إشراف تحريري: رشا قنديل
بينما تُكتب هذه السطور، يجلس المؤلف ورسام الكومكيس، ميجو، داخل استوديو “Ya Comics” يلوّن الرتوش الأخيرة من رواية “أولاد حارتنا” الكوميكس المستوحاة من رواية “أولاد حارتنا” (1959) ومن عدة سنوات من حياة مؤلّفها الأديب، نجيب محفوظ (1911-2006).
بعد قرابة الخمسة عشر عامًا من التخطيط لهذه الرواية المصورة، بداية من “2010” حينما بدأ تخيّل عالمها بصريًا، وصولًا إلى “2014” حينما نشر افتتاحيتها في مجلة توك توك المتخصصة في فن الرسوم القصصية (أو القصص المصورة) “الكوميكس” في مصر. ينتظر الرسام نشر روايته الطموحة على خمسة أجزاء صفحاتها بين ملونة وأبيض وأسود ضمن مشروع “نجيب محفوظ المُصوَّر” الهادف إلى إعادة تقديم أعمال الراحل الحائز على نوبل للآداب (1988) عبر فن القصة المصوّرة.
المعالجة البصرية لهذه الرواية “المثيرة للجدل” لأول مرة أمر مثير للفضول. فغير أن نشر الرواية الأصيلة قبل أكثر من نصف قرن في جريدة الأهرام (1959) تصاحب مع جدلًا مجتمعيًا يطالب بوقف نشرها، كانت علامة فاصلة في طريق محفوظ الأدبي، كذلك فبعد اكتمال نشرها حاول مَن لم يقرأها اغتيال مؤلفها. ولأن “أولاد حارتنا” ستقرأ عما قريب كقصة مصورة، ستكتسب لغتها الأدبية لغة معاصرة، ففن الكوميكس يُعدّ الفن الواصل بين الأدب السردي والبصري.
المشروع الجامع بين الأدب الكلاسيكي وفن الكوميكس المعاصر هو تعاون بين داري “ديوان والمحروسة” للنشر. كانت باكورة هذا التعاون قد حولت رواية “اللص والكلاب” (1961) إلى رواية مصورة، بسيناريو الكاتب، محمد إسماعيل أمين، ورسوم فناني الكوميكس، ميجو وجمال قبطان. لهذا تحدثتُ مع بعض فناني الاستوديو المتخصصين في مراحل إخراج الكوميكس: الرسم والتلوين والتحبير والتأليف، قبل وخلال مهرجان كايرو كوميكس في نوفمبر الجاري، لسؤالهم عن كواليس العمل على الرواية الأولى، وطُرق الإلهام وأساليب الكتابة ومراحل الرسم والمصادر البصرية وغيرها، ولمعرفة الروايات التي تنتظر رسوماتها رؤية النور.
نوصي للقراءة: مشاريع هيئة الترفيه السعودية:ستنعش السينما المصرية أم ستُغرقها؟
فيتشر أولاد حارتنا
“لمّا قرأت أولاد حارتنا، زمان، بقى عندي تصوّر بصري لها، ومن ساعتها نفسي أعمل لها معالجة سيناريو بصري”، يتذكر ميجو الذي بدأ في رسم الصفحات الأولى من “أولاد حارتنا” مع نفسه عام 2010، قبل عمله في مجلة توك توك، حيث واجهته إشكالية أن نشر عمل أدبي كهذا يحتاج لحقوق الملكية الفكرية. ساعتها، قرر الرسام التحايل على الموقف بنشر الرواية على عددٍ من الفيتشرز في المجلة (2014). كان في مخيّلته أسلوب محفوظ في نشر الرواية على صفحات جريدة الأهرام، على مدار حلقات، بجانب رسومات الفنان الحسين فوزي.
نُشرت افتتاحية “أولاد حارتنا” الكوميكس الملوّنة في “توك توك” ضمن عددها السادس. ولأنها جذبت عيون القراء، أُعيد نشرها في مجلات وجرائد عدة من بينها الأهرام. اهتم ميجو في الافتتاحية بجماليات فنية على مستوى الملابس والملامح والديكورات والأماكن والفترة الزمنية لعُمر محفوظ أثناء كتابة الرواية. بدا ذلك الاهتمام وقتها وكأنه دعوة لمَن لديه الحقوق الفكرية على قدرة الرسام مع المجلة على معالجة عمل أدبي كلاسيكي بصريًا، لكنها لم تتلق ردًا.
الرياح الباقية من ثورة يناير (2011) تطيح بالفنانين والفيتشرز. كانت “توك توك”، المجلة الموسمية التي تُصدر كل ثلاثة أشهر، “كأنها شعلة في الظلام”، على حد قول ميجو. استثنت المجلة فيتشر أولاد حارتنا بالألوان مرة واحدة، فلقد كان العدد السادس كله بالأبيض والأسود، وكذلك كانت ستنشر باق الفيتشرز: الرواية. تأثرت إنتاجية فنانين كثيرين على خلفية سنوات الثورة؛ فتوقفت المجلة جزئيًا بعد هذا العدد بسبب قلّة الموارد المالية. حينها، راجع الرسام الخريطة الزمنية لنشر محفوظ فصول روايته في الأهرام، فأحس باضطراره ضمان صدور “توك توك” لعدة سنوات، ولهذا يضيف: “ده كان مستحيل”. عدم انتظام صدور أعداد المجلة، حال بين استمرار نشر فيتشرز أولاد حارتنا. ساعتها كذلك، لم يكن هناك مهرجانات أو سوق للكوميكس.
الشعلة تضاء من جديد. بمساندة داري “ديوان والمحروسة” تأسّس استوديو “Ya Comics”، ليكون مسؤولًا عن إخراج وتحويل الروايات المصورة فنيًا. إذ يضم الاستوديو فنانين يعملون مع بعضهم البعض، ويعمل إلى جانبهم، إسماعيل وميجو، على الرؤية الفنية التي سيتبعها الفريق في كل رواية. هكذا عاد الرسام لاستكمال معالجة رواية أولاد حارتنا بصريًا مرة أخرى، ولينتظر نشرها على أجزاء كما انتظر محفوظ نشر روايته على حلقات. لم يفقد الرسام الشغف طوال السنوات الماضية، كان يعمل على الرواية وحيدًا في صمت.
“استعرت من الرواية الحبكة، لكن في لغة درامية وحوارات بين الشخصيات من تأليفي. الحدوتة عندي بدأه من حتة تانية غير الرواية. في كتابة مختلفة تمامًا عن كتابة الرواية الأصلية، وفي جزء توثيقي لنجيب محفوظ أثناء ما كان يكتب الرواية، أضفيتُ عليه الخيال بطريقة تلائم دراما الكوميكس”، يحكي ميجو تفاصيل رواية أولاد حارتنا الكوميكس، التي يحتوي كل جزء من أجزائها على قصة ابن من أبناء حارة الجبلاوي: أدهم، جبل، رفاعة، قاسم، وعرفة. كما يضيف عن الجزء الأول من الرواية، الذي يحتوي نوتاتٍ موسيقيةً يعزفها “أدهم”، الابن الأصغر الأثير عند الجبلاوي بعدما أنجبه من جارية سمراء، على آلة الفلوت الموسيقية، أن القراء الذين يتقنون العزف على تلك الآلة يمكنهم عزف المقطوعات الموسيقية التي يعتبرها ميجو بُعد آخر لقراءة الرواية، وأن القارئ سيتعرف على قصر الجبلاوي من خلال بيت يزوره نجيب محفوظ في بقعة وسط صحراء المقطم في أثناء روتينه اليومي المتخيّل: شراء الجرائد والتمشية الصباحية، وذلك قبل كتابة محفوظ الرواية نفسها.
يقود محفوظ، بنفسه، أوركسترا أجزاء رواية أولاد حارتنا الكوميكس. فحبكة الرواية الكوميكس تدور حول ثلاثة أبعاد: الأول يضع القارئ مع خيال محفوظ أثناء كتابته الرواية كأنه مؤلف يُلهم بالأفكار خلال جولات المشي والدردشة مع الأصدقاء والناس في القهاوي: “هنتشارك رحلة الكتابة معه، ونعرف قد إيه هي رحلة مرهقة ونشوف إيه ألهمه والإشكاليات اللي واجهته أثناء وبعد الكتابة”، يوضح. أما الثاني فهو يوثق المراحل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مرت بها مصر على خلفية كتابة محفوظ للرواية واكتمال نشرها: “ساعتها، حصل دراما في المجتمع المصري وصلت إلى أن عبد الناصر تدخل وطلب تشكيل لجنة من الأزهر، وحاول هيكل الدفع في تأجيل قرار منع الرواية لحد ما نشرت بالكامل، ومحاولة الاغتيال بعد اكتمال الرواية، والتيارات السياسية والجوابات اللي كتبها كتّاب ضد محفوظ، وكلها تفاصيل حقيقية”، وفقًا له. البُعد الأخير، الذي يتماهى فيه البعدين السابقين، حسب ميجو هو التعبير عن متن ورمزيات الرواية، برسوم معاصرة، تعكس الظلم والقهر والاستبداد والمقاومة ومحاولات الإفلات من الغشومية.
على طريقة “يأجوج ومأجوج”
بين ميجو وإسماعيل “كميّة شغل”، على حد وصفهما. تلك الكمية تكوّنت خلال عملهما على مجموعة إسماعيل القصصية القصيرة المسماة “يأجوج ومأجوج” والتي نشرت في “توك توك” على حلقات، قبل نشرها لاحقًا كاملة. “إسماعيل شاركني سيناريوهات القصص حلقة، حلقة، أثناء كتابتها عشان يساعدني على تخيّل العالم البصري”، يقول ميجو. كما أكد لي كلاهما، بشكل منفرد، إنهما عملّا معًا على “اللص والكلاب” بنفس الأسلوب، فصل، فصل. بينما يحكي إسماعيل كواليس اختيار تلك الرواية لتكون باكورة الاستوديو: “عملنا أكتر من اجتماع في الاستوديو عشان نفكر نبدأ بأنهي رواية، ساعتها اتفقنا أننا نبدأ باللص والكلاب”، بسبب مشهدية الرواية وطابع أحداثها الفلسفي ولأنها أسرع عمل أدبي لمحفوظ جرى تحويله لفيلم سينمائي. هكذا بدأ السيناريست في إعادة قراءة الرواية عدة مرات، وفي يده دائمًا قلم يرسم به خطوط ودوائر أسفل الجمل والفقرات التي سيقتبس منها لسيناريو اللص والكلاب الكوميكس.
استلهم محفوظ حبكة “اللص والكلاب” من وقائع جرائم حقيقية شغلت بال الناس وتعاطف بعضهم مع منفذها (1960). كما يرمز عنوان الرواية لصراع بطلها مع المجتمع. وتحكي الرواية عن مجرم يخرج من السجن اسمه سعيد مهران، بعدما يقضي أربعة أعوام خلف الجدران، لينتقم من حبيبته وطليقته نبوية وزميل السرقة الخائن عليش سدرة وممَن يزيف المبادئ رؤوف علوان، وليستعيد حياته المهدرة مع ابنته سناء. وفي سبيل تحقيق انتقامه يقتل الأبرياء خطًأ بينما يلوذ أعدائه بالنجاة، مما يزيد إحساسه بالخيبة والحيرة والغصب والخوف والحنق على الحياة التي يراها عبثًا بلا معنى، حتى يلق مصيره بلا مبالاة في نهاية.
فما هي تحديات حبكة رواية كتلك فنيًا؟ حسب إسماعيل، يُعدّ سيناريو القصة المصورة من أصعب أنواع السيناريوهات، لأن وحدة سيناريو السينما هي المشهد، بينما وحدة سيناريو الكوميكس هي الكادر. إذ يتكون مشهد الكوميكس من عدة كادرات. كان السيناريست أثناء كتابة “اللص والكلاب” كادر كادر، يقلّب صفحات الرواية بين يديه وكأنه كاميرا ترصد الصور السردية التي يمكن تحويلها إلى كادرات. بالنسبة إليه، الاعتماد على كتابة محفوظ كما رسمها في الرواية أمر لا بد منه، سواء في الكادرات الحوارية بين الشخصيات أو مع صوت الراوي وصوت مناجاة مهران لنفسه، فالرواية مركزة ومعبّرة عن الصور السردية التي يفتش عنها. لهذا لم يغيّر في متن النص إلا رتوشًا صغيرة لكي تلائم الكوميكس. وانتهى من كتابة السيناريو في حوالي 100 صفحة، على فصول، لكل فصل من الرواية حوالي 10 صفحات.
على العكس من الرواية الأصيلة التي كتبت على مدار 18 فصلًا ويتخلّلها بعض رسوم الفنان التشكيلي جمال قطب (1930-2016)، كُتبت رواية اللص والكلاب الكوميكس قطعة متصلة. “ده اختيار جمالي، حسيت أن سرد القصة المصورة من الأفضل يكون مايه واحدة”، يوضح إسماعيل الذي كان يُرسل لميجو عبر الإيميل، كل بضعة أيام، فصلًا من سيناريو الرواية. لتبدأ أول مراحل الكوميكس: تصميم الشخصيات. إذ يتخيل الرسام عالم الرواية ومحيطها المادي من الناحية البصرية.
اللص والكلاب الكوميكس صدرت مونوكروم (بالأبيض والأسود) في حوالي 130 صفحة. وبينما رسمت أحداثها على مدار 115 صفحة، خُصصت آخر 15 صفحة لبورتريهات أبطالها بأسمائهم وملابسهم وتسريحة شعرهم واكسسواراتهم. على عكس اعتماد السيناريست على نص الرواية خلال كتابة السيناريو، استلهم الرسام ملامح أبطال الرواية ومقتنياتهم وطراز الأثاث والمعمار والملابس من فيلم اللص والكلاب (1962) للمخرج كمال الشيخ مع كوكبة من الفنانين الكلاسيكيين، إلى حد بعيد. “الفيلم كان مصدر بصري ساعدني في تجميع المواد البصرية لأنه أنتج بعد الرواية بسنة”، يقول ميجو قررنا اختيار هذان اللونين في سبيل نقل دراما السجن والسرقة والمطاردات بالسيارات وعلى الأقدام وروح الرواية البوليسية للقارئ وتمتين إحساسه بالحركة طوال الوقت، على طريقة مدرسة الكاتب والرسام الأمريكي، فرانك ميلر.
رغم أن اختيار مقاس “اللص والكلاب” الكوميكس تماشى مع أحجام الروايات المصورة العربية، إلا أن فونت الكتابة داخل البالونات لم يكن مقروءًا في بعض المواضع. فأضاف ميجو: “اخترنا فونت حاد شوية يليق على روح الرواية، لكنه طلع النقطة السلبية الوحيدة اللي وصلت لنا. فغيرنا الفونت والبالونات والبوكسات وأحجامهم في الطبعة التانية، واستخدمنا فونت تاني مش مستهلك، وبنسعى يكون ملك للاستوديو مجموعة فونتات نختار منها اللي يلائمنا في الروايات الجاية”.
بينما ماكينة الاستوديو تعمل بالتوازي. أحس الرسام أن البيبان والشبابيك والسيارات لا بد ألا تكون شاحبة، بمعنى “Pale”، فغير أن تلك التفاصيل لها علاقة بالفترة الزمنية التي تدور على خلفيتها الرواية، لكنها أيضًا تعكس انطباعًا عن الرواية ذاتها. فمَن يقرأ الأدب يرسم تلك التفاصيل في مخيّلته. “في الرسم، عادةً، بتتحايل على الخلفيات، أنك ترسم مربع فيبقى باب خلاص أو مستطيل يبقى شباك”، يشير ميجو لبحثه عن مواد بصرية حقيقية تعود إلى الستينيات لمساعدته على الرسم. هكذا استمرت عمليتي كتابة السيناريو وتصميم الشخصيات، قبل الرسم ولاحقًا التحبير.
في “اللص والكلاب” يدخل مهران في لحظات عديدة من الرواية في حالة أقرب لكونها أحلام يقظة لاستعادة ذكريات محددة، إذ يتذكر نفسه مع زوجته وزميل السرقات وأحاديثه مع رؤوف علوان في الماضي. تلك اللحظات مختلفة تمامًا عن باقي الكوميكس من ناحية الرسم، إذ قُدّم صوت مناجاة مهران لنفسه وصوت الراوي داخل مستطيلات، بينما حَوَت البالونات على نص الحوار بين الشخصيات. وفي سبيل تقديم أسلوب محفوظ السردي في اللعب بالزمن، أضيف الرسام جمال قبطان كترس جديد في ماكينة الاستوديو. هكذا يشعر القارئ خلال تلك اللحظات من الكوميكس أن هذا مهران فعلًا، لكن ملامحه قد تغيّرت، إذ عاد للماضي في خياله. “اللحظات دي في الرواية مثيرة لأي رسام عشان يجرّب أساليب رسم سوريالية”، يحكي قبطان عما ألهمه في رسم هذه الكادرات فيُشير لمدرسة ميلر وتقنيات الظل والنور التي ساعدته على عكس الحالة النفسية لمهران وضياعه بين الخير والشر والخوف من الموت والرغبة في الانتقام.
التروس تدور أسرع فأسرع. إذ بدأ ميجو وقبطان في قصاصات “الديكوباج”، أي قصقصة السيناريو الأدبي من لغة الكلمة إلى نص بصري لغته الصورة. تلك القصاصات التي تسبق رسم الاسكتش، تعتبر الخريطة البصرية الكاملة للرواية التي سيتبعها الرسامين لاحقًا خلال رسم الاسكتشات. “الديكوباج حدد لنا زاوية اللقطة وحجم الكادر وإيقاع حركة الشخصيات وساعدنا في الانتقال السلس من مشهد لآخر”، كما يرى قبطان أن صناعة الكوميكس قريبة لصناعة السينما فهذه الأداة يستخدمها الرسام في السرد القصصي البصري كما السينمائي في الدراما المرئية.
وحين انتهيا من قصاصات الكادرات، بدآ الرسامين سويًا في الاسكتشات، وكلما انهيا رسم صفحة كانا يُرسلانها إلى الفنان، حسين محمد، ليبدأ مرحلة التحبير، والتي اشتركا معه فيها.
أخيرًا وليس آخرًا. جاءت مرحلة الخطوط والبالونات والكتابة على الرسومات. أدتها الفنانة مها عيداروس، حسب صفحة ترويسة الكوميكس المتضمنة أسماء وأدوار فناني الاستوديو في صناعة الرواية، ثم صممت غلاف الرواية رسامة الجرافيك، ريهام السيد. ثم جاء دور الحاضر الغائب بعد اكتمال مراحل الكوميكس. إذ صمم عنوان الرواية الملوّن بالأصفر الفنان، علي جلال، قبل وفاته. “من سنين طويلة اشتغل علي جلال على اللص والكلاب في مشروع تخرّجه من فنون جميلة. كان عارف أني برسم أولاد حارتنا، فكنّا بنشارك بعض الرسوم، واتمنّينا نرسمها سوا”، قال لي ميجو إن جلال قبل رحيله أرسل له رسمة العنوان، وحين سنحت الفرصة استخدامها لتكون إهداءً لروح صديقه. وقد تحققت أمنية جلال متأخرة للأسف؛ بعد وفاته.
آخر صفحة في الكوميكس احتوت “خريطة نجيب محفوظ”، التي أعدّها وصممها جوجو ومحمد سرساوي. “هي مستوحاة من مواد بصرية حصلنا عليها من الدكتور حسين حمودة [الناقد وأستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة] والدكتورة رضوى زكي [كاتبة وباحثة متخصصة في الحضارة والآثار الإسلامية وتاريخ العمارة المصرية]، هما ساعدونا في معرفة الأماكن اللي يقصدها محفوظ في رواياته”، يشير ميجو إلى أن تلك الخريطة مجتزأة من خريطة أكبر -ما يزال فناني الاستوديو يبنيها- ستنشر أجزائها على مدار سلسلة الروايات الكوميكس المنتظرة. سترتبط الخرائط بـ”QR” عبر تطبيق، يحتوي أيقونات عديدة سترمز للروايات الكوميكس والأماكن التي دارت فيها جغرافيًا. اللافت أن غالبية شخصيات روايات محفوظ كانت تعيش في القاهرة التاريخية، كحي السيدة زينب والحسين وميدان عابدين والحلمية وغيرها من المناطق، مما يعني تمكين القارئ من تخيل تلك الأحياء فعلًا، وربما تحديد جغرافيات الروايات. غير أن بعض الأماكن العمرانية المصرية، سواء التراثية أو غيرها، اندثرت أو تعرّض بعضها الآخر للإزالة. فلربما يصبح الكوميكس أملًا أخيرًا لبناء ذاكرة بصرية لأجيال من القراء قد لا تتمكن أبدًا من رؤية عوالم محفوظ الساحرة التي سرد عنها.
نوصي للقراءة: كيف تعيد الأزمات المالية وحرب غزة تشكيل مشهد الترفيه في مصر؟
“أولاد حارتنا” أم “ميرامار” أقرب؟
ينوي فريق الاستوديو اختيار رواية ملحمية لكل عام، ليتم تناولها على مدار أجزاء بجانب أعمال أدبية أخرى لمحفوظ أحجامها أقل. كما سيُشارك أكثر من رسام ومؤلف على تحويل مجموعات الأديب القصصية القصيرة إلى مجموعات كوميكس قصيرة. مديرة مكتبة ديوان وعضو مجلس إدارة الدار، ليال الرستم، قالت لي إن فريق الاستوديو ينهي الرتوش الأخيرة من رواية “ميرامار” الكوميكس، مضيفة أن جزء أساسي من تقديم محفوظ في هوية بصرية معاصرة هو ترجمة الكوميكس للغة الإنجليزية. “حاليا نعمل على ترجمة اللص والكلاب، وقريبًا ستصدر كل رواية تصويرية ومعها نسختها المترجمة”.
قول الرستم إن معالجة الروايات الثلاثة المصورة مختلف تمام الاختلاف من حيث أسلوب السرد وأبعاد الشخصيات والفترات الزمنية للروايات وكذلك الكتّاب والرسامين، يعني أننا سنُطالع أساليب كتابة ورسوم جديدة. كما سرد محفوظ “ميرامار” بأسلوب قصصي متعدد الأصوات يفسر الواقع من جهات كثيرة. فالرواية تدور في الستينيات بالإسكندرية داخل بنسيون سُمي على اسم الرواية، بين زهرة الفتاة الجميلة التي تخلّت عن قريتها وبين سكان البنسيون، حيث سينشأ الحب والتوتر والغيرة بين الأبطال، الذين يُعيدون سرد الحبكة بمنظور مقيم مختلف كل مرة.
“الكتابة بعيدة تمامًا عن الفيلم [ميرامار للمخرج كمال الشيخ عام 1969]”، يحكي الكاتب محمد سرساوي عن اعتماده على متن رواية “ميرامار” (1967) خلال كتابته سيناريو الكوميكس. إذ بدأ بتخيل أبطال الرواية أثناء قراءتها عدة مرات: زهرة، عامر وجدي، حسني علّام، منصور باهي، سرحان البحيري. كما قال بعض تفاصيل الرواية الكوميكس: “عدّلت شوية في فصل منصور باهي، لأنه في الرواية شخصية مذيع إعلامي، فأنا خلّيته يحكي من منظوره عن اللي بيحصل وكأنه بيكلم الناس قصاد ميكروفون الراديو. وفي كلمة حسني علام كان بيقولها في الفيلم “يا فريكيكو”، أنا حسيت أن نجيب محفوظ تعامل مع فريكيكو كشخصية وهمية عندها أفكار في نص الرواية، لكن الفيلم تعامل مع فريكيكو كأنها نظرية الفريكيكو حتى تلاقي حسني علام بيحط أسلوب نداء، فأنا حوّلت الفريكيكو لشخصية جوّا الفصل”. أضفى سرساوي بعض الفانتازيا على شخصيات الرواية كما حرّر بعضها الآخر من ثانويتها ضمن سيناريو الكوميكس الذي كتبه في حوالي 126 صفحة، بينما كان إسماعيل يحرّر له نص السيناريو.
حين ينتهي سرساوي من ملاحظات إسماعيل التحريرية، يُرسل ما أُنجز للرسامة، سلمى زكريا. لتبدأ دورة تروس الكوميكس مرة جديدة. إذ قرأت الرسامة كادرات السيناريو مرة بعد أخرى، بينما يُرسم في بالها شخصيات الرواية. كذلك صممت الشخصيات أولًا، ثم بدأت ترتب قصاصات الكادرات أمامها وكأنها رسوم على ورق. مرحلة “الديكوباج” استغرقت وقتًا أطول نسبيًا مع زكريا، فإلى جانب أنها أول جرافيك نوفل ترسمها، فهذه الرواية لأديب يقرأه كل الناس، مما وتّرها واضطرها لبدء رسم الاسكتشات والتحبير قبل الانتهاء من قصقصة كل السيناريو. “ميرامار، مش زي مارفل فيها أكشن، [بل] هي رواية حوارية، فعشان تُخرِّج قصة مصورة مش مملة عبارة عن كاركتير بتتكلم مع بعض بس، دي حاجة صعبة شوية”، قالت زكريا.
توتر الرسامة خلال رسمّها اسكتشات “ميرامار” على خمسة فصول، دفعها لتغيير بعض الرسوم خلال مرحلة التحبير. بينما تواتر مراحل الكوميكس خلال إخراج هذه الرواية بالأبيض والأسود، دفع قبطان لمساعدة زكريا في بعض رسوم “سرحان البحيري” في فصل الرواية الرابع. “الاسكتشات اللي رسمها جمال قبطان حطّت روح وطابع مختلفين على الرواية”، وكما وصفت زكريا تلك الرسومات بالـ”خطيرة”، استلهمت ديكورات البنسيون والملابس وتسريحات شعر الأبطال من مواد بصرية عامة تعود لفترة الستينيات. وما تزال روايات محفوظ تُلهم المبدعين، كل على طريقته، على شارع الفن.