين الحالي شريف فاروق، يقضي بندب مستشارين قانونيين منتدبين من مجلس الدولة إلى الهيئة القومية للبريد لحضور اجتماعات مجلس إدارة شركتي البريد للاستثمار والبريد للتوزيع، مع تقاضيهم مكافآت مالية من هذه الشركات.

ويؤكد النائب بالبرلمان في حديثه معنا أن هذا القرار مخالف للقانون، حيث إن مجالس إدارات الشركات التابعة هي الجهة المخولة بتحديد المستشارين الذين تستعين بهم، كما أن كل من الهيئة والشركات التابعة لها يتمتعون بشخصيات اعتبارية مستقلة، ولا يجوز انتداب الشخص ذاته للعمل في أكثر من جهة في الوقت نفسه.

إلى جانب ذلك يشدد إمام على أن تحميل الشركات التابعة للهيئة القومية للبريد تكلفة المستشارين المنتدبين من الهيئة أمر غير قانوني، حيث يتعارض مع قانون الاستثمار، ويتنافى مع القواعد والإجراءات القانونية المنظمة للندب. وأضاف أن الانتداب في أكثر من جهة يمثل كارثة قانونية ودستورية، ويتعارض مع الحد الأقصى للأجور، مما يجعله مخالفة جسيمة تستوجب التوقف الفوري.

وأشار النائب إلى أن بعض المستشارين يستغلون الثغرات القانونية بحجة عدم خضوعهم لقانون الحد الأقصى للأجور، نظرًا لكونهم خاضعين لقانون السلطة القضائية، موضحًا أن هذا الاستثناء صحيح فقط في حالة تقاضيهم أجورهم من جهات قضائية، لكنه لا ينطبق على حصولهم على مكافآت من جهات تنفيذية تخضع لقانون الحد الأقصى للأجور.

ويشير إمام إلى أنه تم عرض الأمر على رئيسة الهيئة القومية للبريد، والتي أكدت أنها فوجئت بهذه المخالفات، واتخذت إجراءً عاجلًا بوقف صرف أي مبالغ من الشركات للمستشارين المنتدبين. وأضاف أن رئيسة الهيئة أبلغت المستشارين بأنه لن يتم صرف أي مبالغ مستقبلاً نظير حضورهم اجتماعات الشركات، وأنه في حال الحاجة إليهم، سيحضرون فقط بصفتهم مستشارين للهيئة القومية للبريد، دون تقاضي أي مستحقات مالية، مشيرًا إلى أن القرار ينتظر التطبيق الفعلي في الأيام المقبلة.

إهدار المال العام في البريد المصري

من جهته، يكشف النائب محمد عبد الرحمن راضي، -أمين سر لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب-، في تصريحات خاصة إلى زاوية ثالثة، عن وقائع خطيرة تتعلق بإهدار المال العام داخل الهيئة القومية للبريد المصري وشركاتها التابعة، مشيرًا إلى أن التجاوزات تمتد من حملة إعلانية كلفت الملايين، إلى مستشارين قانونيين تقاضوا مبالغ مالية دون وجه حق.

ويوضح “راضي” أن المستشارين القانونيين بالهيئة القومية للبريد والشركات التابعة لها منتدبون من جهات قضائية، مستشهدًا بحالة المستشار محمد أحمد عبود، نجل رئيس مجلس الدولة، الذي انتُدب في الهيئة القومية للبريد وشركتين تابعتين لها. وأشار إلى أن عبود يشغل منصبًا بالهيئة منذ عام 2018 رغم أن عمره لم يكن قد تجاوز 35 عامًا حينها، وفي العام المالي الأخير وحده، تقاضى 4 ملايين جنيه بسبب انتدابه في الجهات الثلاث، وهو رقم غير مسبوق مقارنة بما حصل عليه في السنوات السابقة، وذلك وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، الذي استند إليه النواب في طلب الإحاطة المقدم بشأن المخالفات.

ويتهم “راضي” في حديثه معنا رئيس مجلس الدولة بإجراء “تفصيل” في قرار صادر في أكتوبر 2024، ينظم عملية ندب قضاة مجلس الدولة، بحيث يسمح لنجله وآخرين في وضع مماثل بالانتداب في أكثر من جهة والحصول على مكافآت متعددة. وتساءل مستنكرًا:

“كيف لرئيس مجلس الدولة، الذي لديه نجل منتدب، أن يضيف فقرة في القرار تجيز الانتداب في أكثر من جهة؟”، مشيرًا إلى أن القرار كان يجب أن يُعرض على جمعية الفتوى والتشريع بمجلس الدولة، لضمان النزاهة والشفافية، وذلك التزامًا بمبدأ “استشعار الحرج” في القضاء.

 

نوصي للقراءة: الحصانة القضائية: درع حماية أم سلاح للفساد في مصر؟

تضارب المصالح

ينتقد “راضي” تضارب المصالح الذي تجلى في توقيع المستشار عبود على مذكرة موجهة إلى وزير الاتصالات، مضمونها تعطيل فتوى الجمعية العمومية للفتوى والتشريع، التي كانت تقضي بضرورة استرداد الأموال التي حصل عليها قيادات البريد المصري دون وجه حق. وأوضح أن المستشار عبود برر تعطيل تنفيذ الفتوى بأن الجهة الطالبة لها لم تتقبل رأي الجمعية العمومية، متسائلًا:”منذ متى يتم تطبيق القانون بناءً على القبول أو الرفض؟!”.

ويؤكد عضو مجلس النواب أن هناك فوضى في انتداب المستشارين القانونيين داخل الوزارات والمؤسسات الحكومية، مما أصبح عبئًا ماليًا ضخمًا على ميزانياتها، مشيرًا إلى أن مجلس الدولة هو الجهة الوحيدة المستحوذة على هذه الانتدابات. وكشف أن، محافظة القاهرة وحدها بها 12 مستشارًا منتدبًا، ووزارة التنمية المحلية بها 6 مستشارين منتدبين.

وتساءل: “لماذا كل هذا العدد من المستشارين المنتدبين رغم وجود إدارات قانونية في جميع الوزارات والهيئات الحكومية؟ هل يجب علينا إلغاء الشؤون القانونية داخل هذه الجهات؟”، مشددًا على أنه إذا كانت هناك حاجة فعلية للاستعانة بخبرات قضائية، فيجب أن تكون من شيوخ القضاة أصحاب الخبرات، وليس من القضاة صغار السن الذين لا يمتلكون رصيدًا كافيًا من التجربة العملية.

ويضيف: “هل بعد شهر يونيو 2025، سيظل المستشار محمد عبود يحصل على المبلغ الضخم ذاته؟ أم سيتم إلغاء انتدابه بعد زوال السبب الذي أدى إلى تضخم مكافآته لتصل إلى 4 ملايين جنيه في عام 2024؟”، مؤكدًا أن الإجابة في انتظار رد وزير الاتصالات.

 

 مفسدة مُطلقة

يؤكد -رئيس مؤسسة دعم العدالة بالمركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة-، ناصر أمين، في تصريح لـ “زاوية ثالثة”، أن الندب هو “ذهب المعز” الذي تستخدمه السلطة لمحاولة السيطرة على النظم القضائية في منطقة الشرق الأوسط، مشيرًا إلى أن الندب والإعارة يمثلان إحدى الكوارث التي تعاني منها الأنظمة القضائية في العالم العربي.

ويضيف المحامي الحقوقي أن دستور 2014 في مصر انتبه لهذه المشكلة، التي استُخدمت لفترات طويلة، لا سيما في عهد الرئيس المخلوع الراحل حسني مبارك قبل ثورة 25 يناير 2011، حيث كان الندب أداة للسيطرة على بعض القضاة في أوقات معينة. لذلك، دعا دستور 2014 إلى إلغاء الندب بشكل كامل، خاصة فيما يتعلق بندب القضاة للعمل في جهات غير قضائية كمستشارين، الأمر الذي يؤدي إلى ازدواجية خطيرة، إذ يصبح القاضي في الوقت نفسه جزءًا من الجهاز القضائي والإداري، ومستشارًا قانونيًا لهذه الجهات.

ويوضح “أمين” أن هذا الوضع يفتح الباب أمام الفساد المطلق، وهو ما دفع دستور 2014، الذي جاء بعد دستور 2012، إلى إقرار إلغاء الندب نهائيًا، للحيلولة دون منح السلطة التنفيذية أدوات تمكنها من فرض سيطرتها على القضاة، خصوصًا قضاة مجلس الدولة، باعتبارهم الجهة التي يلجأ إليها المواطنون في منازعاتهم ضد الحكومة، وكذلك في النزاعات بين الجهات المختلفة.

ويشدد رئيس مؤسسة دعم العدالة على ضرورة وقف هذا الإجراء فورًا، مشيرًا إلى أن الدولة والنظام في مصر مطالبان باحترام الدستور وأحكامه، كما يجب على الجهات القضائية الامتناع عن استخدام الندب والإعارة، نظرًا لأنهما يمثلان المدخل الحقيقي الذي تتسلل منه أي سلطة حاكمة لإفساد الأجهزة القضائية.

ويضيف: ” أن خطورة الندب وتأثيره السلبي على القضاء أدركها القضاة منذ زمن بعيد، وطالبوا بإلغائه فورًا، مشيرًا إلى أن هذه المسألة كانت من أبرز التوصيات التي صدرت عن مؤتمر العدالة العربي الأول في بيروت عام 1999، والذي نظمه المركز العربي بالتعاون مع اللجنة الدولية للحقوقيين ونقابة محامي بيروت، حيث نص “إعلان بيروت” صراحة على رفض التعيين والندب كوسيلة للسيطرة على القضاة.”

علاوة على ذلك يشير أمين إلى أن “إعلان القاهرة لاستقلال القضاء” الصادر عام 2003، والذي نظمه المركز بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة (UNDP)، أوصى كذلك بضرورة وقف الندب باعتباره أداة تستخدم للهيمنة على القضاة. إضافة إلى ذلك، أوصى مؤتمر العدالة الأول، الذي عقده نادي قضاة مصر عام 1986، بضرورة إنهاء العمل بنظام الندب. وأكد “أمين” أن كافة الوثائق الدولية تؤكد أن الندب يشكل خطرًا على استقلال القضاء، ويمثل إحدى أبرز وسائل السلطة التنفيذية لبسط نفوذها على المؤسسة القضائية.

نوصي للقراء: قبيل انتخابات النادي.. غضب قضاة بعد رسوب أبنائهم في الدورات العسكرية

ثقب أسود بثوب العدالة

 يؤكد -الخبير القانوني والمحامي بالنقض والدستورية العليا-، محمد حامد سالم، لـ “زاوية ثالثة”، أن السلطة التأسيسية للدستور المصري ألزمت البرلمان بإصدار قانون لتنظيم ندب القضاة وأعضاء الهيئات القضائية، وفقًا لما نصت عليه المادة 239 من الدستور، وذلك لضمان إلغاء الندب الكلي والجزئي لغير الجهات القضائية أو اللجان ذات الاختصاص القضائي، أو إدارة شؤون العدالة، أو الإشراف على الانتخابات، خلال خمس سنوات من نفاذ الدستور عام 2014. ومع ذلك، لم يرَ هذا التشريع النور حتى الآن، رغم تجاوز المدة الدستورية المحددة بأكثر من عشر سنوات.

ويضيف “سالم” أن البرلمان تخطى المهلة الدستورية بأكثر من ست سنوات، دون إصدار القانون رغم تمرير تشريعات أخرى، مثل قانون الإجراءات الجنائية، التي لم تكن مرتبطة بموعد دستوري محدد. الأمر الذي يثير العديد من التساؤلات وعلامات الاستفهام حول أسباب التأخير.

ويوضح المحامي بالنقض في حديثه معنا أن المشرع الدستوري أدرك مساوئ وعيوب ندب القضاة لغير الجهات القضائية، واعتبره “ثقبًا أسود” في ثوب العدالة والجهاز القضائي المصري، لما ينطوي عليه من مخاطر، أبرزها فقدان الحيادية، وتعارض المصالح، ومخالفة مبدأ الفصل بين السلطات، بالإضافة إلى تشتت جهود القاضي المنتدب، مما يؤثر سلبًا على سير العدالة وحقوق المتقاضين.

ويشير “سالم” إلى أن المشكلة الأبرز تكمن في مدى التزام القاضي المنتدب بالمبادئ والقواعد القضائية التي ينتمي إليها، مقارنة بتلك التي تفرضها الجهة الإدارية المنتدب إليها، مما يجعل من الصعب تمييز الخط الفاصل بين الالتزام القضائي والوظيفة الإدارية بأعرافها وإشكالياتها المعقدة. وقد كانت المادتان 186 و239 من الدستور حازمتين في هذا الشأن، لكن تقاعس البرلمانات المتعاقبة حال دون إلغاء ندب القضاة لغير الجهات القضائية، مما أثر سلبًا على منظومة العدالة.

وفنّد المحامي بالنقض المخاطر المرتبطة بندب القضاة، موضحًا أن أبرزها، تآكل استقلالية القضاء، عندما يُنتدب قاضٍ أو مستشار قانوني إلى جهة غير قضائية، فإنه يتعرض لاستغلال خبراته في سياقات قد تخضع لضغوط تنفيذية أو سياسية، مما يضعف الحصانة الوظيفية، ويؤدي إلى تضارب المصالح، ويؤثر سلبًا على نزاهة إصدار الأحكام، إضافة إلى ذلك خطر يؤدي تعارض المصالح الندب الخارجي إلى وضع يصبح فيه من الصعب فصل أداء الواجب القضائي عن المهام الإدارية أو الاستشارية داخل الجهات التنفيذية، مما قد يسفر عن استخدام خبرات القضاة في صنع قرارات إدارية أو سياسية، وهو ما يشوه مفهوم العدالة ويضعف الثقة العامة في نزاهة النظام القضائي.

بحسب سالب غالبًا ما يصاحب الندب لجهات خارج الهيكل القضائي منح مزايا مالية ووظيفية تفوق تلك المقدمة للجهات القضائية، مما يخلق تفاوتًا في فرص الترقية والتطوير المهني، ويخل بمبدأ المساواة والشفافية في توزيع الموارد والفرص داخل جهاز الدولة، كذلك يؤدي فقدان الشعب الثقة في استقلالية القضاء إلى تآكل صورة العدالة، إذ قد يتدخل القاضي المنتدب في بعض القضايا لصالح الجهة الإدارية المنتدب لها. فالعدالة لا تقتصر على إصدار الأحكام فقط، بل تشمل أيضًا الشعور بأن النظام القضائي يحمي الحقوق دون تدخلات سياسية أو إدارية.

واختتم المحامي بالنقض حديثه بالتأكيد على ضرورة أن يُسرع البرلمان في إصدار قانون تنظيم ندب القضاة، وفقًا للمادة 239 من الدستور، وإعادة النظر في آليات الندب بما يضمن احترام النصوص القانونية والدستورية، وحفظ المصلحة العامة، والارتقاء بمستوى العدالة في الأداء الحكومي. فالحرص على حماية مبادئ الشفافية والمساواة ليس مجرد خيار، بل هو ضرورة ملحّة تفرضها متطلبات الدولة الحديثة، ومساعيها الدائمة نحو إصلاح نظامها الإداري وضمان تكافؤ الفرص لجميع المواطنين.

أمام كل هذه الأزمات التي سببها الندب الخاص للقضاة، وعدم تنفيذ الدستور بالالتزام بإلغاء الندب بشكله الحالي ووضع ضوابط حاكمة له طبقا للمادة الانتقالية التي ألزمت بتطبيق ذلك، فهل ستشهد الأيام القادمة تدخل في البرلمان وإلزام الجهات المعنية بالانتهاء من القانون لإنهاء الأمر؟ وهل سيخضع رئيس الوزراء ووزير الاتصالات لاستجوابهما في الأمر أمام البرلمان تنفيذا لطلبات الإحاطة؟ وهل سيتم رد الأموال التي أقرت “الفتوى والتشريع” بمجلس الدولة بعدم استحقاقها؟

طارق جمال حافظ
صحفي مختص بالتحقيقات في قضايا الفساد

Search