في ٢٧ أبريل الماضي، أعلن النائب العام المصري إحالة 273 قضية غسيل أموال لمحاكم الجنايات الاقتصادية، خلال عام واحد فقط، ما يعكس مؤشرًا خطيرًا حول حجم انتشار هذه الجريمة في البلاد، وخلف هذا الرقم الكبير، تبرز تساؤلات أكثر عمقًا، حول فاعلية أجهزة الدولة الرقابية، ومدى قدرتها على الرصد أو المحاسبة، كذلك تظهر إخفاقات مؤسسية متراكمة سمحت بتغلغل شبكات غسيل الأموال في مفاصل الاقتصاد المصري، ورغم أن مصر عضو في الاتفاقيات الدولية لمكافح غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وتمتلك وحدة مختصة لهذا الغرض داخل البنك المركزي، فإن استمرار تضخم عدد القضايا يطرح جدلًا واقعيًا.
البيان أوضح أن إجمالي المبالغ التي تم استغلالها في هذا الصدد خلال عام واحد بلغت: ٧,٧٤٨,٤٧٢,٨٦٦ جنيه مصري (سبعة مليارات وسبعمائة وثمانية وأربعين مليونًا وأربعمائة واثنين وسبعين ألفًا وثمانمائة وستة وستين جنيهًا مصريًا)، ٣١٩,٣١٣,٤٩٥ دولار أمريكي (ثلاثمائة وتسعة عشر مليونًا وثلاثمائة وثلاثة عشر ألفًا وأربعمائة وخمسة وتسعين دولارًا أمريكيًا)، ٤,٠٥٩,٤٥٥ يورو (أربعة ملايين وتسعة وخمسين ألفًا وأربعمائة وخمسة وخمسين يورو)،٥٥٢,٩٣٠ جنيهًا إسترلينيًا (خمسمائة واثنين وخمسين ألفًا وتسعمائة وثلاثين جنيهًا إسترلينيًا).
الإعلان رغم نشره، كدليل على فاعلية أجهزة الدولة في التصدي للجرائم من هذا النوع، إلا أنه كان مثيرًا للجدل، ليس بسبب حجم الرقم فقط، لكن لكونه جاء خاليًا من أي تفاصيل توضح طبيعة هذه القضايا أو مآلاتها، كذلك تشير القراءة التحليلية للأرقام إلى اتساع غير مسبوق في انتشار الظاهرة، وتكشف عن ثغرات مؤسسية وهيكلية عميقة مكّنت هذه الأموال المشبوهة من التغلغل داخل النظام المالي، وفق مراقبون تحدثوا إلى زاوية ثالثة.
الأكثر إرباكًا، وفق الخبراء، هو غياب الإجابة عن أسئلة أساسية تتعلق بنسبة هذه القضايا إلى العدد الإجمالي للبلاغات، وعدد البلاغات المحفوظة، وطبيعة الأحكام الصادرة في هذا الصدد، والأهم ن ذلك يبقى حجم القضايا التي لم يُكشف عنها بعض يثير العديد من التساؤلات، هذا الغموض يضعف من مصداقية الرقم الرسمي نفسه، ويحوّله من علامة إنجاز إلى جرس إنذار يكشف عمق الأزمة.
ورغم مرور أكثر من عقدين على تأسيس وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة للبنك المركزي المصري في 2002، فإن الوحدة لا تصدر تقارير سنوية تفصيلية معلنة تتضمن عدد البلاغات، أو نتائج التحقيقات، أو تقييم فعالية التعاون مع النيابة العامة، كما يتبين على موقعها الرسمي، ويعكس ذلك ضعفًا في البنية المؤسسية للشفافية، في وقت يتطلب فيه المناخ الاقتصادي المصري رسائل طمأنة واضحة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء.
وتقدّر تقارير دولية ومحلية حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر بما يتراوح بين 30% إلى 40% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يجعل هذا القطاع بيئة خصبة لـ “أنشطة غسل الأموال”، في ظل ضعف الرقابة وصعوبة التتبع المالي. كما تُظهر بيانات وحدة مكافحة غسل الأموال أن عدد الإخطارات المالية المشبوهة زيادة بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، في حين لم تُعلن الجهات الرسمية عن الحجم الإجمالي للأموال المغسولة أو عدد الأحكام القضائية الصادرة فيها، ما يعكس تحديات في الشفافية والرقابة، وتعكس التقارير الإقليمية، مثل تقرير مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENAFATF)، أن مصر تواجه مخاطر متوسطة إلى مرتفعة في مجال غسل الأموال، لا سيما في ظل وجود قنوات مالية غير خاضعة للضبط الكافي، منها أنشطة تحويل الأموال غير النظامية وعلاقات الأعمال غير الموثقة رسميًا.

نوصي للقراءة: كيف تسلل الفساد إلى المتحف المصري الكبير؟
من يغسل الأموال في مصر؟
تشير وقائع القضايا المتداولة أمام جهات التحقيق إلى تنوع لافت في مصادر الأموال غير المشروعة، ما يعكس اتساع ظاهرة غسل الأموال في مصر وتشابكها مع أنشطة اقتصادية واجتماعية متعددة، وتتركز الأنشطة المرتبطة بهذه الجريمة في قطاعات بعينها، أبرزها تجارة العملة غير الرسمية، والاستثمار في العقارات، وتجارة الذهب، إلى جانب إنشاء شركات وهمية أو جمعيات أهلية تُستخدم كواجهات لإدخال الأموال إلى النظام المالي الرسمي.
ممكن هنا نضع صورة ضوئية من تقرير التقييم المتبادل في مجال مكافحة غسيل الأموال ومكافحة الإرهاب الصادر عن مجموعة العمل المالي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا (أرسلته على الإيميل)
بالإضافة إلى ذلك توسع الاقتصاد غير الرسمي، الذي يُقدّر حجمه بنحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي، يوفر بيئة خصبة لغسل الأموال، حيث تفتقر هذه الأنشطة إلى الرقابة الكافية، كما تتيح سهولة تمرير الأموال دون تتبع حقيقي لمصدرها، ويُلاحظ أيضاً أن بعض شبكات غسل الأموال تستفيد من الثغرات الموجودة في المنظومة المصرفية، أو من ضعف تطبيق قواعد “اعرف عميلك” في بعض المؤسسات المالية، بحد تقدير المراقبين.
وفي حالات متعددة، يُشتبه في تورط عناصر ذات نفوذ اقتصادي أو سياسي في عمليات غسل الأموال، سواء عبر شركات مقاولات أو أنشطة تجارية ضخمة تُستخدم لتبييض الأموال القادمة من مصادر غير مشروعة، إلا أن ضعف الشفافية في التحقيقات وقلة المعلومات المنشورة عن المتورطين تحول دون رسم صورة دقيقة لهذه الشبكات، وتثير تساؤلات حول مدى قدرة الجهات الرقابية على الوصول إلى كبار الفاعلين في هذا المجال، كما تكشف بعض القضايا عن دور محتمل لجهات أجنبية أو عمليات تهريب عبر الحدود، المفارقة أن هذه القضايا غالباً ما تظل حبيسة أدراج المحاكم أو تنتهي بتسويات غير معلنة، وسط تعتيم إعلامي، وغياب للمساءلة المجتمعية أو البرلمانية.
رغم غياب الإحصائيات الرسمية السنوية المفصلة، تكشف بعض البيانات المتاحة عن تصاعد واضح في حجم قضايا غسل الأموال في مصر خلال السنوات الخمس الماضية، ويشير عدد من القضايا التي أعلنت عنها الجهات الأمنية إلى تنامي أنشطة غير مشروعة تتورط فيها شبكات معقدة تضم موظفين حكوميين وكيانات تجارية، ما يعكس خطورة الظاهرة وامتدادها إلى قطاعات متعددة.
في عام 2020، أعلنت وزارة الداخلية المصرية عن ضبط 1.3 مليار جنيه مصري ضمن تحقيقات في 8 قضايا تتعلق بغسل الأموال والرشوة والكسب غير المشروع. كما شملت الجهود الأمنية ضبط أكثر من 1,600 قضية تهرب ضريبي وسرقة أموال عامة، وفي فبراير من العام نفسه شهدت مصر واحدة من أكبر قضايا غسل الأموال، عندما ألقت السلطات القبض على 17 شخصًا، بينهم موظفون في هيئة البريد. ووجهت إليهم تهم بإنشاء حسابات وهمية تُستخدم لتحويل أموال تُقدَّر بـ1.69 مليار جنيه مصري. وكشفت التحقيقات أن هذه الأموال كانت تُستخدم في تمويل أنشطة غير قانونية مثل الهجرة غير الشرعية، وتجارة العملات، وتهريب المخدرات.
وتقول تسنيم عمار، -باحثة ماجستير في الحوكمة ومكافحة الفساد، ونائبة مدير المشروعات بالمنظمة العالمية لخريجي الأزهر- في حديث مع زاوية ثالثة إن جرائم غسل الأموال من القضايا الحرجة التي تواجه الاقتصاد المصري في العقد الأخير، حيث ازدادت معدلات هذه الجرائم بشكل ملحوظ منذ عام ٢٠٢٠م.
ومن أبرز الأسباب التي أدت إلى زيادة غسل الأموال، بحسب تسنيم، هو التطور التكنولوجي الذي يسهل التحويلات المالية عبر الحدود، بالإضافة إلى المنافسة الشديدة بين الجهات غير القانونية على استغلال الثغرات في الأنظمة المالية.
وتشير تقارير البنك المركزي المصري إلى أن الأنظمة الضعيفة في الرقابة وسوء تطبيق القوانين قد خلقت بيئة خصبة لهذه الأنشطة غير المشروعة،كما أن عدم التنسيق بين الجهات الرقابية وضعف التوعية بمخاطر غسل الأموال من العوامل المؤثرة في تفاقم المشكلة.
توضح تسنيم: “في بعض الحالات، استخدمت قنوات مصرفية مؤقتة وتكنولوجيا تشفير حديثة لإخفاء الهوية والعمليات المالية المشبوهة. وقد توثق وحدة مكافحة غسل الأموال بعض القضايا الواقعية التي ارتبطت بشبكات دولية متطورة تهدف إلى تحويل الأموال المكتسبة من نشاطات إجرامية.”
وتضيف: “تؤثر جرائم غسل الأموال بشكل كبير على الاقتصاد الوطني، إذ أدت إلى خسائر اقتصادية فادحة تجاوزت قيمتها مبالغ تُقدر بمليارات الجنيهات خلال الفترة من ٢٠٢٠م وحتى الآن، إذ أظهرت الدراسات الإحصائية أن الخسائر الاقتصادية الناتجة عن غسل الأموال بلغت حوالي 3% من الناتج المحلي الإجمالي في بعض السنوات، مما أثر سلبًا على الاستثمارات الأجنبية والمحلية وأدى إلى تهريب رؤوس الأموال، كما أن هذه الأنشطة تُضعف الثقة في النظام المالي وتعرقل عمليات الرقابة والشفافية.”
من ناحية أخرى، تؤدي جرائم غسل الأموال، بحسب تسنيم، إلى تعزيز الفساد وتآكل النظام القانوني، حيث يستغل بعض العملاء المقرضين والثقة بنقص الرقابة لتوسيع نشاطاتهم غير المشروعة، وبالرغم من الجهود المبذولة من الجهات الرقابية إلا أن الضعف في التنسيق بين مختلف الأجهزة الحكومية يجعل من الصعب الحصول على بيانات دقيقة تمكِّن من التصدي لهذه الظاهرة بشكل فوري وفعال.
وتتابع تسنيم: “للتغلب على مشكلة غسل الأموال، يتعين تبني حلول عملية ترتكز على تعزيز الأطر القانونية والرقابية. فقد أكدت تقارير البنك المركزي المصري ووحدة مكافحة غسل الأموال على أهمية تعزيز التعاون بين الجهات المختصة محليًا ودوليًا لتبادل المعلومات وتتبع الأنشطة المالية المشبوهة.
وتضيف: “من الحلول الفعالة تحسين البنية التحتية الرقمية للأنظمة المالية وتطوير أنظمة التشفير الحديثة، بالإضافة إلى تطبيق غرامات صارمة على المخالفين.كما يجب رفع مستوى الوعي لدى المستخدمين والمؤسسات المالية حول أهمية مكافحة غسل الأموال، إذ تعتبر برامج التوعية والتدريب جزءاً أساسيًا من جهود التصدي لهذه الظاهرة.”
وتتابع: ” تمكّنت بعض المبادرات الحكومية ومبادرات القطاع الخاص من تحقيق نجاح ملحوظ، إذ أشارت الإحصائيات إلى انخفاض نسب الجرائم المرتبطة بغسل الأموال بنسبة تقارب 15% منذ تنفيذ الإجراءات الجديدة،وفي إطار دور الجهات الرقابية، تعمل هيئة الأوراق المالية والبورصات إلى جانب وحدة مكافحة غسل الأموال على تفعيل آليات المراقبة الدائمة، وتحديث القوانين بصورة تتناسب مع التطورات العالمية لتسهيل عملية التعرف على العمليات المشبوهة والإبلاغ عنها فور حدوثها. “
غياب الشفافية وعدم فاعلية الردع
يقول -الخبير الاقتصادي والقيادي بحزب التحالف الشعبي الاشتراكي-، زهدي الشامي في حديث إلى زاوية ثالثة إن ما تشهده الساحة الاقتصادية في مصر من تطورات متلاحقة ومفاجئة يعكس غياب الشفافية وافتقار أسلوب الإدارة العامة للوضوح والاستقرار، مضيفًا: “نُفاجأ يومًا بعد يوم بأخبار عن شركات كبرى تُغلق فروعها بشكل مفاجئ، كما حدث مؤخرًا مع إحدى سلاسل المنتجات الغذائية، حيث أغلقت أكثر من 130 فرعًا دفعة واحدة، في ظل تضارب المعلومات بين تقارير عن فساد غذائي وتسريبات عن شبهة غسيل أموال، دون أن تعلن الدولة بشكل واضح عن الحقائق أو نتائج التحقيقات.”
ويشير الشامي إلى أن تسوية الأمر بسرعة، رغم جسامة الاتهامات المتداولة، يُثير الريبة، متسائلًا: “إذا كانت هناك مخالفات صحية فقط، فهل يُعقل أن تُغلق كل هذه الفروع بهذا الشكل؟ وإن كانت هناك شبهة غسيل أموال، فكيف تم تسوية الأمر خلال أسبوعين دون محاكمة؟ هذا يعكس حالة عامة من غياب الشفافية التي باتت تهيمن على المناخ الاقتصادي في مصر”، ويتابع: “نحن نعيش حالة من الضبابية الشديدة، يتداخل فيها غياب الرقابة مع تدخل جهات سلطوية في قطاعات اقتصادية مختلفة، ما يخلق بيئة خصبة لتضارب المصالح وانتشار الفساد دون حساب.”
ويؤكد الخبير الاقتصادي في حديثه معنا أن الحكومة نفسها تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية، قائلاً: “منذ سنوات والسياسات الحكومية تعتمد على الأموال الساخنة، سواء عبر البورصة أو أدوات الدين، لتغطية عجز العملة الأجنبية، وعلى الرغم من أن الحكومة وعدت بعدم تكرار هذا النهج منذ أزمة 2021، إلا أن الظاهرة مستمرة، مما يُعمق هشاشة الاقتصاد الوطني.”
وعن ضعف الأجهزة الرقابية، يقول: “من المؤسف أن الأجهزة الأمنية تُظهر قوة كبيرة في قضايا التعبير والرأي، بينما تبدو غير فعالة تمامًا في قضايا النصب وغسيل الأموال، تعرضت شخصيًا لمحاولة نصب إلكترونية، وأعرف عشرات الحالات المماثلة، ورغم تقديم كافة البيانات، من أرقام حسابات وأسماء وأرقام هواتف، إلا أن أحدًا لم يُحاسب”، مؤكدًا أن هناك هشاشة رقابية وقانونية تشجع على التلاعب، قائلاً: “من غير المفهوم أن كل هذا النصب يتم دون قدرة الدولة على ملاحقة الفاعلين، رغم وضوح الأدلة، ويبدو أن الحل الحقيقي هو في تغيير نمط إدارة الدولة بالكامل، لأن المنظومة الحالية ثبت فشلها في حماية المواطنين والاقتصاد معًا.”
وحول القطاعات التي تشهد تضخمًا مشبوهًا، يقول الشامي: “العقارات من أبرز المجالات التي يُشتبه في استخدامها كغطاء لغسيل الأموال، لكن هناك أيضًا شركات ومشروعات تُفتتح في مناطق متعددة بشكل لا يتناسب مع حجم الطلب الفعلي أو النشاط الاقتصادي، وبعضها مملوك لجهات أجنبية”، مشددًا على أن ما يحدث “يستدعي تفسيرًا وتدقيقًا من الجهات المسؤولة”، مشددًا على أن استمرار الغموض والتجاهل الرسمي سيؤدي لمزيد من الاضطراب في السوق والمجتمع.
ومن جهته يقول كريم العمدة، -أستاذ الاقتصاد السياسي-، إلى زاوية ثالثة إن ظاهرة غسيل الأموال لا تقتصر على مصر فقط، بل تنتشر في مختلف أنحاء العالم، موضحًا أن “المسألة ليست مجرد وجود قوانين رادعة، بل تكمن الصعوبة الحقيقية في آلية اكتشاف هذا النوع من الأنشطة، وهو أمر شديد التعقيد حتى في الدول الكبرى”.
ويضيف العمدة في حديثه معنا، أن دولًا معروفة عالميًا تتورط في هذه الظاهرة، قائلًا: “أفريقيا، وتحديدًا الكونغو، مشهورة بغسيل الأموال، وكذلك إيران وتركيا ودبي والجزائر، وحتى دول مثل سويسرا تُقدَّر الأموال غير المشروعة فيها بمئات المليارات من الدولارات”، مشيرًا إلى أن “غسيل الأموال يؤثر سلبًا على الاقتصاد، لأنه لا يهدف إلى تحقيق أرباح حقيقية أو دراسة جدوى، بل يسعى فقط لإظهار أرباح مرتفعة لتبرير تدفقات مالية مشبوهة”.
ويوضح أستاذ الاقتصاد السياسي أن أكثر القطاعات التي تستخدم في عمليات غسيل الأموال تشمل “العقارات، وصالات السينما، والبارات، والمقاهي، ومراكز التدليك والتجميل”، مؤكدًا أن “هذه أنشطة يصعب التحقق من حجم أرباحها بدقة، لأنها تقدم خدمات بأسعار متباينة ولا يوجد رقابة دقيقة على عدد العملاء أو حجم الدخل الفعلي”. ويضيف: “تُستخدم الأرباح المعلنة كواجهة، حيث يتم إيداع الأموال في البنوك لإظهارها كعائد من نشاط قانوني، مما يعطيها غطاءً شرعيًا ويتيح لمرتكبي هذه الجرائم التوسع في أنشطتهم”.
ويؤكد العمدة أن “غسيل الأموال ظاهرة ستظل موجودة طالما بقيت الأنشطة غير المشروعة مثل تجارة المخدرات والآثار والدعارة وتجارة الأعضاء والسلاح”، مضيفًا أن “من يمارس هذه الأنشطة دائمًا ما يسعى لإيجاد واجهات قانونية لإخفاء مصادر أمواله”.
وتعرف الأمم المتحدة غسيل الأموال بأنه “عملية معالجة العوائد الناتجة عن الجرائم بهدف إخفاء أصلها غير القانوني، هذه العملية تعد في غاية الأهمية، حيث تمكن الجاني من الاستمتاع بتلك الأرباح دون تعريض مصدرها للخطر”، كذلك تم تناول غسيل الأموال في اتفاقية الأمم المتحدة في فيينا لعام 1988 في المادة 3.1 التي وصفت غسيل الأموال على النحو التالي: “تحويل أو نقل الممتلكات، مع العلم أن تلك الممتلكات مستمدة من أي جريمة، بغرض إخفاء أو تمويه الأصل غير المشروع للممتلكات أو لمساعدة أي شخص متورط في تلك الجريمة على التهرب من العواقب القانونية لأفعاله”، بالإضافة إلى ذلك، تحتوي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية لعام 2000 على أحكام تتعلق بمكافحة غسيل الأموال في المادتين 6 و7، بينما تتعلق المواد 12 و13 و14 بمصادرة عوائد الجريمة. كما تحتوي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لعام 2003 على تدابير تتعلق بمكافحة غسيل الأموال في المواد 14 و23 و24.
نوصي للقراءة: مكافحة الفساد في مصر: كيف تحوّلت الاستراتيجيات إلى حبرٍ على ورق؟
ماذا يعكس تحليل محتوى الصحف؟
في سياق هذا التحقيق، أجرت “زاوية ثالثة” مراجعة منهجية لعينة من التغطيات الصحفية المنشورة في عدد من الصحف المصرية، القومية والمستقلة، خلال الأشهر الماضية، لرصد كيفية تناول قضايا غسل الأموال، شملت العينة صحفًا بارزة مثل الأهرام، الأخبار، المصري اليوم، والشروق، بالإضافة إلى بوابات إلكترونية مثل اليوم السابع ومصراوي.
من خلال تحليل المنشور في الصحف المصرية وجدنا تركيز أغلبها، على الجانب الرسمي عند تغطية قضايا غسل الأموال، حيث تعتمد في الغالب على بيانات صادرة من النائب العام، البنك المركزي، أو وحدة مكافحة غسل الأموال، دون الخوض في خلفيات الظاهرة أو فتح ملفات استقصائية مستقلة توضح أبعادها المتعددة، ويغلب الطابع الإخباري المقتضب على التغطية الإعلامية، مع غياب التحليل أو التفسير، مما يضع القارئ أمام أرقام وإحصاءات تفتقر إلى السياق الضروري لفهم حجم وتعقيد الظاهرة، ورغم أن بعض الصحف المستقلة، مثل المصري اليوم والشروق، تناولت قضايا معينة تتعلق بغسل الأموال، إلا أن تغطياتها عادة ما تتسم بالحذر، خاصة عند الإشارة إلى شخصيات نافذة أو جهات ذات سلطة.
إلى جانب ذلك، غالبًا ما يتم تقديم قضايا غسل الأموال ضمن سردية الإنجازات الرسمية للنيابة العامة أو أجهزة الأمن، بدلاً من التعامل معها كظاهرة اقتصادية مقلقة تتطلب معالجة منهجية، وفي بعض الأحيان، يُربط غسل الأموال بملفات أخرى مثل الفساد أو الإرهاب أو تجارة المخدرات، لكن دون الغوص في كيفية تداخل هذه الملفات مع البنية الاقتصادية، كما نادرًا ما يتم التطرق إلى العلاقة المحورية بين الاقتصاد غير الرسمي وعمليات غسل الأموال، رغم أهميتها في فهم جذور الظاهرة، بحسب الخبراء.
كذلك، لا تُظهر التغطيات الصحفية وجود تحقيقات معمقة أو استقصائية تتعقب مسارات الأموال غير المشروعة أو تكشف عن الشبكات التي تديرها، فيما تغيب عن التغطية الصحفية الجوانب المتعلقة بمسؤولية المؤسسات المالية، كالبنوك أو الجمعيات الأهلية، والتي قد تُستخدم كقنوات لتمرير الأموال المغسولة، كما لا يتم التطرق بشكل كافٍ إلى الآثار الاجتماعية والاقتصادية لغسل الأموال، مثل تشويه العدالة في السوق، التأثير على الأسعار، أو إعادة توزيع الثروة بطرق غير مشروعة.
ثغرات قانونية ورقابية… كيف يفلت المال المشبوه من الرصد؟
رغم انخراط مصر في المنظومة الدولية لمكافحة غسل الأموال وتحديث التشريعات ذات الصلة خلال السنوات الماضية، إلا أن الواقع يكشف عن ثغرات واضحة تسمح بمرور الأموال غير المشروعة عبر قنوات مالية رسمية دون أن تُكتشف في مراحلها المبكرة، وتتمثل هذه الثغرات في جوانب تشريعية وتنفيذية، تبدأ بعدم وضوح تعريفات بعض الجرائم الأصلية المرتبطة بغسل الأموال، وتصل إلى ضعف التنسيق بين الجهات المعنية بالرقابة والإنفاذ.
أحد أبرز جوانب القصور هو غياب قاعدة بيانات موحدة ومحدثة بين الأجهزة القضائية والمالية والأمنية، ما يؤدي إلى تأخر في تتبع مسارات الأموال أو الربط بين القضايا ذات الصلة، كما أن بعض المؤسسات المالية، وخاصة غير المصرفية، لا تُطبق بصرامة قواعد “اعرف عميلك” أو آليات الإبلاغ عن العمليات المشبوهة، إما بسبب ضعف القدرات الفنية أو الخوف من فقدان العملاء ذوي الملاءة المالية العالية.
وفي هذا السياق يقول محمد فتوح، المحامي بالاستئناف العالي إلى زاوية ثالثة إن هناك تطورات كبيرة حدثت بالفعل في ضوء تعزيز منظومة التشريعات، خصوصًا بعد تعديل قانون مكافحة غسل الأموال سنة 2020، لكن التطبيق العملي مازال يواجه تحديات، مشيرًا إلى أن أبرز أوجه القصور، يتمثل في غياب قاعدة بيانات متكاملة تربط بين جهات الدولة المختلفة، ضعف الرقابة على المعاملات النقدية، خاصة في بعض القطاعات، وجود شركات وهمية أو “Shell Companies” يصعب تتبع ملاكها الحقيقيين، فضلًا عن نقص التدريب المتخصص لبعض الجهات اللي المفروض تكون على الخط الأمامي في رصد وتحليل العمليات المالية المشبوهة.
في الوقت نفسه، يفتقر الإطار القانوني إلى آليات قوية لحماية المبلغين والشهود، وهو ما يقلل من فرص الإبلاغ الطوعي عن العمليات المشبوهة داخل المؤسسات. كما تظل بعض الجهات الرقابية عاجزة عن الوصول إلى حسابات أو تحويلات تتم تحت أسماء مؤسسات خيرية أو دينية، نظراً لحساسيات اجتماعية وسياسية.
ويؤكد فتوح في حديثه معنا أن التصدي لظاهرة غسل الأموال في مصر لا يتوقف فقط عند تعديل القوانين، بل يتطلب قبل ذلك تفعيلها على أرض الواقع، وتعزيز التنسيق بين الجهات الرقابية، مشددًا على ضرورة فرض قيود صارمة على المعاملات النقدية الكبيرة، وإنشاء سجل مركزي يكشف هوية المستفيدين الفعليين من الشركات، وليس الاكتفاء بالممثلين القانونيين فقط، كذلك يدعو إلى إطلاق حملات توعية تستهدف القطاع الخاص وأصحاب الأعمال لتعريفهم بمخاطر التورط في عمليات غسل الأموال، حتى وإن كان ذلك بشكل غير مباشر.
ويضيف: “مصر حققت تقدمًا تشريعيًا ملموسًا، لاسيما بعد خروجها من القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، لكنه أشار إلى أن دولًا مثل الإمارات والسعودية بدأت تتخذ خطوات أكثر تطورًا، من خلال إنشاء وحدات استخبارات مالية مستقلة، وفرض رقابة دقيقة على حركة الأموال، خاصة تلك المتعلقة بسوق العقارات والاستثمارات، لافتًا إلى أن هناك أنشطة بعينها تُستخدم كواجهات لغسل الأموال بسبب صعوبة تتبع مصادر الدخل فيها، من أبرزها: سوق العقارات، خصوصًا عند التعامل بالنقد بعيدًا عن النظام المصرفي، وشركات الاستيراد والتصدير التي تُستخدم أحيانًا كغطاء، فضلًا عن قطاعات المقاهي والمطاعم، وتجارة السيارات المستعملة. كما أشار إلى دخول سوق انتقالات لاعبي كرة القدم في مصر ضمن الأنشطة التي يتم من خلالها ضخ أموال مشبوهة، غالبًا ما تأتي من أنشطة غير قانونية مثل تجارة المخدرات، الأسلحة، والآثار.
وفي سياق متصل، عبّر فتوح عن قلقه من غياب الشفافية في تتبع الأموال السياسية، خاصة تلك المرتبطة برجال أعمال أو سياسيين مقربين من دوائر السلطة، معتبرًا ذلك نوعًا من التواطؤ المؤسسي يسهم في تفشي الظاهرة، مشيرًا إلى أن القوانين وحدها لن تكون كافية ما لم تكن هناك إرادة سياسية حقيقية قائمة على الشفافية، والعدالة الاقتصادية، والمحاسبة المتساوية للجميع. وأوضح أن هناك أفرادًا لا تطالهم الرقابة ولا يتم التحقيق في مصادر أموالهم بسبب قربهم من دوائر النفوذ، وهو ما يمثل عائقًا رئيسيًا أمام أي إصلاح فعلي لمنظومة مكافحة غسل الأموال في البلاد.
تتضمن القوانين المصرية عدة إجراءات تهدف إلى مكافحة غسل الأموال، أبرزها إلزام المؤسسات المالية بتطبيق إجراءات “اعرف عميلك” (KYC) للتحقق من هوية العملاء وفحص العمليات المالية المشبوهة، كما تم تأسيس وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابعة للبنك المركزي المصري، والتي تقوم بمتابعة الأنشطة المشبوهة وتحليل الإخطارات الواردة من البنوك والشركات المالية.
وبالنسبة للعقوبات، ينص القانون المصري على فرض عقوبات صارمة ضد الأفراد والشركات المتورطين في غسل الأموال، تشمل العقوبات السجن لفترات تتراوح من ثلاث إلى سبع سنوات، بالإضافة إلى غرامات مالية ضخمة قد تصل إلى عدة ملايين من الجنيهات المصرية، كما يُمكن للمحكمة فرض عقوبات مالية إضافية على الشركات والمؤسسات التي تساهم في تسهيل عمليات غسل الأموال، بما في ذلك إلغاء تراخيصها أو فرض غرامات على المسؤولين فيها، وفي بعض الحالات، يُمكن أن تصل العقوبات إلى الحبس المؤبد إذا كان الفاعل من كبار المسؤولين أو كان الغسل يتم عبر شبكات معقدة أو دولية.
إلى جانب ذلك، يعاقب القانون أي شخص يقوم بتقديم الدعم أو المساعدة في غسل الأموال، بما في ذلك المعاملات المالية المشبوهة عبر القنوات المالية غير الرسمية أو من خلال شركات وهمية. ومع ذلك، ورغم وجود هذه القوانين والعقوبات، تبقى التحديات قائمة في مجال التنفيذ الفعلي للرقابة والتشديد على المسائل المتعلقة بالشفافية وتقديم البيانات بشكل منتظم.
نوصي للقراءة: البناء المخالف يدخل دوامة المحاكم العسكرية

تطور ظاهرة غسل الأموال في مصر (2015–2025)
في عام 2019، اعتمدت مصر أول تقرير للتقييم الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والذي غطى الفترة من 2014 إلى 2017، الذي أعدته وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بالتنسيق مع الجهات المعنية، أشار التقييم إلى وجود تحديات في فهم وتقييم المخاطر المرتبطة بغسل الأموال، خاصة في القطاعات غير الرسمية والاقتصاد غير المنظم. وفي عام 2021، تم اعتماد التحديث الأول للتقييم الوطني لمخاطر غسل الأموال وتمويل الإرهاب، والذي غطى عامي 2018 و2019، وقد أظهر تحسنًا في فهم المخاطر وتحديدها، مع التركيز على تعزيز التنسيق بين الجهات المعنية وتطوير الإجراءات الرقابية. وفي 2020 خضعت مصر لتقييم دولي من قبل مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENAFATF)، والذي انتهى في يونيو 2021، وأشار التقرير إلى أن مصر حققت نتائج إيجابية في تنفيذ المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، مع وجود فهم جيد للمخاطر وتعاون فعال بين الجهات المعنية.
في يوليو 2022، تم تعديل قانون مكافحة غسل الأموال بموجب القانون رقم 154 لسنة 2022، بهدف تعزيز فعالية وحدة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتوسيع صلاحياتها، كما تم إطلاق الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب للفترة من أكتوبر 2023 إلى سبتمبر 2025.
تكشف الأرقام المعلنة عن قضايا غسيل الأموال في مصر حجم أزمة متفاقمة لا يمكن مواجهتها بالشعارات أو البيانات المجردة، فخلف المليارات التي تم تمريرها بطرق مشبوهة، تقف ثغرات قانونية ورقابية وهيكلية تُضعف قدرة الدولة على كشف الجريمة قبل وقوعها، أو حتى محاسبة المتورطين بعدها. وبين اقتصاد غير رسمي يشكّل ما يقارب نصف الناتج المحلي، وأجهزة رقابية تعاني من محدودية الشفافية وضعف التنسيق، تغيب الثقة ويزداد الغموض، الأزمة لا تتعلق فقط بجرائم مالية، بل بخلل أوسع في نمط الحوكمة الاقتصادية، وتقاعس مؤسسي يمنح المجال للفساد والتهرب من المساءلة، وما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لإصلاح هذه المنظومة، وتعزيز الشفافية والرقابة، فإن ظاهرة غسيل الأموال لن تكون مجرد خطر قائم، بل قنبلة موقوتة تهدد ما تبقى من تماسك الاقتصاد الوطني.